تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحالة الحرجة للمدعو «ك»:رحلة البحث عن الذات في ضوء المعاناة والمرض
نشر في أخبار السيارات يوم 12 - 05 - 2018

في تقديرنا ثمة عديد من المقومات الجمالية التي تصنع فرادة رواية الحالة الحرجة للمدعو »ك«، للكاتب السعودي عزيز محمد، لا تخطئها العين الخبيرة والقلب العارف بالروايات من بداية هذه الرواية وربما من صفحاتها الأولي، وحين تتحدد بعض السمات الجمالية لأي نص روائي مع بدايته ودون الاكتمال فإن الأمر قد يتعلق بما يمكن تسميته بالنسيج السردي وخصوصيته، وهو ما يقترب بدرجة ما من مفهوم العيّنة إن جاز استخدام هذا المفهوم. ولنفرض مثلا أن هذه العينة أو هذه البداية التي يمكن الحكم عبرها علي فرادة هذا السرد قد تكون في حدود عشرين صفحة مثلا أو أقل أو أكثر قليلا، فإن هذا يرتبط في تقديرنا بلغة هذا السرد وإيقاعه أو (الريتم) والوتيرة السردية وطابع الخطاب في صنع نقلاته وتحولاته، وقد ترتبط هذه الخصوصية كذلك بدرجة دفء الصوت السردي وقدر حميميته. هذه كلها ليست مقولات مطلقة بل لها معيارها المحدد الذي يمكن الاعتماد عليه في الفحص والتحليل. ثم تنسحب هذه السمات التي يتم اكتشافها في العينة علي بقية خطاب الرواية، وتتأكد بعض القيم الجمالية الأخري التي تتحدد عبر مجمل بنية خطاب الرواية واكتمال حيلها السردية وقدراتها أو الأنساق العامة الفاعلة بشكل كامل وتمتد من أول الرواية حتي آخرها بمثابة الروح فيها. والحقيقة إن لغة هذه الرواية لغة خاصة إلي أبعد درجة، فثمة ما يمكن تسميته بصراع اللغة مع المشاعر الموغلة في المراوغة والعمق، فهي لغة تتسلل برقة كبيرة حتي تتمكن من اقتناص أحوال شعورية مهملة أو تبدو غير ذات قيمة، ترتبط هذه المشاعر بانفعالات البطل مريض السرطان وما يسكن الأفعال الهينة لمن يحيطون به من أهل أو أصحاب اختصاص في علاجه من أطباء وممرضين أو مرضي آخرين. والحقيقة أن كلمة صراع هنا في حق اللغة غير دقيقة لأنه لا أثر هناك لأي صخب للغة تصارع، فهذه اللغة تنتصر وتقتنص هذه المشاعر الهينة أو تلك التي تبدو عابرة بقدر كبير جدا من السلاسة وتنقلها بدرجة عالية من التدفق والتلقائية. أحيانا أتصور أنه لا توجد أدني تعديلات قد أجريت علي لغة هذه الرواية أو أدني محاولة لتدخل لاحق لضبط التراكيب أو التعبيرات أو المفردات، فهي تبدو في ظني نابعة وفق تدفق مباشر من القلب أو من تلك الذات المشحونة بهذه الحال التي تجسدها الرواية. ثمة ذات ساردة تدرك من العالم زاوية رؤية خاصة جدا ذات تنصت علي العالم والأشياء وعلي الشخصيات وتشرع كافة حواسها ومداركها ومشاعرها لهذا العالم وتنقل عبر كل هفوة مما تدرك من هذا العالم. من الطريف الذي ربما لن يلحظه إلا قليلون في هذه الرواية أنها لم تكن بحاجة علي الإطلاق لتسمية أي من الشخصيات برغم كثرتها، ومن هنا يكون ثمة نسق مغاير في تحديد الشخصيات وترتيبها وتفصيل مواقعها عبر درجة القرابة وعبر خصوصية ملامح كل شخصية سواء الداخلية أو الخارجية أو عبر الفعل والوظيفة أو باختصار شديد تتحدد كل شخصية عبر إدراك البطل لها فالرجل الذي يجلس إلي جانبه هو الشيخ المتماهي تماما مع شاشة الكمبيوتر، والمدير