بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، كنت مندهشا وفخورا في آن واحد، عندما سمعت اسم مدينتي يتردد في الإذاعة البريطانية، ظلت النشرات الإخبارية التي تابعتها بشغف، تكرر اسم المدينة، وتصف مكانها، كنت أسمع كأنني أكتشف موقع مدينتي لأول مرة، أو كأنني أعرف وصفا جديدا لمدينتي، أين تقع السويس؟ عندما تنظر إلي خريطة مصر تعرف أنها بالقطع في شمال شرقي البلاد، مدن القناة وسيناء كلها تقع شمال شرقي البلاد، ولكن عندما يخرج هذا الوصف من إذاعة لندن العريقة، ليبث إلي أصقاع الدنيا، عندما تخرج مدينتي من القمقم، كما يخرج المارد، عندما يسمع العالم أنين المريض وآهات الذبيح وبكاء المساكين يدوي في أسماع العالم، هنا لابد أن نقف لنسمع ونري! من هنا بدأت شرارة جديدة لثورة الشباب، ثورة لم تتعود عليها مصر، لم نسمع عن ثورة من 52، منذ حوالي ستة عقود النسبة الكبري من الشهداء كانوا من أبناء السويس، ضحوا بأنفسهم وأرواحهم في سبيل الوطن. في السويس كانت الثورة لتحارب طواغيت العهد الماضي وأذنابه، تحلق المتظاهرون حول مواضع الألم، كانوا يتحسسون أماكن التقيحات والثآليل التي نبتت في جسد المدينة وأرهقتها، يتحسسونها ليفقأوها، تجمهروا حول مبني المحافظة، وأقسام الشرطة، وأمن الدولة وبعض الأماكن الحكومية الأخري معبرين عن سخطهم من الهول والآلام التي يلاقونها في حياتهم اليومية البسيطة، كل صبح ومساء من أجل رغيف خبز أو بحثا عن وظيفة، لم تكن الآلام تبارحنا في الليل أو النهار. الحمد لله، بعد الثورة أحسست كأن صخرة رابضة علي قلبي أزيلت ، واستطعت أن أنهض وأتنفس وأتكلم، وأن أشعر أن لكلامي معني، وأن هناك من يستمع، وينتبه ويستجيب ويرد علي كلامي. كانت تلك الصخرة جاثمة علي أفعالي، كنت - مثل الآخرين - نتكلم علي سبيل "طق الحنك" كما يقولون - ليس أكثر. كان لابد أن يسقط النظام، ويسقط معه كهنته، تلك هي الحاشية الضالة المضلة، كهنة الطاغوت، حاملي مباخر الفرعون، اتخذوا من النهم والجشع والطمع آلهة لهم يقدسونها أينما ذهبوا، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه! استحلوا لأنفسهم - ولأنفسهم فقط - مقدرات الشعب، نهبوا أراضيه، وتحايلوا علي أمواله، أفقرونا حتي جعلوا زعيمهم يقف مخاطبا شعبه: أجيب لكم منين؟ اعتقدنا بالفعل أننا فقراء، وأن الدولة مطحونة، لم نكن ندري! ومنا المثقفون أيضا - لم نكن ندري أنهم يحوزون قصورا فارهة، داخل البلاد وخارجها، ويتنعمون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وكانت أموالنا تتسرب في الخفاء إلي حساباتهم في شتي أصقاع العالم. الحمد لله، سقط هؤلاء الطواغيت، والبقية تأتي تباعا، لابد لنا أن نقيض بلهفة واهتمام علي تلك اللحظات الثمينة التي تعيشها البلاد، حتي تستطيع الدولة أن تقف علي قدميها، علي أسس راسخة من العدالة والحرية والمساواة. أشرق علينا نور ساطع، هذه هي الأيام المقدسة، أيام المخاض، فيها