خبيرة أسواق المال ل"فيتو": البورصة في فترة تصحيح وضريبة الأرباح الرأسمالية سبب تراجع المؤشرات    ما أسباب خصم الرصيد من العدادات مسبقة الدفع بالمنازل والمحال المغلقة؟ الكهرباء تجيب    محافظ الدقهلية: تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال يحقق الانضباط في الشارع    وزير المالية الإسرائيلي: المبادرة المصرية تشكل خنوعا إسرائيليا خطيرا وانتصارا كارثيا لحماس    ثلاثة لاعبين في قائمة برشلونة لتدعيم خط وسط الفريق    محافظ قنا يعلن الطوارئ وغلق الطرق السريعة لحين استقرار الأحوال الجوية    هشام عباس وعلي الحجار والكابو يشاركون بحفل مصطفى قمر في الشيخ زايد (صور)    خبير: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    رئاسة COP28: نحرص على تعزيز التعاون الدولي لإنجاز عمل مناخي فعال وداعم للتنمية    الري: الإسراع في برنامج تطهير الترع استعدادا لفترة أقصى الاحتياجات    تعليم النواب: رصدنا تحصيل بعض المدارس رسوما من الطلاب لتصوير الامتحانات الشهرية    الاحتلال يمنع الفلسطينيين من صلاة الجمعة بالأقصى .. وبيان عاجل ل حماس    شركة أمبري البريطانية تعلن عن حادث قرب المخا اليمنية    مسؤول يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا.. فيديو    تكريم الطالب كريم عبد الرازق في ختام فعاليات مهرجان الأنشطة الطلابية الأول بجامعة السويس    خليفة كلوب.. ليفربول وفينورد يضعان اللمسات الأخيرة بشأن آرني سلوت    بتفوقه على الأهلي والزمالك.. بيراميدز يتوج بطلًا لدوري الجمهورية 2009 (فيديو)    موقف مفاجئ من مبابي لحسم انتقاله إلى ريال مدريد    فانتازي يلا كورة.. الثلاثي الذهبي في أرسنال    أداء الفرسان مشرف.. برلمانية: مدينة مصر للألعاب الأولمبية فخر لكل العرب    أوقاف القليوبية : افتتاح 16 مسجدا خلال 4 أشهر    "كتيبة إعدام" قتلت "جهاد".. ضبط المتهمين بإشعال النار في طفلة انتقامًا من أسرتها بالفيوم    بيان عاجل من جامعة حلوان بشأن حالة الطالبة سارة هشام    برقم غير متوقع .. مي كساب تبرز رشاقتها بهذه الإطلالة من دبي    ماجدة الرومي تبدأ حفلها بقصر عابدين بكلمة في حب مصر.. صور    بإقبال كبير.. اختتام فعاليات القافلة الثقافية بالبحيرة    خطبة الجمعة من سيناء| د. هشام عبدالعزيز: حسن الخلق أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة وهذه أهم تطبيقاته في الإسلام    فضل المشي لأداء الصلاة في المسجد.. لن تتخيل ماذا أعد الله للمؤمنين    الصحة: إجراء الفحص الطبي ل مليون و688 ألف شاب وفتاة ضمن مبادرة "فحص المقبلين على الزواج"    لقاح شينجريكس.. تفاصيل طرح مصل جديد للوقاية من الإصابة بالحزام الناري.. صور    بالصور- نجاح أول جراحة لتركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية في بني سويف    بعد غياب.. ملتقى القاهرة الأدبي في دورته السادسة يعقد مناقشاته حول المدينة والذاكرة    في ذكرى ميلاد الراحلة هالة فؤاد.. لماذا حاول أحمد زكي الانتحار بسببها؟    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    «مياه دمياط»: انقطاع المياه عن بعض المناطق لمدة 8 ساعات غدًا    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    المفتي: ثورة 30 يونيو كانت تحريرًا لأرض مصر من أفكار خاطئة (فيديو)    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    الخارجية الأمريكية تعلق فرض عقوبات على كتيبة "نتساح يهودا" الإسرائيلية    البيت الأبيض يواصل مساعيه للإفراج عن المحتجزين فى قطاع غزة رغم رفض حماس    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    قبل شم النسيم.. الصحة توجه تعليمات شديدة الأهمية للمواطنين    سويسرا تؤيد خطة مُساعدات لأوكرانيا بقيمة 5.5 مليار دولار    منها «ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن».. 7 أهداف للحوار الوطني    مواصفات امتحان اللغة العربية لطلاب الصف الثالث الثانوي 2024 (تفاصيل)    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فارس الدائرة المشئومة
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 07 - 2016

في سنوات الثلاثينيات. كان التكوين الثقافي وكانت بواكير الإنتاج القصصي لموجة جديدة من كتاب القصة المصرية القصيرة والطويلة، موجة أكثر عروبة أو أكثر مصرية وأصالة من الموجة السابقة في حقل القصة، بعد أن عبدت لها بواكير الرواد الطريق في العقدين السابقين: المازني. وهيكل. وجورجي زيدان، وعيسي عبيد، وطاهر لاشين، وجمعة، وغيرهم وكانت حركة أبوللو الشعرية في أوجها، وجيل الرواد يزداد خصوبة وإنتاجا وفكرا في الإبداع والدراسة، وكانت الحركة الفكرية تناقش اتجاهاتها بين الأصالة والمعاصرة: الاتجاه الأسلامي . والاتجاه القومي العروبي. والاتجاه الإقليمي المحلي. والكل. من يومها. في حيص بيص. حيال حضارة الغرب المادية الحديثة. بنظاميها الرأسمالي. والاشتراكي. بين نافر ومؤيد. وموفق للرؤوس في حلالات الفكر وجازم بالتحريم في لقاء الشرق والغرب، والمادة والروح.