هو لغد الديك، وأحد زملاء العمل هو زجاجة العطر، لأنه يبالغ في استخدام العطور، وهكذا في بقية الشخصيات. وهكذا نجد أن علاقات العمل والزملاء فيه لم تكن هناك صعوبة علي الإطلاق في تحديد الشخصيات فيها عبر هذا الحس المرهف بكل زميل والاستناد لهذا التفاوت الكبير بين البشر في السلوك ورد الفعل وكيفية التفاعل مع السارد الرئيس أو صاحب الصوت السردي (ك) أو ما يمكن تسميته في هذه الرواية بالبطل بالفعل دون خلل أو التباس بين مصطلح البطولة بالمنظور الكلاسيكي والمنظور الحداثي الذي لا يزيد عن كونه الشخصية صاحبة المساحة الأكبر في فضاء النص الروائي، لأن معني البطولة الكلاسيكي وهو المخلص حاضر في هذه الرواية بشكل ما لأننا في النهاية أمام شخصية خاضت معركة وخرجت منها قوية مهما كان قدر ما لحق بها من آثار وطعنات في هذه المعركة. ما أريد قوله فيما يخص التسمية وإلغائها تماما أن هذا تم بناء علي استناد فني أكثر دقة وهو حاصل الفوارق بين هذه الشخصيات في إدراك الذات الساردة لها وما نتج عنها جميعا من فوارق دقيقة للغاية صنعت التمايز بين الشخصيات دون حاجة للتسمية. في ظني كذلك أن إفلات الشخصيات من التسمية بأنماطها التقليدية مما يسهم في تقريبها من المتلقي ويجعله قابلا للتماهي معها بدرجة أسرع لأنها تبدو كما لو كانت وعاء إنسانيا مفتوحا علي الذات المتلقية لغياب الاسم، فيمكننا تصور الاسم علي أنه يؤدي دورا إغلاقيا للشخصية فيصنع نوعا من العزلة بينها وبين القارئ الذي يأخذ اسما مغايرا، وحتي لو تطابق اسمه مع البطل فاحتمال تطابق بقية الأسماء أمر غير وارد وصعب، فلنتخيل مثلا لو أن هذه الشخصيات اتخذت أسماء وفق نمط التسمية في المجتمع السعودي أو الخليجي، فهد، راشد، سعود، إلخ، فإن هذا يصنع لها قدرا من التأطير الثقافي الذي يحدّ من تفاعل المتلقي المغربي أو المصري أو التونسي أو السوداني بدرجة ما، أما الإطلاق التام علي هذا النحو فإنه يسهم في تفاعل أكبر وتماه يكاد يكون تاما بين القارئ والعوالم التي تطرحها الرواية وبخاصة الشخصيات طبعا. ولعل هذا الإطلاق للشخصيات وإفلاتها من تحديد التسمية يرتبط بنسق آخر وهو الاعتماد علي اللغة العربية الفصحي في الحوار وتجاوز العامية تماما لتحقيق الهدف ذاته، وهو ما أحسب أنه سيكون ذا جدوي كبيرة في حال ترجمة الرواية إلي لغة أخري. واعتمدت الرواية النسق ذاته من إطلاق المكان وتحريره من التسمية فلا نجد اسما للمدينة أو تحديدا للعاصمة أكثر من كونها عاصمة دون اسم، وكلها أمور تسهم في جعل الحال الإنسانية التي تقاربها الرواية هي القيمة المركزية من الرواية دون أدني تشويش أو تفتيت لها من أي قيم دلالية أخري، كأن يكون هناك قصد لتحديد هوية ثقافية معينة أو نمط معيشي بعينه ويجعل تجربة المرض بالسرطان ساكنة في هذا الإطار بعينه. ركزت الرواية علي داخل الشخصيات وحسب، وبدت كلها في رصد الرواية أو زاوية رؤية الرواية لهذه الشخصيات في إطار من دورانها في فلك حال مرض السرطان وتداعيات هذا المرض علي سلوكها وتصرفاتها سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وكل يختلف بحسب موقعه ودرجة قربه من هذه البؤرة التي يتمركز فيها المرض عند الشخصية الرئيسة (ك).
