«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاموس التخلف
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 03 - 2012

يعد تخلف العرب في الوقت الحاضر من الحقائق القليلة التي أجمع عليها العرب المعاصرون.
وأنا لا أتطرق في هذا المقام إلي تشخيص أسباب التخلف، كما أنني أرفع عن كاهلي عبء البحث عن سبل التقدم.
ويوحي العنوان بأن المقالات سوف ترصد مظاهر التخلف في ثقافتنا المعاصرة. والأمر بالفعل قريب من ذلك. ولكنني أود التنويه فقط إلي أن هناك معني شائعاً لما يسمي مظاهر التخلف، وهو المعني الذي عكف علي إبرازه باحثو علم الاجتماع والأنثروبولوچيا من خلال كشفهم لمجموعة من المعتقدات التي ما تزال فاعلة في توجيه السلوك، مثل الاعتقاد في الحسد والسحر وتسخير الجان والركون إلي التواكل تحت ستار الإيمان بالقضاء والقدر وغيرها من المعتقدات السحرية التي كان برتراند رسل يطلق عليها "نفايات فكرية" intellectual Rubish ، ويقصد بها مجموعة من الإيماءات والتعبيرات المحفوظة التي يؤديها أو ينطق بها الإنجليز المعاصرون دون أن يكونوا علي معرفة بالاعتقاد السحري القديم الذي تنبع منه. هذه المعتقدات في ثقافتنا العربية ليست مجرد نفايات فكرية أو حتي رواسب من الماضي بل هي الخبز اليومي للثقافة العربية في زمنها الحاضر وربما أيضاً في مستقبلها القريب.
كل هذه المظاهر درسها علماء الاجتماع في بلادنا العربية، واهتموا بقياس آثارها علي السلوك بين الريف والحضر، وحددوا من خلال البحث الإحصائي درجة شيوعها بين قطاعات معينة من السكان مثل الفلاحين أو التجار أو أساتذة الجامعات. وبالإضافة إلي علم الاجتماع يعد الأدب العربي الحديث مصدراً مهماً يلقي أضواء تكشف عما يعتمل في أعماق النفس من جراء تجاور القديم والحديث أو من جراء تصادمهما الذي لا مفر منه.
كان يجدر بي أن أشير هذه الإشارة لأبين أن هذا الجانب يحظي بمن يهتمون به ويقدمون فيه دراسات مهمة ومعروفة.
ولن أتحدث هنا عن الكلمات الجارية التي اقترنت بالتخلف مثل: الأخلاق والشرف والطاعة واحترام الأعراف والعيب. وليست المشكلة في الكلمات ذاتها ولكن في السياق الذي تستخدم فيه والذي يضعها كوابح في وجه كل محاولات التجديد والتغيير وكل جرأة في التعبير وكل مغامرات السلوك.
هذه المصطلحات التقليدية هي من المفردات الخاصة بكل خطاب محافظ في جميع الثقافات وليس في ثقافتنا العربية وحدها. وبالتالي لا حاجة بنا إلي أن نؤكد من جديد علي دورها في تكريس التخلف.
والآن وبعد أن استبعدنا ما لن نهتم به، لم يبق إلا أن نوضح ماذا نعني بقاموس التخلف.
تحاول المقالات التي ستقرأونها تعقب خطاب ثقافي سائد يهيمن علي ثقافتنا المعاصرة في ظروفها الحالية. وهذا الخطاب يقدم نفسه باعتباره خطاباً ينتجه مثقفون واعون بمشكلات العصر مدركون لاتجاهاته الفكرية، خبيرون في كشف طرق الهيمنة ومنتجون حصيفون لوصفات التقدم. في هذا الخطاب العصري يتم تداول مجموعة من المصطلحات التي تتكرر بصورة متواترة ويضفي عليها منتجو الخطاب قيمة تسمو بها إلي مستوي الحقائق العليا. وهذه المصطلحات ليست وقفاً علي قطاع بعينه، بل نستمع إليها في التليفزيون ونقرؤها في الصحف. ويصدر المفكرون "المستنيرون" عنها المجلدات الضخمة. كل هذا الجهد جعلها تنتشر في ثقافتنا انتشار البداهات التي يسلم بها الجميع.
الأمر إذن لا يتعلق بأيديولوچيا ولا بمجموعة من الأفكار والحجج نقوم بنقدها وتفنيدها ولكنه يتعلق بألفاظ نسعي إلي رصدها ثم إبراز السياق الذي تستخدم فيه في ثقافتنا المعاصرة وبعد ذلك نبرز الصلة بينها وبين التخلف الفكري الرابض علي عقولنا.
