مأساة حقيقية تكمن خلف أبواب مصحات علاج الإدمان غير المرخصة، حيث تتحول رحلة البحث عن الشفاء إلى جحيم من الانتهاكات والتعذيب، ومع مساعي بعض الأسر، لإنقاذ أبنائهم من مخاطر المخدرات، يجدون أنفسهم أمام مؤسسات تفتقر لأي رقابة أو مؤهلات طبية، ويُدار أغلبها بعقلية تجارية بحتة أو بواسطة أشخاص سابقًا مدمنين أو متعافين، مستغلين حاجة المرضى وعجز الأهل. قصص مأساوية، مثل رحلة "فادي" و"محمد"، تكشف الوجه القاسي لهذه المراكز، حيث يُحتجز المرضى في غرف مكتظة تشبه الزنزانات، ويُجبرون على تحمل حرمان الطعام والنوم، والقيام بأعمال شاقة، فضلاً عن التعرض للتقييد الجسدي، الضرب، وحتى إعطائهم أدوية تسبب الهلوسة لإضعاف إرادتهم. وكل ذلك يحدث في ظل غياب أي إشراف طبي حقيقي أو حماية قانونية، بينما يظل الموت أو الانتحار خيارًا محتملًا يوميًا لبعض النزلاء. في هذا السياق، يتضح أن الحل الحقيقي لا يكمن في تلك المصحات المجهولة، بل في تعزيز الرقابة الرسمية، تسهيل التراخيص، وتوفير بدائل علاجية مرخصة وقادرة على تقديم الرعاية النفسية والطبية اللازمة، بما يحمي حياة المرضى وكرامتهم، ويوقف دورة الاستغلال التي تتحول فيها رحلة الشفاء إلى طريق نحو الهلاك. ◄ فيديو الهروب كشف الكارثة وكشف فيديو هروب عشرات النزلاء من مصحة غير مرخصة لعلاج الإدمان بالمريوطية، والذي أحدث ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي، قصص مأساوية تكشف ما يدور خلف تلك الأسوار الموصدة، حيث يتحول "الأمل في الشفاء" إلى "رحلة نحو الهلاك". بوابة أخبار اليوم تدق ناقوس الخطر خلف الأبواب الموصدة بمصحات علاج الإدمان غير المرخصة التي تنتهك الإنسانية المجردة وتضرب بالقوانين عرض الحائط . ترصد شهادات مروعة تكشف النقاب عن عالم خفي من الانتهاكات . يحكي ماجد حنا «اسم مستعار» تفاصيل التجربة المريرة التي عاشها ابنه "فادي"، خريج كلية الفنون الجميلة، الذي سقط في فخ الإدمان ثم في فخ "المصحات الوهمية". ◄ من التفوق الدراسي إلى فخ "البودرة" يروي الأب بمرارة كيف بدأت رحلة ابنه مع الإدمان، مشيراً إلى أن "فادي" كان شاباً متفوقاً دراسياً منذ الثانوية العامة، وهو ما دفع بعض أهل الخير لمساعدته لاحقاً في تكاليف علاجه لعلمهم بأخلاقه وتفوقه . يقول الأب: "بدأت القصة في الثانوية العامة، كان يتناول بعض العقاقير "الأقراص" بحجة المساعدة على السهر والمذاكرة، ولم نكن ندرك أنها بداية الطريق للهاوية". مع بداية عام 2015 تطورت الحالة حتى وقع الشاب في فخ مخدر "الحشيش" ثم "البودرة"، مما أدى إلى تدهور حياته المهنية حيث كان يعمل في إحدى الشركات الكبرى، وبسبب غياب وعيه الناتج عن المخدر، تورط في تبديد عهدة الشركة وحرق بضائعها، لينتهي به المطاف غارقاً في "وصلات أمانة" وأحكام قضائية لاحقة. ◄ سجن تحت مسمى العلاج بدافع الخوف على ابنه من الملاحقة القضائية ومن ضياع مستقبله، قرر الأب إيداعه في مركز لعلاج الإدمان بمنطقة "الهضبة" بحدائق الأهرام، مقابل مبلغ شهري يصل إلى 6000 جنيه، وهو مبلغ كان يجمعه الأب بصعوبة