بدأ القرن السابع عشر الميلادي في إيطاليا بحدث مروع.. إحراق الفيلسوف جوردانو برونو في كامبو دي فيوري، وسط العاصمة روما.. وكان جوردانو برونو في الأصل من رجال الدين، فهو راهب دومينكاني، ولكنه في الوقت نفسه كان عالما وفيلسوفا، ولد عام 1548 ومات في 17 فبراير عام 1600. التاريخ في هذه الحالة له دلالة، فهو تاريخ بداية عصر العلم وفي الوقت نفسه نهاية عصر النهضة الإيطالية الذي انتهي عمليا بمحاكم التفتيش، وانتهت النهضة الإيطالية عندما أصبح العلماء تحت مقصلة هذا التفتيش. ودارسو الحضارة الإيطالية يعرفون القرن السابع عشر علي أنه أسوأ القرون الإيطالية، فقد تقدمت أوروبا كلها بفعل النهضة الإيطالية، ولم تستفد إيطاليا نفسها من هذه النهضة بعد أن دفعت ثمنها غاليا، بفعل الأزمة الدينية "الكبري" التي وضعت علي المقصلة علماء وفلاسفة مثل جوردانو برونو وجاليليو. كان برونو هو مؤسس الاتجاه المادي القديم، معتمدا علي فلسفات سابقة وأخصها فلسفة ابن رشد العقلية والأفلاطونية الجديدة، وكان مؤمنا بالانفتاح الفكري والعقلي، ففيه تأثيرات عربية إسلامية، وتأثيرات يهودية قبالية، وله آراء ثورية في الفن الذي يختزن الطاقة بداخله أو مفهوم ذاكرة الفنون. تعدد العوالم ووحدة المادة، وعدم وجود حدود للكون أو الكون اللانهائي ورفض تحول المادة (تحول الخبز إلي جسد وتحول النبيذ إلي دم، في إشارة إلي جسد المسيح ودمه). والنظرية التي دفعت برونو إلي المحرقة تري أن الله هو "فكر" خالق ومنظم لكل ما هو في الطبيعة، ولكنه في الوقت نفسه هي الطبيعة ذاتها مؤلهة، ووحدته وحدة وجود لا تتجزأ، تجمع الفكر والمادة. هذه النظرية اعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية هرطقة وحكمت عليه بالإعدام حرقا. جاليليو كان عالما نادي باستبدال المنهج الاستنتاجي لأرسطو بمنهج جديد استقرائي، يهدف إلي التوصل إلي العام عن طريق الخاص، ودراسة الظواهر وتفاصيلها حتي يمكن الوصول منها إلي العام الكوني. ومنعت الكنيسة تداول أفكار جاليليو الذي لم يعد يؤمن بالتفسير الدجلي للكنيسة ونادي بسيادة العقل واستقلاله، وضرورة أن تعترف الكنيسة بمنتجات العقل، المتمثلة في العلم الحديث والتكنولوجيا. نحن إذا أمام حدثين رئيسيين أوقفا مسيرة الحضارة في إيطاليا، بعد عصر نهضة كان يبشر بأن تسير الأمة الإيطالية نحو إنجاز إنساني تسبق به العالم، وتهدي خطواته: الحدث الأولي هو إعدام الفيلسوف، والثاني هو الرقابة علي العقل. وفي الحدثين اللذين أدخلا إيطاليا نفقا مظلما استمر حتي منتصف القرن العشرين، أي أكثر من ثلاثة قرون، كان السبب هو عدم تحمل رجال الدين عنصرين أساسيين من عناصر الثقافة: العلم والفلسفة. وهذا هو الذي يجعلني أقدم هذه الرؤية المتشائمة لمستقبل الثقافة في مصر. ثورة مصر، كما قيل وتحدد في جميع المراجع ذات الصلة، هي التي نشرت علي العالم فكرة "الربيع العربي" ، وهي فكرة قائمة علي تصور قيام نهضة في هذا الجزء من العالم، وهي نهضة أشارت في أيامها الأولي إلي أنها قد تفضي إلي وضع تصور جديد للعالم، وأن يمتد تأثيرها شرقا وغربا، في مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني يتميز بفشل إيديولوجي حاسم، فشل شيوعي/اشتراكي أعطي سلطة العالم إلي رأسمالية فشلت هي الأخري في قيادة العالم وأوقعته في سلسلة من الأزمات