ويمكن لنا في النهاية أن نجمل الملامح الخاصة بالمصطلحات التي سنتعرض لها:
1 أنها ليست ألفاظا مستخدمة في لغة الحياة اليومية ولكنها من مفردات الخطاب الثقافي السائد والذي يقدم نفسه بوصفه الطريق السليم لحداثتنا المأمولة.
2 أنها ألفاظ لا تأتي عفو الخاطر أو تتسلل إلي الخطاب دون وعي من أصحابها بل هي مصطلحات اختيرت بوعي لتكوين منظومة لغوية هي في حقيقة الأمر ترسانة أسلحة لمقاومة التقدم.
3 أنها بوصفها ألفاظاً، لا مشكلة فيها في حد ذاتها ولكنها تعد أمارات أو علامات علي أيديولوچيا كامنة معادية للحداثة.
وأخيراً ربما يجد القارئ أن لديه من الأمثلة ما هو أوضح بياناً وأكثر دلالة علي تأكيد وجهة نظري وربما يجد في تفسيري الكثير من التحامل والمغالاة. وفي الحالتين لا يسعني إلا أن أشكره علي تفاعله الجاد مع ما كتبته بنية صادقة.النقد البناء
النقد البناء تعبير يستخدم في الخطاب العربي المعاصر ليسلب من النقد كل فاعلية ويجعله متواطئاً مع استمرار التخلف الراهن.
النقد أول إشارات الانطلاق لتغيير الواقع المتخلف، ولهذا السبب ينبغي له أن يكون جذرياً يصل إلي الأسس التي يقام عليها بناء الواقع بأسره. ولهذا السبب أيضاً ينبغي له أن يكون شاملاً يطول كل مناحي الحياة. وهذا النقد المطلوب يطلق عليه في العادة اسم النقد الهدام. ففي المحافل وعلي صفحات الجرائد وفي أجهزة الإعلام تصب اللعنات علي النقد الهدام ويتهم أصحابه في العادة بتهم ثلاث: الجحود، فالناقد نسي فضل الدولة أو الحكومة أو أساتذته فيما وصل إليه. وثانيها هو التشاؤم، حيث إن الناقد الكئيب والمكتئب يريد أن ينقل نظرته السوداوية إلي المحيطين به بالرغم من أنهم مزودين بالأمل وكلهم إقبال علي الحياة. والتهمة الثالثة هي الاستسهال، حيث إن الناقد لا يريد أن يكلف نفسه مشقة الفحص والتمحيص والدراسة الموضوعية ويقرر هدم كل شيء.
في مواجهة النقد الهدام يرفع كبار المسئولين شعار النقد البناء. ولعلنا نلاحظ أن هذه الكلمة يكثر استخدامها لدي ذوي المناصب الكبيرة وممثلي السلطة. فبعد أن يعلن أحد هؤلاء الكبار أنه طوال حياته كان ديموقراطياً لا يضيق بالرأي الآخر وأنه واسع الأفق يدرك أهمية النقد في إحداث التطور لا ينسي أن يؤكد أنه يقصد النقد البناء وليس النقد الهدام أو التجريح.
ولو حاولنا تحليل خطابهم لنقف علي سمات هذا النقد البناء التي تسمح لنا بتمييزه عن النقد الهدام لوجدنا أنهم يميزونه بسمتين رئيسيتين: أولهما أنه نقد موضوعي لا يذكر السلبيات وحدها وإنما يذكر الإيجابيات أيضاً، وثانيهما أنه لا يكتفي فقط بإبراز المشاكل ولكن يقدم الحلول أيضاً. وهاتان السمتان كفيلتان بأن تنزعا من النقد كل فاعلية. فبالنسبة للسمة الأولي التي تفرض ضرورة ذكر الإيجابيات تفترض أن الناقد هو كمن يصحح أوداق إجابات الطلاب في الامتحان، أو هو عضو لجنة تحكيم يمر عليه المتسابقون أو أعمالهم وعليه أن يتسم إزاءهم بالإنصاف. إن النقد يختلف عن التقييم. والناقد إنسان يعاني أو يتحدث باسم من يعانون وليس دوره علي الإطلاق ذكر الإيجابيات. فهذه الإيجابيات، إن كانت موجودة، ستجد من يتحمسون لعرضها والإشادة بها والمبالغة فيها. وحتي وإن لم تكن موجودة سوف يكون هناك من يختلقونها اختلاقاً بدافع النفاق والوصولية أو خداعاً لتكريس شرعية ما هو قائم. ولا تفتقر الإيجابيات علي الإطلاق إلي جملة أو جملتين يقولهما الناقد في آخر خطابه أو مقاله بزعم الموضوعية، بل علي العكس سوف يكون لذكر هذه الإيجابيات دور سلبيً لجدوي النقد.