بالغة وبمساعدة المحيطين به فهو يعمل سائق ميكروباص . يقول حنا "المكان لم يكن مصحة، بل كان عبارة عن سجن. اكتشفت لاحقاً أن القائمين على العلاج هم في الأصل مدمنون متعافون، لا يملكون أي مؤهلات طبية، وهدف صاحب المكان الأول هو جمع المال فقط". ◄ أساليب التعذيب والانتهاكات الإنسانية وصف الأب تفاصيل قاسية تعرض لها النزلاء داخل المركز، بناءً على ما نقله ابنه وما شاهده لاحقاً، وتضمنت تلك الانتهاكات:ووجود غرف حديدية تشبه الزنزانات، يُحتجز فيها المخطئون دون طعام أو شراب لفترات طويلة. وممارسة أشكال الذل الإنساني بإجبار النزيل على تنظيف "الفيلّا" كاملاً بمفرده، أو منعه من النوم وإجباره على الوقوف طوال الليل. و الحرمان من الاحتياجات الأساسية من السجائر والطعام، والضغط النفسي الذي يصل إلى حد ترك النزيل يقضي حاجته على نفسه دون السماح له بالخروج. أشار الأب أن الصدمة الأكبر كانت تتمثل في أن القائمين على المركز كانوا يروجون للمواد المخدرة داخل المصحة نفسها، ويبيعونها للمرضى لاستغلال حاجتهم. ◄ نهاية الكابوس انتهت رحلة فادي في هذا المركز عندما قامت الأجهزة الأمنية بمداهمة المكان، حيث تم الكشف على النزلاء وتبين وجود أحكام قضائية ضد ابنه بسبب "وصلات الأمانة" السابقة. في ختام حديثه، أكد الأب أن الحل لم يكن في تلك المراكز التجارية، بل في التوجه لجهات متخصصة وذات طابع منضبط، حيث أودع ابنه لاحقاً في مركز تابع للكنيسة بالإسكندرية، وهناك بدأ يتعافى بشكل حقيقي وعاد لطبيعته بعيداً عن الاستغلال المادي والبدني. موجهاً صرخة تحذير لكل الأهالي"لا تلقوا بأبنائكم في التهلكة بحثاً عن حلول سريعة في أماكن غير مرخصة؛ فهذه الأماكن تبيع الوهم وتقتات على أوجاعنا". كشف محمد علي "اسم مستعار" ما يدور خلف أسوار بعض مراكز علاج الإدمان غير المرخصة. قضى الشاب الثلاثيني سنوات في رحلة التعافي وتخلصه من الأدمان، وقرر أن يكون يد العون لمن يطلب ذلك، فهو يعمل حالياً كمعالج إدمان في إحدي المراكز الحكومية. وأكد أنه ينتمي إلى عائلة ميسورة، وهو ما جعل استمراره في طريق الإدمان أمراً بالغ الصعوبة. ويعود الفضل لعائلته التي لم تدخر جهداً أو مالاً في سبيل علاجه منذ عام 2010، حيث أُنفقت مبالغ طائلة تقدر بالملايين في مستشفيات مرخصة ومؤسسات شهيرة، إلا أن محاولات الانتكاس كانت تلاحقه فور خروجه. يروي "محمد " تفاصيل صادمة حول تحول "المرض" إلى تجارة تُدار بواسطة سماسرة يتقاضون عمولات مقابل "شحن" المرضى واحتجازهم قسرياً. كاشفاً "الوجه القبيح" لبعض العاملين في هذا المجال، حيث تعرض في آخر تجاربه للخيانة من قِبل صديق له كان يعمل سابقاً في مراكز علاجية. وبدلاً من مساعدته، قام الصديق بدور "السمسار"، حيث تواصل مع أهله واتفق على إيداعه داخل مركز في منطقة "العبور". مبرراً ذلك لنفسه بأن البقاء في المصحة أفضل للمريض من الموت في الشارع". وتابع "هذه المهنة فيها سماسرة يتقاضون عمولات. فإذا دفع الأهل 10 آلاف جنيه شهرياً، يحصل السمسار على 2500 جنيه عمولة . ◄ الاحتجاز القسري و"الكتف