كنت في طريقي لا أعرف إلي أين، حينما مررت بشارع الشريفين. وفيما كنت أمر أمام باب مبني الإذاعة، اصطدمت بشخص كان يخرج منه مهرولا، وتبين أنه بهاء. تهلل وجهه بمجرد اكتشافه أنه اصطدم بي أنا، ورفع رأسه بابتسامة شكر إلي السماء. ولم تمض دقائق حتي كنت جالسا وحدي، في مقهي قريب من الإذاعة، أمامي منضدة رخامية، عليها نسخة من كتاب بالإنجليزية عنوانه "طاوي" "My Tao"، وفنجان قهوة. اتفقت مع بهاء علي أن آخذ فنجان قهوة، وأتصفح "طاوي"، وفي هذه الأثناء يكون هو قد جهز لي تصريح الدخول. قال إنه يريدني أن أتكلم لمدة عشر دقائق عن هذا الكتاب، فالضيف المتفق معه لم يحضر، ولم يعتذر، وإن له أي لبهاء فلوسا في الإذاعة لن يحصل عليها لو لم يسلمهم هذه الحلقة. ليس مهما إذن ما سأقوله، ولكن المهم أن يقال شيء. أن تمتلئ الدقائق العشر بأي لغو والسلام. كان قد قال لي إن الكتاب مفاجأة. هو سيرة ذاتية لمؤلفه، فهمت من الغلاف أن المؤلف ترك بلده إلي ألمانيا حيث تعرف هناك ب آيتن. رحت أقلب الكتاب بين يدي، متجاهلا مقدمة الناشر، مركزا علي شهادات الصحف الغربية التي لم تزد عن "مذهل"، و"عمل لا تشوبه شائبة"، "تجربة حياة لا تفوقها روعة إلا اللغة التي اقتنصتها". يمكن أن أنسب هذه العبارات إلي نفسي، أو حتي أن أنسبها إلي الصحف نفسها، مدللا بذلك علي سعة اطلاعي، ومتابعتي جرائد غربية مختلفة. وقفت أيضا عند صفحات صدَّرت بها آيتن كتاب زوجها، فكان بين ما قالته: "لولاي، لولا لقاؤه بي، لما تعلم حبها، ولما عاش حياته يعلمكم حبها. لا أقول إنني الإلهة التي أرسلته إليكم، ولا أقول إنني ملهمته، أقول فقط ما يقوله هو عني: لولا السرير والمطبخ، لكانت آيتن الأفضل بين الجميع". ما هذه التي أحبها؟ النظرة السريعة للسطور لاتكشف شيئا. لعلها الحياة. آيتن علمته حب الحياة، وهو علمنا ذلك فيما بعد. بعد مقدمة الناشر، ومقدمة آيتن، تبدأ قصائد، صفحات تلو صفحات، في أغلبها أكثر من قصيدة، وصفحات أخري فيها نثر هو في الغالب ما لم يسستوعبه الشعر من سيرته الذاتية، ثم صفحات أخري من الشعر، فصفحات من السيرة. وإذن، فالمؤلف يحكي حياته بقصائده. ها هي جملة أخري نقولها في البرنامج. وهذا طبعا ما جعل بهاء يبتسم. فإذا كان هذا شعر، ومكتوب بالألمانية، فمن خير مني له؟ أوبَّا، بهاء. كان الموعد قد حان، إذ فرغ فنجان القهوة، وتحتم عليَّ فورا أن أتحرك إلي الإذاعة. قلت لبهاء ونحن في الطريق إلي الاستوديو: حاول أن تتكلم أنت أكثر مني .. أنا تقريبا ليس لدي ما أقوله. أوقفني ممسكا بذراعي: أنا أصلا لن أدخل الاستوديو. ستكون وحدك. هذه فكرة البرنامج. ثم من هذا الذي ليس لديه ما يقوله؟ إذا كان أحد في الدنيا يعرف "عم سمكة" فعلا فهو أنت. أنت الوحيد الذي أكلك. ولولا أنك مت لكنت أنت أول من فكرت فيه ليكون المتحدث في هذه الحلقة. ليس مطلوبا منك وقد ردك الله إلي الحياة، إلا أن تتذكر كيف كان عم سمكة. انس الكتاب الذي في يدك تماما. كأنه ليس موجودا. احك الحكاية من طقطق لسلامه عليكم، لكن في عشر دقائق، لا تسهب وحياة والدك. وأخذ الكتاب مني، ودفعني إلي غرفة أغلقها خلفي. طبعا لم تكن زنزانة، أو مقبرة. كان بوسعي إن التفتُّ إلي الباب الموصد من ورائي أن أجد مقبضا عاديا أديره وأخرج. لكن كانت هناك أيضا مائدة مستديرة، عليها