ظلت تعاليم ومفاهيم ارسطو مسيطرة علي الكنيسة التي تمثل سلطة الدولة الأولي حتي القرن الخامس عشر بقيام الثورة العلمية الذي كان الأساس الأول لنظرية المعرفة فيها هو دور العقل - الذي حرر الفكر الانساني من قهر الفكر اللاهوتي الذي أهدر وأحرق وكبل حركة التنوير في العالم كل هذه القرون. وللتنوير مفهوم فلسفي يقوم هو الآخر علي عدة مفاهيم رئيسة تنتظم فيما بينها في تصور واحد للعالم يكون فيها اللاهوتي لعقل الركيزة الأولي لفهم الطبيعة و الانسان و الحرية فهو ضد السلطة و التقاليد الموروثة، الأمر الذي أدي بإعمال العقل الي استقراء قوانين الطبيعة بالاعتماد علي الحس والتجربة مما ادي الي تأسيس نظرية جديدة للمعرفة الأساس الأول فيها النقد العلمي الخالص و الذي تزعمه في القرن السابع عشر " كانط " ، أما الذين مهدوا لهذه النظرية من قبله ربما من القرن الثالث عشر عندما ظهر (هوبز، وروسو) وحتي القرن الخامس عشر عندما ظهر (كوبرنيكس، وجاليليو، ونيوتن) أصحاب الثورة العلمية الذين اضطهدوا واعتقلوا واحرقت مؤلفاتهم وبعضهم شنقوا من قبل الكنيسة التي لا تعترف الا بتعاليم ارسطو اللاهوتية والتقاليد الموروثة من قرون ساحقة ادت الي طمس الفكر الانساني والغاء عقله وانسانيته، فالانسان مركز الكون وليس الله، فهو خليفة الله علي الارض، لذلك كان عليه ان يسترد هذه الخلافة بعد ان الغتها سلطة الكنيسة واستردتها له الثورة العلمية التي قامت علي اعمال العقل. - والذي يدهشنا و يثير همومنا منذ سبعينات القرن الفائت هو تفنن الانظمة الحاكمة في كيفية التخلص وتفريغ الدول من علمائها و اسكات العقول بدلا من التشجيع علي اعمالها ..!! و يتم لها ذلك اما بتهجير هذه العقول الي الدول المتقدمة او بعدم تقديم اي مساعدات مادية او معنوية لإتمام أبحاثهم، او اعتقالهم اذا ادي الأمر لذلك بتلفيق التهم المدروسة لهم او اغتيالهم في اراض محايدة وكأن الزمن يعيد نفسه فهناك العديد من العقول الارسطية التي تفرض تعاليمها علي الكنيسة و علي المسجد، فلو تأملنا الخطاب الديني منذ سبعينات القرن الماضي لوجدناه في تراجع مستمر حيث انه مختوم بخاتم السلطة، معتقل هو الآخر وليس لديه حرية الحركة، حيث توقف عند وفاة آخر صحابي من أصحاب الرسول والنبي الخاتم محمد النبي الذي تجلت الشوري في عهده وعهد صحابته، النبي الذي ارسي الديموقراطية بمفهومها الواسع، النبي الذي أوجد للانسان الحرية والعدل والمساواة ليس تنظيريا او كلاميا، لكن تجسيدا عمليا علي أرض الواقع، أنزل الدين من السماء الي الارض ليمنع وأد المرأة الذي عمل به في الجاهلية، ويرسي القيم والمباديء لتقويم سلوك الانسان ليتعلم الفرق الكبير بين مفهوم الحرية والعبودية فتم تحرير العبيد علي يديه، وقنن مفهوم الملكية والفرق بين ما هو مملوك للفرد وبين ما هو مملوك للدولة قبل فلاسفة الغرب من امثال (هوبز وروسو) بثلاثة عشر قرنا.. فأين نحن اليوم من هذا الخطاب.؟؟ لماذا تضع الانظمة يدها علي عقول العلماء حتي علماء الدين غير القادرين علي اعمال عقولهم فأصبحت المؤلفات متشابهة في كل محتواها.. لا يفرق بينها غير عناوينها والأسلوب المطروح بها ..! وأصبح كذلك الخطاب الديني مصبوغا ومختوما بفكر واحد لا يحيد عنه أي خطيب او امام مهما كبر او صغر، وكأن الدول تفرغت من مشاكلها تماما واصبحت دولا فاضلة مثلي علي غرار الدولة الأفلاطونية، دولة الاحلام..! الخطاب الديني أصبح عقيما لدرجة أن اصبح الفرد لا يتحمل الذهاب الي المسجد او الكنيسة لكونه خطابا مكررا منذ عقود فليس من الصحيح ان "النص" هو الذي تسبب في انشاء الحضارة أو الثقافة، فهذا مفهوم خاطيء، فالذي تسبب في توالي هذه الحضارات والثقافات، هو جدل الانسان مع الواقع من جهة، وحواره مع النص من جهة أخري، ان تفاعل الانسان مع الواقع وجدله معه بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. هو الذي ينشيء الحضارة و بذلك يمكن ان نقول ان الحضارة المصرية القديمة هي حضارة "ما بعد الموت" وان الحضارة اليونانية هي حضارة "العقل" اما الحضارة الاسلاميه العربية هي حضارة "النص" ويعتبر النص هنا بمثابة محور هام للحضارة او الثقافة، لكن هذا لا يكفي، فلابد من التفسير والتأويل. لذلك كان ضروريا علي الانسان اعمال العقل وكشف الواقع الملموس لدراسة القضايا والمشاكل الانسانية التي تقع علي الانسان فتزيد من همومه ومعاناته ويتجاهلها صاحب الخطاب و يتكلم عن واقع آخر غير ملموس ولا مرئي. فاذا كانت الثقافة العربية ثقافة تعطي النص هذه الاولوية وتجعل من التأويل منهجا، فلقد حظي جانب "التأويل" بكثير من الدراسات التي ركزت علي العلوم الدينية وتجاهلت ما سواها من علوم أخري علمية وثقافية حيث كان من الضروري علي القائمين علي تأويل النص و تفسيره الاقتراب من صياغة "الوعي العلمي" بهذا التراث ..لقد تنبه جيل الليبراليين المجددين لأهمية هذا البعد في تراثنا و لكن صيحاتهم و تنبيهاتهم ذهبت ادراج الرياح ، لأن ثمه قوي في الواقع الثقافي و الاجتماعي لا تريد تحقيق " الوعي العلمي " بالتراث حيث ان ذلك يؤدي الي سحب الأرض من تحتهم ومن تحت " توجيهاتهم الأيدولوجية " وبذلك يكون قد حقق لنفسه الفكر الرجعي التثبيتي، و هنا يسيطر الفكر الرجعي علي التراث ذاته الممتد علي طول التاريخ. ان موقف الخطاب الديني المعاصر من " علوم القرآن " ومن " علوم الحديث " هو موقف الترديد والتكرار، اذ يتصور الكثير من علمائنا ان هذين النمطين من العلوم يقعان في دائرة العلوم التي »نضجت واحترقت« حتي لم يجد فيها الخلف ما يضيفه للسلف، وربما لم يقرأ علماؤنا أو ربما قرأوا وتجاهلوا ما نقلوه عن السيوطي عندما قال »العلوم وان كثر عددها، وانتشر في الخافقين مددها، فغايتها بحر قعره لا يدرك، ونهايتها طور شامخ لا يستطاع الي ذروته ان يسلك، ولهذا يفتح لعالم بعد عالم من الأبواب ما لم يتطرق اليه من المتقدمين الأسباب). ومن هنا يتضح ان الغاية عند علمائنا ليست التأليف والجمع او البحث والتنقيب بل الغاية هي تسهيل الكتب القديمة يسلبها كل ميزاتها طلبا لكسب الشهرة.