لعل من أبرز القيم الجمالية للرواية هو ما ينتج عن الحس الساخر فيها والقدرة علي التعامل مع موضوع السرطان بهذه اللغة الساخرة المضمرة في نفس (ك) بحيث يتحصن بها ويستخدمها درعا وحصنا نفسيا له تغلفه السخرية وتعزله عن العالم وتكون تعويضا عن غياب القدرة علي التواصل الاجتماعي المعلن مع الآخر. فنجد أن (ك) يغوص في علاقته مع المرأة بشكل خاص حين يتعرض لعلاقته بأخته وصراعه معها وقدر ما كان بينهما من النفور وغياب الانسجام أو ما قد يصل إلي الكراهية أحيانا، حتي يصل إلي الدرجة التي يرفض فيها اقتراح الأخت بأن تتبرع له بخلايا جذعية لزرع النخاع مثلا متصورا أن خلاياها قد تكون أشد هجوما علي خلاياه من السرطان، ولاقتناعه قبل ذلك بأنها لا تتبرع له إلا لتنتهي من أزمة مرضه ومخاطر هذه الأزمة التي قد تفسد ترتيباتها لزواج أخيهما الآخر وترتيباتها للأسرة كلها وفق تصورها وتطلعاتها هي. الحس الساخر في الرواية يظهر في أشد مشاهد الرواية قتامة وتراجيدية، مثل تلك اللحظة التي يخبره فيها الطبيب باكتشاف المرض واقتراحه عليه بأن يجرب العلاج الكيميائي في أسرع وقت، ولا يكاد يغيب هذا الحس الساخر حتي ليبدو روحا عامة تمتد في الرواية من أولها لآخرها، وهو ما يجعل كابوسية المرض أكثر تخففا وتبدو مقبولة في هذا الإطار الفني الذي يجعل القراءة محتملة ويمكن التعايش مع كم الألم الناتج عن المرض.
ومن القيم الجمالية البارزة كذلك أن الرواية تأخذ شكل الرحلة، وهو أمر يجعل القراءة فيها قدر من الحركة الموازية لحركة الرحّال أو الذات المرتحلة أو المستكشفة. ولكونها رحلة بحث عن العلاج فهي دائما مشمولة بنوع من التعاطف من القارئ ومفعمة بالأمل والرغبة الإنسانية التي لا تنتهي في إيجاد المرسي أو المستقر المتمثل في العلاج وربما الموت. وهذه الرحلة ليست مفرغة من الداخل أو تأتي الحركة فيها بين نقطتين متباعدتين، بل بها عدد من المحطات الداخلية المهمة، فثمة مرحلة أولي للتشكيك في حقيقة السرطان وهي مرحلة التحاليل، وبعدها مرحلة الكيماوي المقسمة داخليا وفق جدول زمني وكل مرحلة منها لها تحولاتها المتراوحة بين الخطورة والتحسن أو بين الإيجابي والسلبي وهي حركة دائما متراوحة بين نقيضين، بين الشفاء أو تردي حالة (ك) وانتهائه. وبعد مرحلة الكيماوي أو فشلها أو ارتباطها ببعض التداعيات والآثار الجانبية ثمة مرحلة العلاج الإشعاعي، وبعد الإشعاعي هناك البحث خارج الدولة عن حلول أخري، فكأن هذه الرحلة مفتوحة علي مطلق رغبة الإنسان في الحياة وحرصه عليها أو صراع البقاء الذي يبدو مثل حرب ممتدة مع المرض المجهول مهما بلغت الإحاطة بألمه أو أعراضه. فكأن الرواية اتخذت في ترتيب سردها ومحتواها أو استمدت ملامح بنيتها من المرض وهو ما يجعل الرواية علي قدر كبير