فلو أخذنا علي سبيل المثال كتاب »مقال في الحكومة المدنية« للفيلسوف الإنجليزي جون لوك وهو الكتاب الذي يحمل علي الملوك الذين يقيمون شرعية حكمهم للشعوب علي أساس الحق الإلهي ويبين مظالمهم ويفند مزاعمهم داعياً إلي ضرورة أن يكون الشعب هو مصدر السلطة، وأن يكون رضاه هو أساس الشرعية. لو افترضنا أنه في نهاية هذا الكتاب ذكر لهؤلاء الملوك بعض الإيجابيات كأن يقول إنهم خلفوا تحفاً معمارية عظيمة مثل القصور والكنائس أو إنهم استطاعوا حماية أوروبا من هجمات الأجناس الأخري. لفقد نقده كل قوته ولما كان له هذا الأثر المعروف في إطلاق مسيرة الديموقراطية والعلمانية في أوروبا.
ومن هنا نأتي لفحص السمة الثانية التي تميز النقد البناء في خطابنا الثقافي وهي ضرورة تقديم الحلول عند الحديث عن المشاكل. وكلنا نعرف أن تقديم الحلول من شأن الخبراء والمختصين. أما النقد فهو مفتوح لكل مواطن. ولا ينبغي للإنسان حتي يشكو من صعوبة المواصلات أن يكون خبيراً في التخطيط العمراني، كما أن ولي الأمر الذي يلاحظ تدهور مستوي التعليم لدي أولاده أو المثقف الذي يريد أن يحذر من سوء عاقبة هذا التدهور التعليمي علي مستقبل البلد ليس ملزماً بالعكوف علي النظريات التربوية لاقتراح حلول يمكن للوزارة تطبيقها. وهكذا فهذه السمة الثانية التي تقتضي تقديم حلول عند إبراز المشاكل هدفها في حقيقة الأمر إسكات الأصوات وسلب حق النقد من المواطنين.
إن المواطنين في المنطقة العربية اليوم لا يطالبون بتحقيق الجنة علي الأرض وليست مطالبهم نابعة من ميل إلي الطمع أو الترف. إنهم فقط ينظرون حولهم إلي باقي البشر ويشعرون أنه قد آن الأوان لتتوفر لهم الحدود الدنيا من حياة إنسانية كريمة تليق بهم كبشر مثلهم مثل الآخرين. ولكن هذا المطلب البسيط يحتاج إلي الكثير والكثير من النقد الهدام.
السياق الثقافي المغاير
هو ختم من اختام الرقابة علي الفكر يسمح لك برفض الأفكار، وخاصة الوجيهة منها، يكفيك فقط الاشارة إلي أنها ذات نشأة أجنبية.
هناك تعبير متداول في الخطاب الثقافي العربي المعاصر يصف مجمل أفكار الحداثة مثل العقلانية والتجريبية في الفلسفة والعلمانية والديموقراطية في السياسة والرمزية والسريالية في الأدب والفن بأنها كلها نشأت في "سياق ثقافي مغاير"، وينسحب هذا الوصف علي كل التيارات والحركات الفكرية المعاصرة. ولكن هل تحمل هذه الإشارة دلالة سلبية أم إيجابية؟ كلنا يعرف بالطبع أن بعض المثقفين العرب يستخدمون تعبير "السياق الثقافي المغاير" بهدف نزع الصلاحية عن الفكرة المذكورة بوصفها فكرة غربية لا تناسب البيئة العربية التي سيقت إليها. وهذا أمر غريب إذ أنك حين تتوجه إلي المتجر لشراء سلعة معينة يؤكد لك التاجر ولو كذباً أنه يقدم لك منتجا غربيا ليوحي لك بمدي الإتقان والفاعلية. وهو ما يعني أن تعيين موطن النشأة يحمل في حالة السلع دلالة إيجابية، فلماذا يحمل، في حالة الأفكار، دلالة سلبية؟
وهنا يحذرك الجميع من الخلط بين السلع والأفكار؛ إذ أنه يمكنك أن تستهلك من السلع ما تشاء ولكن تظل محافظاً علي شخصيتك وهويتك ومقوماتك الثقافية، أما إذا تبنيت الأفكار فقد ضاع منك كل ذلك. هذا فضلاً عن أن إنتاج السلع أمر لا حيلة لنا فيه فهو يستدعي وجود بنية تحتية وتقدم تكنولوچي وعمالة مدربة وهو ما نفتقر إليه، في حين أن إنتاج الأفكار يمكن أن يتم دون وجود شيء من هذا. وحتي لو آليت علي نفسك وقررت الخوض في مجال إنتاج السلع فإنك ستنتج سلعاً عالية التكلفة قليلة الجودة فيصعب عليك حينئذ إقناع المستهلك بالتخلي عن السلعة الأجنبية. أما في مجال الأفكار فإن إقناعه بصلاحية الأفكار المحلية أمر متيسر. ومن هنا تكون الإشارة إلي المصدر الغربي للفكرة أمراً يستوجب النفور منها لا الانجذاب إليها.
