منذ كتابات جيل الستينات السردية وحتي لحظتنا الراهنة، لم تتوقف محاولات كسر حواجز النوع الأدبي والقفز فوق حدوده المتعارف عليها، والابتعاد به عن مجرد حكي الحكايات والتسلية وتقديم المواعظ. مست القصة في أعمال بعض جيل الستينات، حدود الشعر وانتفعت بأدواته، مما حدا بأستاذنا الكبير إدوار الخراط إلي نحت مصطلح القصة القصيدة، في كتابه "الكتابة عبر النوعية". لعل هواجس من هذا القبيل سوف تناوش القارئ المدرب علي فن القصة عند قراءته لمجموعة ضوء شفاف ينتشر بخفة للروائي والقاص أحمد زغلول الشيطي، الذي نشر أول أعماله، رواية "ورود سامة لصقر"، مع مطلع التسعينات، وقد لفتت إليه الانتباه منذ ذلك الحين. وهذه هي مجموعته القصصية الثالثة، التي يواصل بها مغامرات السرد الذي يقف علي التخوم بين الأنواع. وكتابه الأحدث هذا يجافي الشروط التقليدية والمتعارف عليها للكتابة القصصية، من أجل أن يستكشف _ وكأنما يبدأ من نقطة الصفر _ إمكانيات أخري لازالت غامضة ومراوغة، في قلب نسيج العملية السردية، إمكانيات لا تنقصها الصلات بفنون مثل الشعر الحر أو ربما بأشكال أخري أقدم، مثل الخواطر أو الصور القلمية، يتم الاستعلاء عليها بسهولة واعتبارها تدريبات تنتقص للحرفة الدربة. عنوان هذه المجموعة السردية _ إن صح هذا التعبير _ لايستمد من أي من نصوصه، بما يوحي بجو عام يغلف الكتاب ويوحد ما بين نصوصه، وهو وإن صح علي مستوي اللغة والحيل الأسلوبية، لا يصح علي التيمات التي ناوشتها النصوص، وقد تراوحت ما بين تأمل أحابيل الزمن، واستحضار شظايا من ماضي السارد، طفولته وصباه وشبابه، قد تكون وجهاً أو لحظة أو داراً، وقد تفجرها صورة فوتوغرافية عائلية أو سؤال مباشر وواضح، يطرحه الراوي في مستهل النص، علي شاكلة: "لا أدري متي بدأت معرفتي بالغجر؟" في أول سطور قصته الغجر. إلي جانب الحنين إلي الماضي، ومساءلته _ مساءلة حقيقة وجوده ومقدار مصداقيته _ هناك لعب بهدوء وتأنِ علي الفكرة الدرامية، والمجاز السردي الكبير، فتكاد تقترب من لغز صغير محير، لا يمكن الوقوف علي الحدود الفاصلة فيه ما بين الوهم والحقيقة أو الحلم وصحو الواقع اليومي. من ذلك قصة ثلاثة نمور حزينة، حيث يستقبل راويها، في بيته، زيارة من ثلاثة نمور حزينة، يعرض عليها شقته ويحضر لها الشاي، ولا يعرف فيم سوف يحدثها، ثم تدور حوله دورة أو اثنتين، قبل أن تذهب. قد نملح وراء نبرة الشجن والشاعرية المغلفة للنصوص، رغبة خفية في اللعب لا تكاد تبزغ حتي تخفت من جديد تحت أمواج العاطفية الرثة والرثاء للذات. هذا الطابع العاطفي نجح في الاستيلاء التام علي بعض نصوص الكتاب، وجعلها _ لغة وجوا وموضوعاً _ أقرب إلي الشعر الحر، وقد يبدو ذلك حتي واضحاً في بعض العناوين مثل : قصة حب _ أول قبلة _ الحب الأول...، أو في تنسيق نصين من نصوص الكتاب تنسيقاً شعرياً، حيث لا يكتمل السطر إلي نهايته. قد يحسب للكاتب شجاعته في تناول مسائل عاطفية ينظر إليها أغلب الكتاب بعين الحذر أو الاستخفاف، لكن هذه الشجاعة لم تنقذ بعض النصوص من هشاشتها، تلك الهشاشة التي تتأكد مع صغر المساحة. ثمة طيف آخر انحازت إليه بعض نصوص الكتاب، وهو الانشغال بهموم الكتابة وألاعيبها، وهو انشغال حداثي بامتياز _ فيما أظن _ حيث يتحول الفن عن الواقع إلي ذاته، مسائلا ومتأملا وأحياناً متلاعباً. وقد يجر هذا الانشغال بهموم عملية الكتابة إلي فضاء اللعب أحيانا، وهنا تكون للنصوص حيوية خاصة، وتسرب بعض الأفكار الجديرة بالتأمل، وقد انصرفت عن الحنين للماضي والرثاء للذات، مثل قصة خطة رواية، وبائعة التين الشوكي... فمجرد انكشاف اللعبة يُسقط الكثير من أقنعة الأسلوب والتخفي وراء الزخرفة العاطفية. قرب نهاية الكتاب نقرأ نصين صريحين في تناولهما لعملية الكتابة الإبداعية، حيث يفضي الكاتب فيهما بحديث حميم حول علاقته بكل من مصطفي زكري، وإدوار الخراط، في نصين متوالين، جاء أولهما "كوكي" أكثر ثراء وتعقيدا فنيا، من الثاني الذي اقترب من رسالة محبة وامتنان للأستاذ الكبير. سوف يستعيد القارئ مع هذه النصوص مقولات جمالية لم تذهب سطوتها بعد، من قبيل التكثيف والإيحاء وتقطير اللغة، مقولات بدأت كذلك من جيل الستينات وتجددت بسبل مختلفة علي أيدي الأجيال اللاحقة، وإن ظهر لها معارضون بين حين وآخر. علي سبيل المثال، بينما تبدو قصة راعي الحمام في ظاهرها استعادة لحالة تشكل المكان بالتدريج، وتحول الخلاء إلي مدينة، فإن نغمتها الخافتة، والتي يشير لها عنوانها نفسها، هي ذلك الصبي الذي يختلس النظر إلي سطح الجار ليري الحمام في الأقفاص، وقرب نهاية القصة يعاود الظهور في الثالثة عشرة من عمره، ملوحا للحمام بالراية ليعود إلي عشه. الصبي هو الحبكة الجانبية المدعمة، إن صح هذا الاصطلاح العتيق التقليدي هنا، لعملية تغير وجه المدينة، مع تقدم الزمن. أظن أن الوعي بالمسافة، زمنيا ومكانيا، وتأملها ومساءلتها، لعب دورا أساسيا في تشكيل نصوص هذا الكتاب. ولعل المسافة من الذات ليست أقل حضورا من الوعي بالمسافة الممتدة خارجيا في الزمن والمكان، ولعل قصة ليس أنا أوضح نصوص الكتاب في تقديم هذا الوعي بالأنا الآخر، الذي يكاد يستلب الذات ويبتلعها بداخله. الكتاب: ضوء شفاف ينتشر بخفة المؤلف: أحمد زغلول الشيطي الناشر: دار ميريت