ولكنه ليس شاعراً عظيماً، قالها شاعر صديق وهو يواصل، الشابي ليس المتنبي، وليس ابن الرومي، ولا حتي أحمد شوقي، ولا الجواهري.. كل ما تبقي منه ديوان واحد هو (أغاني الحياة)، أو ربما قصيدة (إرادة الحياة)، أو ربما بيت صار نشيداً (إذا الشعب يوماً..) ما يقوله الصديق الشاعر صحيح، لكنه ليس حقيقياً تماماً، فلماذا صمد الشابي كل تلك السنوات؟ كيف عبرتْ قصيدته جيلاً وراء جيل، إلي أن استقرت في حناجر الربيع العربي، حين هتفت الشعوب في مصر، وتونس، واليمن، وليبيا، وسوريا في صوت واحد (الشعب يريد) فأسقطت عروشاً وزلزلت أنظمة..؟ لم يكن أبو القاسم الشابي، المتنبي لكنه كان شاعراً حقيقياً بدرجة تكفي لخلوده، قصيدته تلك (إرادة الحياة) والتي كتبها في سبتمبر 1933، قبيل وفاته بأشهر قليلة، تحولت عبر السنوات إلي صرخة مدوية، ونشيد قومي لتونس، وتحولت إلي شعار، ونشيد للحرية، وعلامة علي إرادة شعب واستجابة قدر.. الشابي الرومانسي الحالم، والذي زاده مرضه وموته المبكر رومانسية، أحال الطبيعة، إلي حالة من التمرد والثورة، وأحال الرومانسية المشغولة بذاتها إلي تبني القضايا القومية السياسية والاجتماعية.. ناضلت القصيدة مع الشابي، تمكّنت من إقناع الجميع بالبقاء والخلود أيضاً (سأعيش رغم الداء والأعداء).. لكن لماذا عاشت تلك القصيدة تحديداً دون غيرها من القصائد، وحتي دون صاحبها الشاعر، تمتلك شرعية مستقلة عن بقية أشعار الديوان..؟ كان أمل دنقل يبدي دهشته أمام نجاح قصيدة (مقتل كليب) الشهيرة ب(لا تصالح) بينما لم تحظ قصيدة (مراثي اليمامة) من نفس الديوان، بنفس القدر من الذيوع والجماهيرية، وهي في رأيه الأكثر فنياً..!! ما الكيمياء التي تسمح لقصيدة بالتفاعل والفاعلية، ولا تسمح لأخري؟ ما الذي يدفع قصيدة للبقاء، وعبور السنوات لتمنح الشعر والشاعر خلوده وبقاءه في تاريخ الشعر، ووجدان شعبه؟ هل فقط هي الكيمياء غير الملموسة؟ هل قصيدة الشابي حقاً دون المستوي الجمالي؟.. بقيت القصيدة وعاشت وكتبت خلودها، ليست لأنها صرخة سياسية، ولكن لأنها بالأساس صرخة جمالية، تلك الرومانسية المشحونة بالثورة، وتلك العبارات السهلة البسيطة الواضحة، وتلك البلاغة الشعرية الحداثية.. وتلك العلاقة المتبادلة، والفاعلية بين الشعر والحياة، بين الجمال والواقع، والشاعر عنصر فعال بينهما أو فيهما.. هكذا عاشت القصيدة رغم الداء والأعداء.