وضعت الإنسانية في مواجهة مع مسائل أساسية كان من المفترض أن مسيرة الحضارة قد تجاوزتها منذ قرون: فقد استبدلت حرية العمل بعلاقة تبعية تقترب من مفهوم العبودية، وقربت بين فكر رجال الأعمال والفكر الاقطاعي الذي سبق نشأة المدن، وجعل مسألة الكرامة الإنسانية في "مأزق"، ليس فقط في أنظمة الاستبداد العربية، وإنما في العالم أجمع، يستوي في ذلك أوروبا الغربية وأمريكا ودول الاتحاد السوفيتي السابق. رأسمالية نشرت الجهل، والشعوذة، والفساد. ونشرت الفقر، رغم ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي إلي مستويات غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، ويغذي حراكا اجتماعيا تختفي فيه طبقات وتنشأ أخري، وتأكل الثقافة الاستهلاكية حياة البسطاء وتشرب عرق الكادحين، وتوجه كل الموارد البشرية إلي جيوب رجال الأعمال. ثورة مصر رفعت شعارا كان يعبر في رأيي عن أزمة العالم اليوم: كرامة، حرية، عدالة اجتماعية. وكنت أري، وهذا ما قلته إبان الساعات الأولي للثورة، أن هؤلاء الشباب الذين توصلوا بنقاء ودون تلوث فكري من أي نوع إلي "فعل" الثورة النبيل، هم قادرون ولا شك في صياغة هذا الاستقراء لواقع العالم، في صورة أيديولوجيا، تقود البشرية علي الأقل خلال القرن الحادي والعشرين, ولم أكن مبالغا في تصوري، فقد قام الربيع العربي في فترة "فراغ" إيديولوجي رهيب رهبة الثقب الأسود الكوني الذي يبتلع المنجز الإنساني كله. ونقاء الثوار ووقوفهم علي مسافة واحدة من جميع التيارات الفكرية السائدة كان يؤهلهم ويرشحهم لاختراع العجلة من جديد، لقيادة العالم من جديد. ولم أكن مبالغا حينما قلت في بعض المؤتمرات الدولية التي حضرتها وحاضرت فيها إن منطقة الشرق الأوسط هي المؤهلة فكريا لابتداع إيديولوجيا جديدة تقود العالم، فهي مهد الديانات التوحيدية الكبري الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهي حتي الآن النسق الفكرية الكبري التي استمرت ولاقت رواجا ومؤيدين للعديد من القرون وفي جميع أرجاء المعمورة. هل خرج مجمل المنجز الفكري الإنساني عن هذه البقعة الجغرافية المدمجة التي تضم مصر وبلاد الشام واليونان وروما؟ لقد ظهرت إيديولوجيات كثيرة في العديد من بقاع العالم، ولكنها لم تكن بقوة وانتشار واستمرار ما انتجته هذه المنطقة. لم يظهر في غير هذه المنطقة أنبياء مثل إبراهيم وموسي وعيسي ومحمد، ولا فلاسفة مثل أرسطو وسقراط وأفلاطون وابن رشد. كل المقدمات كانت تشير إذا إلي خير كبير، وإلي مستقبل مضيء، ولكن الذي يحدث وسوف يحدث يسير في الاتجاه المعاكس، فقد تم استدعاء الماضي بكل تفاعيله، وأصبحت منتهي الأماني أن يفرض الأزهر وسطيته الدينية، رغم أنه هو نفسه المؤسسة التي صادرت وراقبت وأوقفت تقدم المجتمع. المشكلة في مصر أن المنجز الثقافي الذي يتم الوصول إليه عبر كفاح طويل ينهار في لحظات. وأن انهيار قرن من التقدم في لحظة يحتاج لاستعادته قرن من الكفاح. الحركة النسائية في مصر احتاجت سبعين سنة (1920-1990) حتي تحصل علي حقوقها، وتراجعت إلي نقطة الصفر في أقل من عقد من الزمان، وعليها الآن أن تبدأ مسيرة كفاحها الصعبة من جديد. سوف يسارع السلفيون والإخوان المسلمون إلي طمأنة الناس باليد اليمني أنهم مدنيون أكثر من العلمانيين وأنهم يحترمون حريات العقيدة والفكر، وباليد اليسري سوف