"لكنني صعلوك عابر سبيل، ابن الحارة المصرية، ليس لي صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف أختفي فجأة، فحاول تفتكرني". لا نميل إلي استخدام جمل الراحلين لمحاولة إثبات أنهم تنبؤوا بوفاتهم، واستشرفوا نهاياتهم، لمنحهم شفافية ما بأثر رجعي. لذلك، فإن الجملة التي نفتتح بها الحديث عن جلال عامر، لا تعد تنبؤا منه برحيله المفاجئ، بقدر ما هي تشريح دقيق لوضعيته في السياق العام، كما أنها بمعني ما تلخيص لحياته. ولم يؤد التحاق عامر بالمؤسسة العسكرية كضابط، ولا مشاركته في حرب أكتوبر، أيقونة المؤسسة، إلي تغيير في صفته الأولي كصعلوك عابر سبيل، فالمؤسسة لم تمنحه أكثر من معاش هش، كان يفترض أنه يذكره في بداية كل شهر بانتمائه لها، فأصبح يحسره علي هذا الانتماء. وقد استغل أحد رجال النظام كمال هذه الصفة، الصعلكة وعبور السبيل، ولعب عليها كثيرا، خلال معركة اشتعلت بينهما، في إطار مهمة رجل النظام في اصطياد المعارضين، مما أدي إلي اعتبارها صفة محببة لدي جمهور عامر الذي بدأ وقتها في التكون. ولأن السخرية هي بنت المفارقة، فقد لعبت مفارقات في حياة عامر دورا في ظهوره، منها أنه طرح نفسه في بداية مشواره مع الكتابة، كقاص وشاعر إلا أن المتلقي لم يستقبل إنتاجه لسنوات بالشكل الذي كان يتوقعاه ويرضاه، في حين حدث هذا الاستقبال عندما طرح نفسه كاتبا لمقال ساخر في جريدة التجمع، التي هي جريدة فرعية لحزب التجمع. وهو ما يذكرنا بنجيب الريحاني الذي حاول مرارا أن يقدم نفسه كفنان تراجيدي فلم يتقبله الجمهور إلا كما رأيناه، مضحك مصر الأول. ويقدم عامر نفسه، في جملته عن حياته، باعتباره ابن الحارة المصرية، وبصرف النظر عن أن تعبير الحارة المصرية نفسه صار مبتذلا، فإنه يشير إلي ملمح مهم من ملامح تجربته، وهي أنها شعبية المصدر؛ فالكتاب الساخرون، علي اختلاف قيمة كل منهم وشهرته وجمهوره، يعتمدون علي مصادر الثقافة والإعلام التقليدية بأشكال مختلفة، وعليه فإنه يشيع بينهم الاستفادة من أسماء الكتب والأعمال الفنية كالأفلام والأغاني، واقتباس جمل شهيرة منها. في حين اختار عامر منذ البداية أن مصدره هو تفاصيل الحياة الشعبية اليومية المعاشة. وكان جلال عامر أكثر ما يكون تألقا عبر صفحات جريدة البديل، وكان عموده "في الركن البعيد الهادي"، للمفارقة، مجاورا لعمود د. محمد السيد سعيد "أول الضوء". في أعمدة البديل، التي جمعها في كتاب "مصر علي كف عفريت"، كان عامر يرسم لوحة سريالية، علي حد وصف نائل الطوخي، وكانت المفارقات اللفظية تعتمد علي تثبيت عنصر مشترك بين متغيرين لا يبدو أن بينهما أي مشترك. وهو ما كان يؤدي إلي سهولة حفظها وتداولها. علي أن انتشار هذا العمود كان أكبر من أي تصور، ربما أكبر من انتشار الجريدة نفسها، بعد ان اقتنع صاحبه بالانتشار المعتاد للكتاب المثقفين بين المثقفين وكفي. وهو ما يفسر لنا وصف عامر لظهوره بأنه مفاجئ. ولم تكن تجربته في الدستور قوية كما كانت تجربة البديل علي أي مستوي، كان يضطر لكتابة صفحة كاملة، ولم يكن هذا ملائما لنَفَسِه الذي كان يعتمد أساسا علي التكثيف، وتلخيص مشاهدات عديدة في جمل قصيرة، لذلك كان عمود المصري اليوم "تخاريف" أنسب له، ومن خلاله حقق جلال شهرة لم يحققها خلال 57 عاما قبلها. رغم أنه لم يكن الأبرز في مسيرته القصيرة. علي أن التعبير الذي يلفت الانتباه هنا هو إحساسه بأنه "سيختفي فجأة"، كان آخر حوار أجراه الراحل لأخبار الأدب، قبل أسبوعين، صك خلاله عددا من تعبيراته الجديدة، وكان كما كان دائما يملأ الدنيا بهجة، ورحل فجأة. رحل لكنه لم يختفِ، وربنا يرحم الجميع.