ونظراً لأن تعبير "السياق الثقافي المغاير" يكتسي بمسحة من الوجاهة علينا أن نترك هذا التشبيه ونتعامل معه بمزيد من الجدية.
إن مصطلح السياق context يشير إلي مجمل الظروف التاريخية التي تم فيها إنتاج الفكر. ومما لا شك فيه أن الظروف التاريخية التي نعيشها تختلف اختلافاً ملحوظاً عن الظروف التي يمر بها الغرب. ولكن لو أردنا أن نعرف ما هي الأفكار التي نشأت في نفس السياق لوجدنا أن الخطاب الثقافي العربي المعاصر يعين لنا اتجاهات الفقه والتفسير والمذاهب الأدبية والكلامية التي نشأت في ظل الحضارة العربية والإسلامية في العصور الوسطي. ولو طبقنا فكرة السياق علي هذين المصدرين لوجدنا الأمر يتناقض تماماً مع ما يعتقدون. فلو نظرنا إلي ما يجمعنا بأي فيلسوف غربي معاصر مثل كارل بوبر أو هابرماس أو ميشيل فوكو لوجدنا أننا نركب نفس وسائل المواصلات ونشاهد التليفزيون في المساء ونعيش في كنف نمط إنتاجي واحد وتشغلنا قضية الديموقراطية والمواطنة وحرية التعبير. ولو نظرنا إلي ما يجمعنا بالأشاعرة أو ابن رشد أو أبي حنيفة لوجدنا الفارق هائلاً في الظروف التاريخية. وهذا يعني أن تعبير السياق الثقافي المغاير ينطبق بصورة أكبر علي الأفكار الموروثة من عصورنا الوسطي أكثر مما ينطبق علي الأفكار المستجلبة من الغرب. ولكن هذا من وجهة نظري لا علاقة له بقيمة الفكرة في حد ذاتها ولا يعد مبرراً لتفضيل الأفكار الغربية علي الأفكار التراثية.
ولا يعني هذا علي الإطلاق أن تعبير "السياق الثقافي" تعبير فارغ لا طائل من ورائه. ولكي ندرك أهمية أن نتخلي عن الاستخدام الدارج لهذا التعبير في ثقافتنا المعاصرة والذي لا يهدف إلا إلي التنفير من الفكرة ونبذها دون نقد ولا تمحيص. إن تعبير "السياق الثقافي" يرتبط بما يسمي نظريات التلقي وهو مجال علمي يستهدف الكشف عما يحدث للفكرة من تعديلات لكي تتحول إلي فكرة من قومية إلي فكرة عالمية. كما يهدف إلي الكشف عن استراتيچيات دعاة الفكرة المستجلبة في الصراع الفكري الدائر داخل بلادهم. وكان كارل ماركس من أوائل المفكرين الذين أشاروا إلي صلة الفكرة بسياق النشأة حيث نجده في "البيان الشيوعي" يعيب علي الاشتراكيين الألمان أنهم يأخذون نصوص الاشتراكيين الفرنسيين دون وعي منهم بالسياق الذي نشأت فيه فتتحول علي أيديهم إلي نصوص ناطقة بالحقيقة المطلقة. ولا يقصد ماركس بذلك القول بأن الأفكار الاشتراكية الفرنسية عاجزة عن تحريك المياه الراكدة في المجتمع الألماني. كما أشار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو إلي ضرورة الكشف عن آليات إعادة توظيف الفكرة في المجتمع الجديد, فقد استخدم الشباب اليساري المثقف في فرنسا أفكار هيدجر ليحاربوا بها الرجعية الفرنسية التي تتبني أفكار برجسون، في حين استخدم الشباب اليساري في ألمانيا أفكار برجسون ليقاوموا بها رجعية هيدجر.
هذا التناول الذي يرتبط بعلم اجتماع المعرفة لفكرة السياق الثقافي يختلف تمام الاختلاف عن التناول السائد في الخطاب الثقافي العربي والذي يستخدم التعبير ليرفض كل تفاعل مع الفكر الجديد، بل يلقي بتهمة التبعية للغرب علي كل من سعي لتغيير طريقتنا البالية في التفكير.
الثوابت
كلمة قديمة ذات دلالة بسيطة حيث تدل علي ما لا يتحرك ولا يتغير.