من العفوية والابتعاد عن الافتعال فلا حاجة لخلق صراع أو حبكات لأن الصراع موجود والتحولات وانقسام الصراع إلي جولات موجود كذلك بشكل طبيعي في المرض أو هو جزء من طبيعة الصراع مع المرض. فكأن كل ما يأتي هو محض نقل مباشر عن الواقع أو محض تدوين لأحداث هذا الصراع أو رحلة البحث عن العلاج والنجاة من الموت، فلا يبدو هناك أثر لمتخيل سردي بارز في الخطاب، والحقيقة أن العمل في النهاية هو محض نتاج مخيلة أدبية وصنعة خالصة لكن لا أثر ظاهرا لهذه الصنعة في البنية النهائية أو الناتج السردي النهائي وهو في تقديرنا أهم ما قد يطمح إليه السرد الروائي أن يكون علي أكبر قدر من التماهي التام مع الواقع والقدرة علي إيهام القارئ بحقيقة هذا العالم برغم أنه ناتج تخييل واختراع محض.
من المهم كذلك التأكيد علي أن الرواية إلي جانب هذه الرحلة المثيرة للبحث عن العلاج أو الخلاص فيها قدر كبير من الثراء الدلالي والإيحاء المكثف والسريع بجملة من المعاني المهمة، ومنها علي سبيل التمثيل ما يرتبط بالعمل وما يرمي إليه النص من التسخير الدائم الذي يخضع له الإنسان وما يجعل الإنسان مسلوبا أو أسيرا للقواعد والتقاليد بشكل دائم وإن بدون وعي، فكأنه سجين للنظم والقوانين ولا يجد ذاته، فقد طرحت الرواية نموذجا إنسانيا يبحث عن السعادة باستمرار ويبحث عن إيجاد ذاته وفهمها أو استيعاب وجودها دون جدوي، حتي يصطدم بالمرض وهنا يكون الدرس الأكبر وتتحقق الذات أو تكتمل بمطلق الصراع أو المقاومة، فكأن فعل المقاومة بشكل مطلق هو ما يحقق هذه الذات ويكشف عن معناها الحقيقي ويكشف عن قدر كبير من المتعة، ولهذا فإن شخصية (ك) تخرج من حال الصراع علي قدر كبير من الجلاء والبصيرة والوعي بالذات لم تكن تتحقق بغير المرض أو لم تكن حاصلة قبله فكأن الرحلة هي رحلة بحث عن الذات واستكشافها ورحلة تبصر ورؤية لكل ما حقيقي في هذا العالم والمصارحة بهذه الحقائق التي تكشفها زاوية الرؤية المرتبطة بالمرض والمرهونة به. فالعمل/ الوظيفة له دلالته/ها، ورحلة العلاج هي رحلة بحث عن الذات ورحلة لمحاولة الخلاص واكتشاف معني الحياة. تبدو الحياة وفق هذا النسق من البحث عن معني الذات صراعا ممتدا ليس مع المرض وحسب وإنما مع المجتمع بكل مظاهره، صراع مع الأب والأم والأخت والمرأة أو الفتاة التي لا تقترب من الرجل إلا بفرض مزيد من القيود والالتزامات كأن يكون أكثر طلاقة وأكثر تغزلا وتلطفا وإلا يتم عقابه بالابتعاد والحرمان منها. صراع مع الأخت والأخ بنمطيته ورغبته في مجرد أن يكون صاحب أسرة عادية ويكرر دون اختلاف رحلة الأب والجد. في بعض الأحيان يبدو المرض ملاذا لهذا البطل الباحث عن العزلة والتحصن بقوقعته وأن يبقي ساكنا بها محاولا الحفاظ علي فطرته أو براءته، فهو يبدو علي