القانوني" وصف محمد لحظات قاسية تعرض فيها للتقييد والاحتجاز رغماً عن إرادته. فعلى الرغم من ذهابه في البداية برغبته أثناء وقوعه تحت تأثير المخدر، إلا أنه بمجرد إفاقته ومطالبته بالخروج، واجه رفضاً قاطعاً وتعرض للتقييد الجسدي "تكتيف" بإيعاز من السمسار الذي أقنع أهله بضرورة احتجازه قسرياً. ◄ فيلات المريوطية.. سجون خاصة بأسماء مستعارة انتقل محمد لتلقي العلاج داخل إحدى المصحات في منطقة "شبرامنت" والتي تبُعد خطوات من منطقة المريوطية، واصفاً تلك المناطق بأنها تعج بمراكز غير مرخصة. يديرها أفراد مسجلون خطر، وليسوا متخصصين أو أطباء، مستغلين غياب الرقابة الرسمية، حيث تعتمد هذه المراكز على "تفويض الأهالي" لاحتجاز أبنائهم. يروي محمد أنه قضى فترة "الديتوكس" (سحب السموم) في ظروف غير إنسانية، حيث وجد نفسه محاطاً بأشخاص غرباء في شقة سكنية لا تتوفر فيها أدنى معايير العلاج، مع غياب كامل للخصوصية أو الرعاية النفسية الصحيحة. وأوضح أن السعر "البسيط" الذي تقدمه هذه المراكز هو ما يجذب الأهالي الذين لا يفقهون شيئاً عن الأصول العلمية للعلاج، ليجدوا أبناءهم في النهاية داخل "سلخانة". ◄ منهجية التعذيب تبدأ أولى مهام العقاب في هذه المراكز بما يسمى ب "وضعية الشحن"، وهو نظام عقابي وتأديبي يتجاوز قدرة البشر على التحمل. بحسب شهادة الناجي، يُجبر النزلاء على المكوث في غرف مكتظة يصل عددهم ل75 شخصاً في غرفة واحدة، حيث ينامون "على الكراتين" أو في وضعيات قرفصاء مهينة تُعرف ب"العربية"، مع منع تام للكلام أو حتى غسل الوجه والاستحمام لمدة تصل ل 10 أيام. ويضيف "يُجبر النزيل على مسح السلالم والمكاتب طوال الليل دون نوم، ويُمنع من استخدام الماء إلا لتنظيف الأرضيات بمواد كيماوية حارقة مثل الكلور والفينيك، وسط روائح العرق والتعذيب المستمر". ◄ موت النزلاء حدث يومي يوضح علي إن الموت داخل هذه المصحات "أمر عادي"، حيث يسقط نزلاء يومياً نتيجة التعذيب أو أعراض الانسحاب التي تُدار دون إشراف طبي، وسط صمت مريب ومحاولات لإخفاء الحقائق عن الأهالي. دفعه اليأس عدة مرات للانتحار داخل المصحة ، هرباً من الجحيم الذي رآه. قائلاً: "قلت للمشرف سأقتل نفسي، فرد عليّ ببرود: نفذ فكرتك". وحتى عندما حاول المقاومة، تم اقتياده إلى غرف مظلمة تُسمى "الديتوكس" ليزداد التنكيل به. أدوية الهلوسة وفقدان الإدراك لم يتوقف الأمر عند الضرب، بل شمل "تطبيب" النزلاء قسرياً بخلطات من أدوية تسبب الهلوسة، تجعل الشخص يفقد إدراكه تماماً ويتصرف كالأطفال أو يهلوس بالسير على الجدران، وذلك لضمان السيطرة الكاملة عليهم وتحطيم إرادتهم. عجز حاد في الإمكانيات الرسمية أوضح تامر العمروسي مسئول إدارة علاج الادمان بوزارة الصحة سابقا أن أزمة المصحات غير المرخصة تعود في المقام الأول إلى وجود فجوة ضخمة بين العرض والطلب؛ حيث كشف أن عدد الأسرّة المرخصة لعلاج الإدمان في مصر سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، لا يتجاوز 10 آلاف سرير، وهو رقم لا يتناسب مطلقاً مع حجم الاحتياج في دولة يقطنها