لا شك أنه مما يبعث علي الأسي أن مبارك ونظامه قد أدار ظهره تماما للتعليم المصري بمعناه الوطني والإنساني، وهو التعليم الحديث الذي ناضلت أجيال من الوطنيين علي مدي قرنين من الزمان من أجل بنائه. فهاهو محمد علي (1805 1848 ) يسعي لجعل التعليم ظهيرا حضاريا كفؤا لفتوحاته وتوسعاته العسكرية التي شملت الشام والجزيرة العربية والسودان، ويتخذه في نفس الوقت جسرا تعبر به مصر من ظلام العصور الوسطي إلي أنوار العصور الحديثة، أما حفيده الخديو اسماعيل (1863 1879 ) فيضيف إلي التعليم وجها إنسانيا وشعبيا بسعيه لتعليم الفتيات بعد افتتاح أول مدرسة لتعليم البنات " المدرسة السنية 1873 "، وسعيه لتعميم التعليم عبر لائحة رجب التي حاولت البحث لكل طفل مصري عن مكان في المدرسة، ويتخذ اسماعيل من التعليم أداة لجعل مصر قطعة من أوربا وبناء مؤسسات الدولة الحديثة كالبرلمان والدستور، وبعد ثورة 1919، امتزجت قضايا الاستقلال الوطني وقضية الديمقراطية بقضية تعميم التعليم وتوحيده وتطويره وانطلق صوت طه حسين ( 1889 1973 ) مناديا " بأن يكون التعليم حقا متاحا لجميع المصريين كالماء والهواء "، وأصبح خريجو ذلك التعليم المكون الرئيسي لمدارس الفكر والسياسة والثقافة التي ازدهرت آنذاك. وبعد ثورة يوليو لعب التعليم الدور الرئيس في خطط التنمية الاقتصادية المستقلة وبناء الصناعة الحديثة وتوفير العناصر البشرية القادرة علي خوض معارك الصراع ضد الصهيونية. وجاء مبارك بعدما جرت في نهر الوطن مياه كثيرة وراح التعليم يتخلي شيئا فشيئا عن أهدافه وأدواره، بل وأهميته، إذ لم يسع مبارك بفساده واستبداده إلي صياغة مشروع قومي ثقافي ولا سياسي ولا فكري ولا تنموي لكي ينطلق منه إلي نظام تعليمي يخدم ذلك المشروع ويقدم الكوادر الفنية والعلمية التي ترعاه وتقوم به، وقدر للتعليم أن يكون مجرد نظام بلا هدف ولا فلسفة ولا مضمون، وتدهورت كفاءته شيئا فشيئا ولم يعد أحد يفهم كيف يخرج التعليم أجيالاً من المتطرفين الذين يخرجون من التعليم وهم يحملون قيما شديدة العدائية ضد العلم والديمقراطية والقانون، ولم يعد أحد يفهم كيف يتقدم الطالب في المدرسة إلي حد الحصول علي شهادة الدبلوم المتوسط من المدرسة الفنية الصناعية أو الزراعية أو التجارية من دون أن يستطيع كتابه اسمه وأنا أعني هنا كتابة اسمه علي وجه التحديد وليس علي سبيل المجاز ولم يعد أحد يفهم كيف يستطيع مئات الآلاف من المعلمين يعملون في المدارس نظير أجر لايزيد علي مائتين اثنتين من الجنيهات في الشهر، في نفس الوقت الذي يزيد ثمن كيلو اللحم علي خمسين جنيها، هل كان نظام مبارك كله ووزراؤه وخاصة وزراء تعليمه مصطفي كمال حلمي، فتحي سرور، حسين كامل بهاء الدين، أحمد جمال الدين موسي، يسري الجمل، أحمد زكي بدر - مغيبين عن تلك الحقائق أو لا يعلمونها؟ وقد أصبحت حقائق واضحةليس لدي المختصين والخبراء فحسب وإنما لدي أي متابع ومهتم. والأمر كما أراه أن نظام مبارك قد ارتضي معادلة مؤداها أن التعليم للقادرين فقط وأن " اللي مامعهوش مايلزموش" فلا تعليم للفقراء. وأصبح أمام هؤلاء القادرين علي تعليم أبنائهم طريقان، وهما: المدارس الخاصة ذات المصروفات الباهظة والمدارس الأجنبية التي تتقاضي سنويا من الطالب عدة عشرات من الجنيهات، أو المدارس الحكومية مع الحرص علي الدروس الخصوصية طوال سنوات الدراسة لكي تضمن لأبنائها مكانا في الجامعة، وإذا عرفنا أن نسبة طلاب الجامعة لاتزيد علي 14 ٪ من الشريحة العمرية 18 : 22 عاما لعرفنا أن هؤلاء ال 14٪ ، هم أبناء الأثرياء والشريحة العليا من الطبقة الوسطي، أما الفقراء فليس لهم إلا التسرب من مراحل مختلفة من التعليم، أو الاكتفاء بالشهادات المتوسطة.. تلك الشهادات التي أشرنا إلي مستوي خريجيها. ولم يتوقف أمر تدهور التعليم عند هذا الحد بل تدهورت مكانة المتعلمين تدهورا غير مسبوق، فلم يسع النظام الفاسد إلي فتح آفاق للعمل أمام المتعلمين في الصناعة أو الزراعة الحديثة أو غيرها من مجالات الإنتاج التي تعتمد علي العمالة والعمالة الكثيفة بالتحديد، وإنما اعتمد نظام مبارك علي ما يسمي بالمصادر الباردة للثروة، مثل: إيراد قناة السويس، حصيلة بيع الغاز والبترول وتحويلات المصريين في الخارج والبورصة وزيادة أسعار الأراضي والعقارات نتيجة المضاربة عليها، وهي كلها مجالات لا تضيف قيمة ولا توفر فرص عمل، وإنما فقط تتيح فرصا هائلة للفساد والنهب وتكوين الثروات الحرام وهو ماحدث بالفعل - وكان من المنطقي أن يمتد طابور البطالة ليشمل ملايين المتعلمين والذين ينتظرون لسنوات طويلة بلا عمل، وهكذا أصبح النظام وكأنه لا يكافئ المتعلمين وإنما يعاقبهم علي جدهم واجتهادهم. هذا هو حال التعليم زمن المتهم مبارك، وقد تصورت أنا أن العقبة الكؤود في سبيل تطوير التعليم وهو مبارك ونظامه قد زالت، وأن الطريق قد انفتح أمام تطوير التعليم وخاصة وأن ملامح التطوير واضحة والجهود التي ينبغي أن تبذل متفق عليها، ومنها بلورة رؤية وطنية حول أهداف التعليم تجعله ككل نظم التعليم المحترمة في العالم يؤكد علي تعزيز الثقافة وقيمها وتعميق قيم المواطنة والانتماء الوطني وتأكيد الرؤية العلمية والمنهج العلمي في تناول قضايا الطبيعة والمجتمع ومشكلاته، وفي الطريق إلي هذا لا بد من زيادة ميزانية التعليم لتسمح بمرتبات إنسانية للمعلمين تتيح لهم التفرغ للتعليم وتجاوز نفق الدروس الخصوصية المظلم، وتحويل نسق التعليم ومناهجه ومقرراته من نسق يعتمد مفاهيم الحفظ والاستظهار والتسميع والإملاء إلي نسق يقوم علي التساؤل والبحث والفهم والتعبير، وتطوير نقابة مهنية راقية للمعلمين تكون أساسا لمهنية رفيعة المستوي للمهنة التي انهارت.. هذه هي بعض الهموم الوطنية للتعليم والمصري أقدمها لكل من يهتم بالنهوض بذلك التعليم وحرصت في ذلك علي أن أتجاوز الرؤية الأيديولوجية إلي فضاء الهم الوطني العام الذي لا يختلف عليه يمين أو يسار أو ناصرية أو غيرها. وها نحن اليوم وقد شكل الإسلاميون بجناحيهم الإخوان والسلفين - أغلبية نواب الشعب، وأصبحوا الكتلة السياسية الأكبر تأثيرا، والتي سيكون لها حضور واضح في اختيار رئيس الجمهورية ووضع الدستور، وبدلا من ان نعرف أن هؤلاء الإسلاميين يعدون مشروعا لتعظيم ميزانية التعليم أو تطوير مناهجه ومقرراته، وحتي صياغة نظام للإدارة