وفي هذا الجو الفكري العاصف، والزاخر والكل يبحث عن فلسفة وهوية، كان التكوين الثقافي لأعلام الموجة الجديدة من كتاب القصة المصرية القصيرة والطويلة، وصار أبرزهم في سنوات الثلاثينيات. متوزعا بين الاتجاه في القص - إلي موضوعات التراث التاريخية - العربية - والفرعونية. والاسلامية: العريان. أبو حديد مثلا
استغرقتها موضوعات التراث الإسلامي والعربي. ومعهما كان . باكثير والسحار، وكان كلاهما عضوا بلجنة النشر للجامعيين . مع سيد قطب و نجيب محفوظ وعادل كامل .والاخيران شدتهما إليها في البداية موضوعات التراث الفرعوني. فكتب نجيب. ثلاثيته الفرعونية وبينها رادوبيس و عبث الأقدار وكتب عادل كامل روايته ملك من شعاع وكان هذان الاثنان أكثر انفلاتا بين أعلام موجتهم من حقل التراث عامة. فسار عادل كامل بروايته مليم الأكبر في طريق جديد طريق المحلية المصرية العصرية ومثله فعل فيما بعد نجيب محفوظ حين كتب خان الخليلي بعيدا عن موضوعات التاريخ والتراث، والمعالجة القصصية المباشرة لهما.
وكان عادل كامل أحد الوجوه القليلة التي وعتها ذاكرتي بين أعلام هذه الموجة الجديدة من القصاصين وعن معرفتي بعادل كامل وبفنه القصصي. وانطباعا. لا تأريخا ولانقدا سيكون هذا المقال القصير.
ضباب ورماد
في أواخر الأربعينيات، كنا ثلاثة نرتاد المكتبة العامة، بحي المختلط بمدينة المنصورة كانت المكتبة فيما مضي . استراحة لاحدي أميرات القصر الملكي علي شاطي النيل. وكانت لهذه الاستراحة درجات تصل إلي النهر، يرسو عليه قارب للأميرة. وحلقات حديدية يشد إليها قارب الأمير وصارت الاستراحة في العهد الملكي مكتبة للمدينة تتبع دار الكتب المصرية في باب الخلق بالقاهرة. واحدة من سبعة وعشرين مكتبة تابعة لدار الكتب. في مدن مصر الكبري، وعواصم مديرياتها.
كان قيم المكتبة هوالشيخ أمين كان رجلا طيبا يعشق الثقافة، ويحب روادها المدمنين للقراءة، وبينهم كنا نحن الثلاثة: عبد الجليل حسن . أبو المعاطي أبو النجا، وأنا وبلغت علاقتنا بالمكتبة وبقيمها الشيخ أمين أننا كنا نتردد عليها في أوقات عملها عدا يوم الجمعة، في الصباح، وفي المساء وصرنا بين مساعدي الشيخ أمين نتجول في صالات الكتب الداخلية بها بين دواليب تحمل ثلاثين ألف كتاب فلم يكن نظامها نظام المكتبات المفتوحة وننتقي لأنفسنا مانقرؤه ونجلب للرواد ما يريدونه من كتب، حين يكون المساعد الوحيد للشيخ أمين غائبا وكثيرا مايغيب مطمئنا إلي وجودنا دائما.
وقعت عيني علي صف لأعداد مجلة »المقتطف« رحت أتجول بين صفحاتها أياما- وقرأت فيها . بين ماقرأته . عملين أدبيين هامين للغاية: أحدهما كان محاورة أدبية ونقدية مترجمة. حول الإبداع والنقد. اشترك فيها ثلاثة: كان أحدهم ناقدا أدبيا والثاني عالم طبيعة والثالث عالم رياضة هو إينشتين صاحب نظرية النسبية، وكنت قد قرأت فيها كتاب نظرية النسبية العامة لمشرفة، وفهمت ماكتبه مشرفة عنها، لكن كتابه الآخر عن . النسبية الخاصة كان مليئا بالمعادلات الرياضية فعز علي التواصل معه ودهشت لما قرأته في المحاورة فها هو إينشتين وصاحبه عالم الطبيعة يفهمان عن الإبداع والنقد أكثر مما يفهمه ناقد الأدب.
