القاص والروائي محمد عبدالنبي، ويسميه أصدقاؤه "نيبو"، صدرت له رواية جديدة عن دار "روافد" بعنوان "رجوع الشيخ". الرواية مكتوب جزء كبير منها علي لسان كهل، هو الشاعر والروائي أحمد رجائي. لمن يعرفون "نيبو"، فهو كاتب شاب يحب التقافز في كل مكان وكل ندوة، كما يستكين في البيت ليسمع أغاني من "زمن الفن الجميل". هذه هي ثنائية الشاب والكهل بداخله، وبداخل الرواية أيضاً. لم يكن عنوان "رجوع الشيخ" صدفة. هذا نص حوارنا معه بمناسبة صدور الرواية. فكرة المزاوجة بين الحدوتة وبين "احتمالات كتابة الحدوتة" في نفس الرواية. أو فكرة الكتابة عن الكتابة، ألم تستنفد أغراضها بعد؟ لا شيء يستنفد غرضه في الكتاب. في هذه الرواية أخذت قراراً بأن أرتكب كل الحماقات التي أحذر الناس منها، مثل الميتا سرد كما ذكرت. كانت لديي نفس مشكلة أحمد رجائي، بطل الرواية، هو أيضا لا يستطيع إكمال رواياته، وبالتالي، حتي يستطيع إكمال الرواية، فقد قرر إطلاق يديه في الكتابة ويرتكب كل الحماقات. انا أيضا قلت أنني سأفكر في الرواية أثناء كتابتها وأضع احتمالات مختلفة للكتابة بما ينتج في النهاية رواية تفكر في ذاتها. ولماذا تعتقد أنها حماقة؟ هي حماقة بمنطق أنه تمت كتابتها من قبل، أعني سلوك دروب مختلفة في الكتابة بحثا عن احتمالات جديدة بدون أن يكون هناك احتمال تتابعه للنهاية. هناك حالة تقافز. هناك أجزاء في الرواية تكاد تكون مجرد تخطيط لهيكلها، بما فيها تعريفات الروائي التي يضعها أحمد رجائي لنفسه، وهي التعريفات التي سرعان ما ينقلب عليها ويضع تعريفات أخري مناقضة. تعريف الروائي هو هاجس رجائي في الرواية. بما انه لا يملك خطة، ولا كتالوج للكتابة فهو يسأل طول الوقت "من هو الروائي"، وهذا يأتي في سياقات يتساءل فيها عن حياته نفسها. من الذي يحكي حكاية حياته. كم قلم يكتبها، هو وحده أم يشاركه فيها آخرون ؟!. أتساءل عن فكرة كتابة رواية علي لسان كهل. هذا قليل جداً في أدب الشباب، أليس كذلك؟ شخصية رجائي ترافقني منذ زمن طويل، أفكر فيه كشخصية وكتبت عنه الكثير في مخطوطات للرواية، إلي أن تم معادلته بوجود رجائي الصغير ومني البربري، وهما الشابان. أصبح هناك وعيان، وعي شاب وآخر كهل. لم يعد الموضوع مجرد حياة أحمد رجائي المسطحة وإنما أصبح هناك وعي قديم ليس لديه استعداد للتفاعل مع العالم ومر بسلسلة من الإحباطات، ووعي شاب يتورط في الحياة بلا خبرة. أنا أقع بين الوعيين هنا. كل شخص فينا بداخله كهل مثل أحمد رجائي يشده للاستكانة والعزلة وشاب يشده لتجربة الحياة. أنا بداخلي الإثنان. ولكنّ هناك شباباً يكتبون عن العجائز، هناك رواية "الأرملة تكتب الخطابات سرا" لطارق إمام، و"عجائز قاعدون علي دكك"، للطاهر شرقاوي. المشكلة أن معظم الأدب عن العجائز _ الذي يكتبه كهول أو شباب _ هو مكتوب من زاوية الشجن. لا يحوي سخرية. وعندي أيضا، هناك جانب من أحمد رجائي يسخر فيه من رجائي الصغير، الذي يقول "كلاما" كبيرا" ويتصور أنه بإمكانه تغيير العالم، ولكن هناك أيضاً الجانب المأساوي في شخصيته. الاهتمام باللغة كان واضحاً جداً في الرواية. اللغة كانت جميلة وجديدة، لا أنكر، ولكن الاهتمام بها بهذا الشكل ألا يصيب القارئ ببعض الملل؟ - هناك فقرات في كلام أحمد رجائي لنفسه. هذه عمادها اللغة. بيني وبينك، أنا لا أفهم السرد الذي لا يعمل علي اللغة. اكتشاف وتفجير كل إمكانيات اللغة يحقق لي متعة ذاتية. هناك مستويات يكون فيها الاهتمام باللغة واضحة، ولكن أهم شيء بالنسبة لي ألا تكون هناك إكليشيهات أو تشبيهات مكررة، وهناك في الوقت نفسه مستويات أخري تنتج شعرية للسرد مثل الوصف أو الحوار. هذا لا يمكن إقصاؤه لصالح اللعب اللغوي. اخترت بطلك من جيل السبعينيات، لماذا؟ هذا جاء بالصدفة. كنت أريد شخصا حضر انتفاضة الفقراء عام 1977 وتم سجنه فيها. كان يعتقد أنه شاعر ونسي هذا بعد السجن. هذا الجيل مشهور بإحباطاته وعقده النفسية، فكان من اللازم النظر إلي تجربته مقابل تجربة الشابين، رجائي الصغير ومني البربري. ومن خلالهما يحاول أحمد رجائي استعادة الشاب الذي كان متحمسا في السبعينيات. هذا ينتج بالنسبة له محاولة "رجوع الشيخ". في بداية الرواية هناك فقرات ساحرة من المجتمع المصري في الثلاثينيات والأربعينيات. كنت أتمني لو تواصل هذا الخط. حكاية الشيخ اكتملت بزواج أبيه وأمه ودخل هو الجامعة. ثم تبدأ الصور في التفكك في الدفتر الثاني، مع دخول رجائي الصغير ومني البربري. تبدأ الأشياء في التشظي. لا يصبح هناك التتابع السلس في قصة رجائي الأول، هناك كوابيس في أنفاق المترو بالإضافة إلي الوعي بالكتابة نفسها. وهناك الصراع بين رجائي الشاب والكهل. الشاب حركي ويكتب قصص أطفال وسيناريوهات والكهل يري الكتابة فعلا مقدسا وفرديا. لأسألك سؤالا صريحا: هل تتوقع لهذه الرواية أن تُقرأ في ظل الأحداث السياسية الساخنة؟ أنا لا أتوقع لها شيئا، كل ما أريده أن يقرأها أصدقائي وتعجبهم. وأن تكون محافظة علي خيط حكائي سلس يمكن القارئ من استكمالها. أنا لا أتحدث عن فنيات الرواية، وإنما عن المناخ السياسي الذي لا يجعل أي قارئ قادرا علي متابعة أي نوع من الأدب الآن. الرواية تحوي مشهدين من حرب 67. مرت عليهم سنوات كثيرة. وبرغم هذا من الممكن الكتابة عن الحرب. نحن نعبر الحاضر بأعين معصوبة مثلما قال كونديرا. ولأجيبك بصراحة: عندما صدرت الرواية في الاحتفال بمئوية نجيب محفوظ خجلت من إقامة أية فعاليات لها، ثم جاء اعتصام مجلس الوزراء فخجلت أيضا من إقامة أية فعالية، ثم قلت لنفسي أنني لو استمررت هكذا فلن أفعل أي شيء، لأن المناخ لن يهدأ قريبا. مناخ القراءة في مصر هو أمر ابن مليون ظرف، ولا أحد يمكنه التنبؤ به. كل ما أستطيع فعله هو الحفاظ علي خيط حكاية داخل الرواية يمكن القارئ من عبور الألعاب والمتاهات الصغير التي أحب إقامتها داخل العمل.