وفي المنطق والرياضيات الثابت هو ما يكون محدد القيمة في حين أن المتغير هو ما يقبل قيماً مختلفة، فمثلاً عندما نقول "سقراط" فهذا ثابت لأنه يدل علي شخص بعينه أما عندما نقول: س من الناس أو فلان، فهذا متغير لأنه يمكن أن يشير إلي أي شخص.
ولكن كلمة ثوابت تشيع الآن في الخطاب الثقافي العربي محملة بدلالة مختلفة، إذ تعني مجموعة من المعتقدات والأفكار لا يجوز نقدها أو إنكارها أو حتي إخضاعها للمناقشة. ولكن ما هي هذه المعتقدات؟ ولماذا يتم تحصينها ضد أي نقد؟
لو قمنا بعملية تحليل للمضمون للمواقع التي ترد فيها هذه الكلمة في الخطاب الشائع لاكتشفنا أن هذه الثوابت هي في حقيقة الأمر متغيرات تنطبق علي أفكار متنوعة ومختلفة بحسب السياق. فهذه الثوابت قد تكون دينية مثل الإسلام دين ودولة أو تعدد الزوجات أو الشريعة مصدر القوانين. وقد تكون سياسية مثل الانتماء العربي ورفض التطبيع، أو اقتصادية مثل القطاع العام ودعم السلع الضرورية أو اجتماعية مثل مجانية التعليم.
ورغم تقديرنا للدور المهم الذي تلعبه هذه الأفكار في حياتنا واحترامنا لرغبة المتحمسين لها في تسميتها "ثوابت" إلا إننا لا نفهم لماذا ينبغي ألا تخضع للمناقشة أبداً.
ولو نظرنا إلي تاريخ الفكر لوجدنا أن الباحثين يميلون في العادة إلي تقسيم منظومة العقائد التي تشكل أي دين أو أي مذهب أو إيديولوچيا إلي مجموعة من المعتقدات الأساسية ومجموعة أخري من المعتقدات الثانوية. ففي الأديان تشمل المعتقدات الأساسية وجود الله والوحي والبعث وينبغي أن تكون محل تسليم من المتدينين أما أن البعث يكون للأجساد أم للأرواح فهذا أمر يمكن لهم الاختلاف فيه. وفي الليبرالية تعد الحرية الفردية من العقائد الأساسية أما عدد الأحزاب اللازمة لإقامة نظام سياسي ليبرالي فذلك أمر يقبل الاختلاف، وبالمثل في الماركسية يكون الصراع الطبقي من العقائد الأساسية أما طبيعة التنظيم السياسي المنوط به قيادة الطبقة العاملة فيمكن أن تكون محل خلاف.
ومهما كانت قيمة هذا التصنيف وصلاحيته، فإنه لا يتضمن أي إدانة للنقد والمناقشة في ذاتهما إذ أنه من حق أنصار أي مذهب انتقاد معتقدات المذاهب الأخري الأساسية منها والثانوية. بل في داخل المذهب الواحد لا يكون هناك مفر من التعبير عن المعتقدات الأساسية من خلال ألفاظ اللغة، وهذه الألفاظ محملة بدلالات متنوعة ومتطورة تاريخياً، ولا يوجد أي ضامن لأن يفهم كل البشر عبارة معينة بصورة واحدة. وكل الجدال الذي يملأ تاريخ الثقافة الإسلامية حول العلاقة بين ذات الله وصفاته أو حول تلقي بعض الآيات في القرآن بالمعني الحقيقي أو بالمعني المجازي، ماهو إلا دليل علي استحالة إبعاد أي معتقد عن مجال الجدال والمناقشة.
ولكن لماذا يصر مستخدمو كلمة "الثوابت" علي ضرورة إبعاد هذه الثوابت عن مجال الاختلاف والمناقشة؟ ولماذا يقيمون الدنيا ويطالبون بمعاقبة من يكسر هذا الحظر؟ ألا يعد هذا تسلطاً وقيداً علي حرية الفكر والاعتقاد؟
يبرر حراس "الثوابت" موقفهم بأنهم لا يدافعون عنها باعتبارها معتقدات دينية أو سياسية ولكن لأنها "ثوابت الأمة"، أي أنها الأعمدة التي يقام عليها البناء الاجتماعي والتي من خلالها تتماسك الأمة في وجه الأخطار، وبالتالي يكون دفاعهم عنها هو دفاع عن الأمة ومنع الآخرين من انتقادها بأي وسيلة بمثابة منعهم من العبث بمقومات الأمة ودفعها للتفكك والانهيار.
وفي تصور هؤلاء الحراس أن هذه الرؤية تنطبق علي مجتمعات الأرض قاطبة ومثالهم المفضل هو العلمانية بوصفها من الثوابت التي يقوم عليها المجتمع الفرنسي والتي يحميها القانون والإيديولوچيا السائدة.