نتطلع، وكلنا أمل إلي مستقبل مشرق ملئ بالخير لمصرنا العزيزة، مستقبل يجد فيه كل أبنائنا تعليما حقيقيا، فيه الأصالة والمعاصرة، نقضي فيه علي نظام بائد، فيه يتقيأ الطالب المعلومات للحصول علي أعلي الدرجات، وكفي نظام يبث الروح الخلاقة في نفوس أبنائنا، ويتأكدوا أنهم لا يتعلمون من أجل أكل ولا شرب، فقد ضمن الله الأرزاق، وإنما يتعلمون لأغراض أسمي من هذا. إننا نتطلع إلي مستقبل يجد فيه كل شاب وظيفة حقيقية مقنعة، وليست بطالة مقنعة، ويجد فيه الفقير إعانة لفقره، ويجد فيه المريض مكانا مناسبا وعلاجا يليق بكرامة الإنسان، يحصل فيه المبطل عن العمل إعانة لبطالته، حتي يجد عملا مناسبا له. أهلا بك 25 يناير لتسجل في التاريخ نهاية لكابوس، وبداية عصر جديد، ينعم فيه الناس بانتهاء الرشوة والفساد والمحسوبية. من الأخطاء الجسيمة أن تفرط الدولة في أراضيها بهذه السهولة، قلبي يهيض عندما كنت أسمع كلمة "تخصيص"، فمن الذي خصص لمن؟ وبأي حق؟ يهيض قلبي عندما كنت أسمع عن مئات بل وآلاف الأفدنة فرط فيها حكامنا ووزراؤنا بكل بساطة، لأغراض في نفوسهم! أحزن أيضا حينما أسمع كلمة بالأمر المباشر، في الدولة جهاز يسمي التخطيط العمراني، أين هو؟ لابد أن نوقظ هذا الجهاز، وأن نسلمه خريطة مصر مرة ثانية، وأن نوصيه بالحفاظ علي الأراضي والمقدرات، وأن يحافظ علي الشواطئ وأن تكون ارتيادها للجميع، وأن يحافظ علي الأراضي الباقية للأجيال القادمة، حتي يجد المصريون جميعا، وليس فئة بعينها، يجدوا أماكن يعيشون عليها، وهواء يتنفسونه، وشواطئ يرتادونها، وأن نعيد الشواطئ إلي حظيرة الدولة، أن تعيد الدولة النظر إلي المواطن العادي، وتهتم به، وتبقي له قري سياحية كما للنخبة، وأن تشرف عليها وتحولها إلي أماكن للجميع، وليست لفئة بعينها. لابد من الآن أن يكون هناك توصيف وظيفي ملزم لصلاحيات كل موظف في الدولة، ابتداء من رئيس الجمهورية، مرورا بالوزراء ووكلاء الوزارات وانتهاء بالعامل البسيط، لابد أن يعلم الجميع أن هذه الوظائف خدمية، هي تكليف وليست تشريف، لابد أن يعي ذلك كل من تقلد منصبا. نتطلع أن تكون هناك مساواة في الفرص أمام الشباب في التوظيف في القطاعات المختلفة، نتطلع أن تستكمل الهيئات القضائية بما ألقي عليها من مسئوليات جمة هذه الأيام، لتسترد لنا الأراضي والأموال من مصاصي الدماء والأفاقين الذين كانوا يرتعون ويتقلبون في الأرض، نتطلع أن تعًمل الدولة حسابا للأجيال القادمة، وأن تحافظ علي الأراضي والمقدرات، ولا تبذرها هكذا هباء، لتكون في أيدي حفنة قليلة، نكتفي بتوزيع فدان واحد أو اثنين لشباب الجمعيات الجادة التي تقوم بالاستصلاح الزراعي، لابد أن نسأل أنفسنا سؤالا بديهيا: كم سيكون عددنا بعد مائة أو مائتي عام؟ وماذا سيحتاجون؟ وماذا تركنا لهم من نظام لهذه الثروة من الأراضي وغيرها، لابد أن نسأل أنفسنا: ماذا أعددنا لمستقبل مصر بعد خمسين، أو بعد مائة، بل بعد مئات السنين من الآن.