ميكروفون، جلست أمامه، وأنا أراجع: "مذهل"، "لا تشوبه شائبة"، والمفضلة لدي "تجربة حياة لا تفوقها روعة إلا اللغة التي اقتنصتها". كنت أراجع الجمل ساخرا من نفسي، ومن تصوراتي. ذاهلا في كلمتين قالهما بهاء ببساطة: عم سمكة. كانت بين يدي إذن سيرة عم سمكة. في اللحظة التي ذكر فيها بهاء الاسم رأيته أمام عيني: عم سمكة، الضخم، الجميل، الدب الأكثر شعبية في حديقة حيوان الجيزة. رأيت بوضوح أنني كنت حارسه، وأن أدباء الستينيات كانوا يأتون كل جمعة فيشاهدون معجزة علاقتي وإياه، ثم يذهبون إلي ندوة نجيب محفوظ. وأن أطفالا كانوا يحبوننا، وزوارا من بلاد أخري، وزوارا مهمين أيضا، رأيت نفسي في صورة واحدة مع ناصر، وجيفارا، وعم سمكة من ورائنا يبتسم للعدسة. أكلني إذن. وهذا يبرر كل الشعر الذي في الكتاب. عرف ابن الحرام كيف يفرزني. لكن، من آيتن؟ وما أو من التي علمته حبها فعلم الناس حبها؟ لا أعتقد أن هذه هي الأسئلة المهمة. كل الناس الآن منتظرون إجابة سؤال آخر: لماذا أكلني عم سمكة، برغم كل الحب الذي كان بيني وبينه؟ المستمعين الكرام: أنا أعرف مثل البعض منكم أن الدعاء الصادق يغير القدر. ويبدو أن أخانا بهاء دعا الله دعوة استجاب لها الله فأعادني إلي الحياة. لا أعتقد أنكم تتوقعون مني إفشاء أسرار العالم الآخر، فأنا هناك، كما تعلمون، ميت، وتعلمون طبعا أن قدرة الميت علي الملاحظة والفهم تكون في أدني مستوياتها، أي منعدمة تماما. لكن لا بد أنكم تتساءلون كيف أكلني عم سمكة برغم ما كان بيننا من حب. والإجابة الوحيدة هي أنه بالتأكيد كان جائعا. شكرا لكم تنكت حضرتك؟ ليست هذه لغة بهاء. ولا هذه نبرته. إنه هادئ دائما، مبتسم، أكثر تهذيبا من نائم، وأقل من ميت. كنت لم أزل جالسا والميكروفون أمامي، وهو واقف مانعا بذراعيه الباب أن ينغلق. كررت كلامي مرة أخري في ذهني، ولم أجد فيما قلته شيئا قد يؤذيه وظيفيا. أو حتي ما يعد سخرية منه، أو من البرنامج، أو من الشعب (في الستينيات لم يكن للإذاعة مستمعون، بل شعب). أكلك لأنه جائع؟ ولماذا إذن حينما نجوع لا نأكل بعضنا البعض لأننا نأكل أشياء أخري يا بهاء نظر إليَّ باندهاش كأنني كائن فضائي، أو علي أقل تقدير شخص مجنون، وقال بنبرته الأبوية النعسانة: ماذا جري لك هناك؟ ابتسمت وقلت له: بعينك، إلا الكلام عن العالم الآخر، وعلي فكرة، أنا رفضت عروضا مغرية للكلام هناك عن الدنيا هم هناك لا يعرفون عن الدنيا؟ نظرت إليه محذرا: وبعد؟ سكت بهاء. ثم عاد فقال: طيب علي الأقل، حاول أن تضيف شيئا، ما قلته لا يكمل دقيقة كلام، حاول أن تستفيض قليلا. أنت كنت ثرثارا يا صاحبي، ماذا جري لك؟ لم أكن ثرثارا أبدا. وأعتقد أنني قبل موتي كنت سأعتبر وصفي بالثرثار إهانة. خصوصا من قاص. لكن يبدو أن علاقتي ببهاء كانت تسمح له بتوجيه إهانة من هذا النوع. بهاء، أنت لم تزرني أنا وعم سمكة في الحديقة؟ لا لماذا يا ...؟ في حين أمسكت أنا نفسي وتغاضيت عن وصفه لي بالثرثار، غضب هو من وصفي له بال .... غريب أمر بهاء. نحن في النهاية كنا زميلين. أنا شاعر وهو قاص. والدولة كانت في تلك الأيام تحبني أكثر مما تحبه، فقد كان مزاج الدولة الأدبي يميل للأديب الكمسري، والأديب الفرّاش، والأديب بائع اللب، وأنا كنت الشاعر حارس الدب في حديقة الحيوان. بينما هو كان القاص المذيع،