ولكن لو تصورنا أن كل تيار فكري في المجتمع أضفي هذه الهالة من الأهمية علي أفكاره وطالب الدولة بمعاقبة كل من ينتقدها ومصادرة أفكاره؛ ألا نغلق بذلك الحوار الفكري في المجتمع ليسود النفاق واللغة العقيمة؟
ليست هذه دعوة للتفريط أو التخلي عما يعتقد المرء أنه حق ولكنها دعوة للتمييز بين حقنا في الدفاع عن آرائنا، ورغبتنا في التسلط علي عقول الآخرين. فعندما تتحرك الجماهير للدفاع عن مجانية التعليم أو للضغط علي الحكومة من أجل استمرار دعم السلع الضرورية فإن هذا يعد علامة إيجابية علي حيوية المجال السياسي وعلي ارتفاع مستوي الوعي عند الجماهير. أما أن يطالب البعض أو الأغلبية بسجن أحد المفكرين ومصادرة كتاباته لأنه رأي أن مجانية التعليم تضر بمستوي التعليم وأن دعم السلع يعرقل حرية الاستثمار، فهذا هو الخطر الأكبر لا علي حرية الفكر فحسب بل علي التقدم الاجتماعي نفسه.
ولو عدنا الآن إلي سياق استخدام كلمة "ثوابت الأمة" في الخطاب العربي المعاصر لوجدنا أنها تخرج دائماً كحجة لمواجهة أي دعوة للتغيير والإصلاح وخصوصاً في مجال الحقوق الديموقراطية وحقوق المرأة والمطالبة بالإصلاح الدستوري والتشريعي. وتكمن خطورتها في أنها تتضمن استعداء الدولة أو الجماعات المتطرفة ضد الرأي المخالف.
وأخيراً، إذا كنا قد أجمعنا علي تخلف الأمة، وإذا كنا ننشد لها التقدم والازدهار، ألا يكون أجدر الأشياء بالنقد والمناقشة هي تلك التي يسمونها "ثوابت الأمة".
التقليد الأعمي
هو تعبير يطلق في الغالب علي كل سلوك يتبناه المواطن العربي ليؤكد به حريته ويتخلص به من الامتثال للأعراف السائدة.
"لا ينبغي أن نرفض التجديد وعلينا أن ننفتح علي تجارب الآخرين وأن نتفاعل معها ولكن يجب علينا أن نحذر من التقليد الأعمي الذي يقضي علي شخصيتنا القومية"
كلام جميل نستمع إليه مراراً وتكراراً من "مفكرينا الكبار"، ويبدو لأول وهلة أنها توصية لا غبار عليها. ولكن لو دققنا النظر، لوجدناها مثل باقي توصيات الخطاب الثقافي العربي المعاصر تحمل في داخلها أسس نفيها. ولبيان ذلك يمكننا تتبع المقصود بتعبير التقليد الأعمي من خلال تاريخ الفكر العربي الحديث:
في القرن التاسع عشر قرر بعض الأعيان استخدام ثرواتهم في الصناعة ليتحولوا إلي رأسماليين من النوع الحديث. وفي هذا الإطار تم تقليد الغرب، علي قدر الطاقة العربية، فأنشئت بورصة للأوراق المالية وأقيمت المصانع وتأسست البنوك لتمويل المشاريع الاستثمارية. ورحبت الصحافة وقتها أيما ترحيب بهذا التحديث للبلاد. وفي عام 1899 قام عمال مصانع السجائر بمصر بإضراب للمطالبة برفع الأجور. فخرجت كبري الجرائد تتحدث عن تقليد عمال مصر لعمال الغرب تقليداً أعمي وأصبح الإضراب مخالفاً لخصوصياتنا الثقافية. وهكذا فإن البورچوازيين العرب عندما يقلدون البورچوازيين الغربيين فإنهم يعتبرون ذلك أمراً إيجابياً يساهم في تقدم البلاد ورقيها وفي زيادة ثرواتهم أيضاً. أما تقليد العمال العرب لعمال الغرب فهو تقليد أعمي. وهكذا نكون قد فهمنا الآلية التي يعمل بها الخطاب الثقافي العربي والتي تم تطبيقها بطريقة منهجية كل مرة يحاول فيها أن يكتسب المواطن العربي أرضاً جديدة لحريته. فلقد وصف خلع هدي شعرواي للبرقع في ميدان إيذاناً ببدء انخراط المرأة العربية في الحياة الاجتماعية والسياسية بأنه تقليد أعمي للمرأة الغربية وكذلك وصفت مظاهرات شباب الجامعات عام 1968 كما امتدت تهمة التقليد الأعمي إلي مدارس التجديد في الأدب والفن.