نحو 120 مليون نسمة. مشيراً إلى أن هذا العجز يضطر أهالي المرضى للجوء إلى "الأماكن المجهولة" كبديل قسري، خاصة في ظل التعقيدات الشديدة التي تواجه تراخيص المراكز الخاصة والارتفاع الباهظ في تكاليف إنشائها. سماسرة المصحات السرية وحول هوية القائمين على هذه المراكز، أكد أن معظمها يُدار بواسطة أشخاص غير مؤهلين طبياً، وغالباً ما يكونون "متعافين سابقين" أو مدمنين حاليين، استغلوا غياب الرقابة لفتح أماكن بعيدة عن أعين القانون. وبحسب تقديره، فإن مقابل كل سرير مرخص، يوجد نحو ثلاثة أضعاف من الأسرّة غير المرخصة في أماكن سرية. يوضح العمروسي أن هذه المراكز تتبع سياسة استغلالية؛ حيث تبدأ الأسعار من 3000 إلى 4000 جنيه شهرياً للطبقات الفقيرة، وتتصاعد لتصل إلى أرقام مفتوحة ومبالغ طائلة للأسر الميسورة، دون تقديم أي خدمة طبية حقيقية. انتهاكات قانونية وإنسانية خلف الأبواب المغلقة وصف ،مسئول إدارة علاج الادمان بوزارة الصحة سابقا ، أن ما يحدث داخل هذه المصحات بأنه "خروج تام عن القانون"، مؤكداً أن غياب التأهيل لدى القائمين عليها يجعل كافة أشكال الانتهاكات مباحة، بدءاً من الضرب والتجويع وصولاً إلى كافة أنواع الإيذاء البدني والنفسي، وذلك تحت شعار "العلاج بالقوة". كما أن استمرار الظاهرة يعود إلى عدة معوقات هيكلية وتشريعية، تتمثل في ، جمود قانون الصحة النفسية ،الذي يشترط أن يكون الحجز "إرادياً" للمريض، في حين أن كثيراً من مرضى الإدمان يكونون في حالة تمنعهم من اتخاذ القرار، مما يدفع الأهالي للمصحات غير المرخصة التي تقبل "الحجز القسري". كذلك ووجود شروط تعجيزية حيث تتطلب التراخيص مواصفات بنائية معقدة (مثل ضرورة أن يكون المكان إدارياً وليس سكنياً وفي مناطق محددة)، بالإضافة إلى اشتراطات الحماية المدنية وأنظمة الحريق المكلفة جداً. قُدرت تكلفة إنشاء مركز علاج إدمان مطابق للمواصفات بنحو 2 مليون جنيه كحد أدنى (بدون احتساب قيمة العقار)، وهو ما يفوق قدرة الكثيرين. اختتم العمروسي حديثه بالإشارة إلى ضرورة إعادة النظر في قواعد الترخيص لتشجيع القطاع الخاص على العمل تحت مظلة القانون، مع ضرورة إيجاد حلول تشريعية تسمح بالتعامل مع الحالات الخطرة التي تتطلب تدخلاً إلزامياً لحماية المريض والمجتمع. وفي السياق ذاته، أصدرت وزارة الداخلية، بيانًا كشفت من خلاله ملابسات صور ومقاطع فيديو تم تداولهم بمواقع التواصل الاجتماعى والمواقع الإخبارية بشأن هروب بعض الأشخاص من إحدى المصحات لعلاج الأدمان بالبدرشين بالجيزة لتعرضهم لسوء المعاملة. بالفحص تبين أن المصحة المشار إليها غير مرخصة وتم غلقها بتاريخ 14 أكتوبر الماضى عقب إستهدافها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وتم تحديد وضبط مالك المصحة ومشرفين بها "لإثنين منهم معلومات جنائية" وبمواجهتهم أقروا بقيامهم بإعادة فتح المصحة مرة آخرى دون الحصول على التراخيص اللازمة خلال شهر نوفمبر المنقضى فى إطار تحقيق أرباح مالية. تم إتخاذ الإجراءات القانونية.. والتنسيق مع الجهات المختصة لإعادة غلق المصحة.