قدر كبير من العفوية والسذاجة وأقرب لنموذج الإنسان الخام إن جاز التعبير، وقد لا يختلف التقوقع بالمرض عن الانغلاق داخل الكتب والانكفاء علي مزيد من قراءة الروايات والأشعار من كل العالم، وربما لهذا صرحت الرواية علي لسان (ك) بأن القراءة والسرطان شيء واحد تقريبا أو يتشابهان إلي حد بعيد، وهما بالفعل كذلك في هذا الجانب من حصار الإنسان وعزله عن الواقع، ولهذا كانت القراءة سببا لصراعه مع أمه التي لا تملّ من مطالبته بالخروج إلي الحياة وأن يعيش كما يعيش أقرانه حتي وإن فعل ما يعده المجتمع لونا من الفساد أو الانحلال علي أن هذه القيم الدلالية كلها تأتي في إطار من الهمس وبأسلوب ساخر ودون مباشرة أو تصريح فجّ أو تسلط في طرح المعني، بل هي وجهة نظره ورؤيته للأشياء ولهذا الوجود من حوله، ومن هنا يأتي رد فعل المتلقي الذي قد يختلف أحيانا مع فهم البطل وتصوراته ولكن لا يملك أن يرفض هذه التصورات بل يتعاطف معها ومعه برغم اختلافه، بل كثيرا ما يتبني القارئ وجهة نظر البطل ويتطابق معه شعوريا. الرواية يمكن قراءتها وفق نمط رمزي فهي ليست رحلة ك للعلاج أو البحث عن ذاته بل هي قصة معاناة الإنسان بشكل عام، وأن المسألة ليست بعنف المرض بل بعنف الألم، فكل إنسان لابد وأن يمر بمثل هذه التجربة من الألم الشديد والبحث عن ذاته أو محاولة استكشاف معني الحياة في ضوء الألم وكأنه أصبح مرآة للذات يعيد في ضوء المعاناة طرح أسئلته ومواقفه، ويحاول الإجابة بشكل مختلف بناء علي تغير تغير زاوية الرؤية ومفارقة الموضع الاعتيادي أو الهادي إلي زاوية الألم والصخب والحركة في كل اتجاه من أجل النجاة ولا شك أنها زاوية كاشفة للكثير. ثمة كذلك قدر من التوفيق الكبير في وظيفة ك المرتبطة بالحاسبات ونظم المعلومات وما قد تتعرض له الشركات من اختراقات وما تحتاج إليه من الحماية من الفيروسات أو الهجوم والاستهداف من أنظمة أخري، حتي لتبدو رحلة الشركة للتحصن من هذه الأخطار أقرب إلي ذات موازية للإنسان المستهدف بالأمراض والتسرطن. وقد كان هناك كذلك قدر كبير من التوفيق حين تجاهل خطاب الرواية مصير الشركة والعمل بعد أن غادرها (ك) حتي لا يكون هناك قدر من الافتعال في مدّ هذين الخطين والإصرار علي توازيهما حتي نهاية السرد، فاتخذ مساحته الطبيعية أو العادية حتي إن زملاءه في العمل حين زاروه لم يتحدث أحد منهم في مصير الشركة وما تعرضت له من هجوم أو فيروسات لتحافظ الرواية علي أعلي قدر من العفوية والابتعاد عن الافتعال واصطناع الخطوط والفواعل السردية لتطويل الرواية، وربما كان هذا هو أحد عوامل التكثيف وغياب الترهل فيها.
الكتاب : الحالة الحرجة للمدعو «ك»
المؤلف : عزيز محمد
الناشر : دار التنوير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.