مما لا شك فيه أن المظاهر التي رصدناها للتو تعبر بالفعل عن تقليد للغرب ولكنها لا تمثل سوي نسبة ضئيلة من مظاهر التقليد التي تكتنف حياتنا منذ يقظتنا في الصباح وحتي آخر الليل والتي تحولت إلي طقوس يومية نؤديها بصورة آلية ولا يدينها أحد. أما الإدانة فهي توجه فقط إلي الحركات وأنماط السلوك التي من شأنها الحد من تحكم المتسلطين في مصير الأفراد في عالمنا العربي.
بالطبع هناك في عالمنا العربي تقدميون يؤيدون إضرابات العمال وتحرر المرأة ومظاهرات العمال وهم لا يستخدمون تهمة التقليد الأعمي لهذه الحركات. ولكن هناك ظاهرة تحظي بإجماع أكبر في إدانتها وهي ظاهرة افتتان الفتيان والفتيات بنجوم الغناء والتمثيل وتقليدهم في أزيائهم وحركاتهم. وكذلك اتباع موضات الأزياء الغربية، فهذه الأمور من وجهة نظر المحافظين والتقدميين علي السواء تدخل في باب التقليد الأعمي.
ولكننا هنا نترك مجال السياسة لندخل في مجال الأنثروبولوچيا الاجتماعية أي مجال التعبيرات الثقافية للبشر. فمن المعروف في العالم أجمع أن الشباب يتخذ من الأزياء رسالة سيميوطيقية يعبر بها عن رفضه للامتثال للعرف الاجتماعي العام، كما أنه في فترة بحثه عن ذوقه الفني والأدبي يكون كثير التقلب ميالاً إلي التجريب. أما ظواهر الولع بالنجوم والتباهي بهم فإن لها أسباباً نفسية في هذه السن كما أن لها وظيفتها التواصلية في أوساط الشباب. ولكن أياً ما كان استحساننا لهذه الظواهر أو استيائنا منها فإن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه هو:
لماذا نتعامل مع هذه الظواهر في الغرب علي أنها تعبير أصيل عن شبابهم أما لدي شبابنا فهي تعد نوعاً من التقليد الأعمي؟ إذا كانت الحاجات في هذه المرحلة من العمر واحدة فإن أشكال التعبير فيها تكون بالضرورة متشابهة. ولهذا فإنه من الظلم والتعسف اتهام شبابنا بالتبعية وضياع الشخصية والانسحاق أمام الشباب الغربي لأننا لو نظرنا إلي الشباب في أفريقيا وأمريكا اللاتينية واليابان والصين وروسيا لوجدنا نفس الظواهر تقريباً.
وليس الهدف من ملاحظاتنا هذه هو رفض استخدام تعبير "التقليد الأعمي". إذ يجوز من الناحية المنهجية استخدامه للإشارة إلي التطبيق الآلي لأحد الأساليب المستخدمة دون إجراء التكييفات الضرورية والتي يستدعيها الوضع الخاص للمجال المنقول إليه. وهنا يمكن لتعبير التقليد الأعمي أن ينطبق علي حلول تكنيكية وعلي اختيارات نظرية وجماعية وفردية. أن يحدث تعديل وتكييف فهذا ضروري. إذ أن الطريقة التي يستذكر بها الطالب الأول دروسه ليست بالضرورة هي الطريقة التي تصلح لجميع الطلاب. وهكذا يكون استخدام تعبير التقليد الأعمي مشيراً إلي أضرار قد وقعت بالفعل. ونحن هنا لا يهمنا التحديد الموضوعي للمصطلح بقدر ما يهمنا استخدامه في السياق الثقافي العربي المعاصر. وهنا نلاحظ أن تعبير التقليد الأعمي قد استخدم تهمة في وجه إنشاء المسارح وكتابة الروايات والشعر الحر والفن التشكيلي والموسيقي. هذا في مجال الفنون وكذا الحال في مجالات الفلسفة والعلوم الإنسانية والعادات الاجتماعية والمؤسسات السياسية والاقتصادية. سياق الاستخدام إذن هو الذي جعله أحد أركان التخلف.
الانهيار الأخلاقي
تشخيص شائع وسهل لأمراضنا الاجتماعية يجعل العلاج هو المزيد من التحكم في حريات الأفراد.
مما لاشك فيه أن أمراضنا الاجتماعية كثيرة، فالجميع يرصد باستهجان التفاوت الهائل بين السفه والغني الفاحش من جانب والفقر والعجز عن إشباع الحاجات الضرورية للحياة لدي عدد كبير من الناس من جانب آخر. كما أن مظاهر التخلف بادية لكل عين. وهذه المظاهر لا نستطيع تحديدها إلا بالمقارنة بالمجتمعات الأخري. وغالباً مايتم في هذا الإطار الإشارة إلي تدهور مستوي الخدمات وانتشار الرشوة والفساد وضعف الأداء العلمي والتكنولوجي وكذلك استهانة النظم الحاكمة بإرادة الناس وتطلعاتها. وتحول التذمر من انتشار هذه المظاهر إلي تسلية الصباح والمساء في إجتماعات الأصدقاء والعائلات والدردشات العابرة مع سائقي التاكسيات.
أثناء هذه المناقشات نجد في الغالب من يرفع أصبع الاتهام مشيراً إلي السبب الأساسي وراء كل هذه المظاهر مطلقاً تعبيراً يكتسي بمسوح من العمق والوقار قائلاً : إنه انهيار القيم أو الانهيار الأخلاقي أو ما شابه ذلك. ثم ينبري المتحدث في سرد الدلائل من خلال مقارنة مع الماضي، ولاسيما الذي كان فيه هذا المتحدث طفلاً صغيراً. وتتوالي الظواهر التي يبرزها المتحدث ليؤكد بها صدق رؤيته للأمور. فالأب في الماضي كانت لديه سطوة وهيبة يفتقد إليها الآباء المعاصرون. وتلاميذ اليوم أكثر تبجحاً أمام معلميهم. وبالنظر إلي ملابس طالبات الجامعة وماكياجهن يجعلنا نأسي لعدم وجود أب أو شقيق قادر علي منع هذه المهزلة.
كل هذه الأمور قد تعبر عن نظرة محافظة للظواهر الاجتماعية من حق أصحابها أن يتبنوها ويدافعوا عنها. ولكن المشكلة تأتي عندما تتحول هذه النظرة من مجرد آراء يعبر عنها أصحابها إلي برامج سياسية ومؤسسات وقوانين. ويتم طرح هذه الرؤية دائماً باعتبارها هي الأفق العام للخروج من أزماتنا، والسبيل الوحيد لبدء مسيرة الإصلاح. وعند هذه النقطة تخرج المسألة من مجرد وجهة نظر محافظة إلي مشروع سياسي وخيم العواقب ينبغي لمن هو مهموم فعلاً بقضايا التقدم والعدل والحرية أن يتصدي له. فمثل هذا المشروع ينطوي علي مخاطر عديدة تؤدي إلي تكريس التخلف وتفاقمه. وأهم هذه المخاطر:
أولاً : أنه يجعل من التخلف ومظاهر الخلل في الأداء الاجتماعي نوعاً من الغضب الإلهي الذي حل علينا بسبب سوء السلوك والتراخي في تنفيذ الأوامر الإلهية. وبالتالي لا يتم توجيه الأذهان إلي رصد مظاهر الخلل وأسبابه الحقيقية وقراءة معطيات العالم الذي نعيش فيه وإنما يتم توجيهها إلي محاولة استرضاء الآلهة كما كانت تفعل القبائل القديمة.
ثانياً : أنه ليس حلاً لأي مشكلة. لأن المشاكل التي تنشأ من فساد الضمائر أو خراب الذمم أهون بكثير من المشاكل التي تنشأ عن صياغة واقعنا السياسي والاقتصادي بما يضمن استمرار مصالح المستفيدين من التخلف. وهي بنية لا صلة لها بالانهيار الأخلاقي، فافتقادنا لأبسط حقوق المواطنة ليس مرجعه انحرافنا عن الطريق المستقيم بقدر ما يرجع إلي أسلوب الحكم وآلية اتخاذ القرار.
ثالثاً : ليست المشكلة في أن حماية الأخلاق من الانهيار هي حل خاطئ فحسب بل هي تعمية عن رؤية الأسباب الحقيقية للتخلف وصرف للأنظار عن البحث عن سبل عقلانية لتحسين الأوضاع. ولهذا فهذه الدعوة للأخلاق الحميدة هي خير سند للمنتفعين باستمرار وضعنا المأزوم.
أن النتائج العملية لهذا التفسير لأمراضنا الاجتماعية بالانهيار الأخلاقي نري ملامحها في حياتنا العربية المعاصرة حيث يمتلئ مجالنا الثقافي بمواعظ نحفظها عن ظهر قلب، ورغم ذلك تظل تُلقي علي مسامعنا مراراً وتكراراً، كما نري ملامحها في التزايد التدريجي لصور القهر والرقابة التي تمارس علي السلوك اليومي للمواطنين وعلي محاولاتهم في التعبير الحر، وفي ذلك الميل المشئوم إلي دفع المرأة إلي العودة إلي سجن المنزل تفادياً للوقوع في الرذيلة بدلاً من فتح المجال أمامها في التعليم والعمل وتولي المناصب القيادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.