العمل الهام الآخر كان قصة لعادل كامل، تحمل عنوان »ضباب ورماد« ولم آلف علي صفحات أعداد المقتطف نشرها لقصة، ولقصة مؤلفة، ولكاتب مصري. كانت القصة قصيرة طويلة. وتستغرق فيما اذكر أكثر من عشرين صفحة من صفحات عدد مجلة المقتطف الذي نشرت به قرأت القصة مبهورا. مسحورا. لاهث الأنفاس كانت القصة مغامرة روحية نفسية لفيض من المشاعر والأحاسيس، لا حدث فيها يحكي، عالما متتابعا من الصور والرؤي، لاتخلو من دفق وجودي وتحديق إلي الداخل كما ينطبع عليه العالم الخارجي واللغة فيها لغة فريدة وجديدة في القص القصير والطويل لاعهد لي بنصاعة نصاعتها والصور باهرة التكوين والزمن فيها يتداخل بانسياب في ظل زمني واحد، والمشاعر حرة طليقة كما الطير في السماوات.
وفيما بعد إذ وفدت إلي القاهرة في الخمسينيات واتسعت دوائر قراءتي للمترجمات أدركت صلة هذا اللون من القص بعوالم جويس، وفرجينيا وولف، وبروست، وفيما بعد في الخمسينيات تذكرت أن تاريخ نشر هذه القصة بالمقتطف، كان في مطالع الثلاثينيات.
وحدثت نفسي أن عادل كامل بهذه القصة . كان رائدا حقيقيا. وأنه كان سابقا لزمانه وأوانه، وحزنت لتوقفه عن القص ولقد استغرقت القصة المصرية زمنا.حتي بدت لاتجاهها الفني إطلالات في قصص قصاصي الستينيات مجرد إطلالات لاترقي إلي مستوي »ضباب ورماد« لغة، وبناء وصورا، وعالما طليقا في الزمن والمشاعر وأشك أن واحدا منهم قد قرأ هذه القصة القديمة العهد التي لم تنشر في كتاب.
مليم الأكبر
في القاهرة، في سنوات الخمسينيات قرأت للمرة الأولي، رواية »مليم الأكبر« لعادل كامل كانت سياقا فنيا آخر، غير سياق «ضباب ورماد» شحنة من الواقعية والعنفوان حدثت نفسي أن هذا كاتب حقيقي له روح نيتشوي النزعة في اختيار لموضوعه وفي روايته بل وفي شخوصه ولغته وحوارات ناسه في عالم روايته كاتب حقيقي له عالم واقعي خاص يفيض بروح الدراما، بين فنانين ضائعين في جيل ضائع في »غرف مقبضة« في حارة شعبية ساكنة، ثابتة العادات، رتيبة الحركة.
عدت أقرأ مقدمة عادل كامل بين يدي الرواية- القوة في المقدمة هي نفسها التي وجدتها في الرواية اللغة الطليقة. والارادة الحرة المتحدية التي تريد خلق العالم من جديد وإعادة صياغته، هي التي لناسه في الرواية كان عادل كامل قد كتب هذه الرواية عام 1936 ولم يتح له نشرها لأول مرة في كتاب لأسباب لا أعلمها
(وقد كان عضوا بلجنة النشر للجامعيين) إلا في عام1943، ولم تنشر فصولها في »الرواية« الملحق القصصي لمجلة الرسالة الزياتية) التي كان ينشر بها نجيب محفوظ أقاصيصه الأولي. وكان «عادل كامل» قد تقدم بهذه الرواية لينال جائزة »مجمع فؤاد الأول للغة العربية« (مجمع اللغة العربية الآن) وأبت اللجنة في تقريرها أن تمنح هذه الرواية الجائزة وقد منحها المجمع لرواية »لقيطة« لمحمد عبدالحليم عبدالله
(ربما لم يكن ذلك في نفس السنة) وعجبت لذوق أعضاء المجمع فلقيطة كانت الباكورة الأولي لمؤلفها وكانت مليئة بالسجع والمحسنات البديعة الأخري، وكان عالمها ميلودراميا يستدر العواطف في استجداء، وتبدو لغتها الفاظا وصورا وتراكيب كأنها خارجة لتوها من معطف «المنفلوطي» و «الرافعي» و «الزيات» غارقة في قيود النثر الفني غرق الشعر القيم في قيوده، وثار عادل كامل في مقدمته ضد المجمع ثورة فنية عارمة شعرت بالحزن لعادل كامل: كيف لم يدرك آنذاك أن عليه أن يسبح في مياه أخري غير مياه المجمع (آنذاك) أو كيف تستدرجه جائزته أويخدع بمعني هذه الجائزة لكاتب مثله وأيقنت أنه أخطأ التقدير لنفسه ولروايته وقدرت أنه ربما لهذا السبب وغيره من الأسباب التي لا أعلمها، توقف عادل كامل عن كتابة القصة وكان المثقفون يتحدثون آنذاك عمن توقفوا عن القص، وعن الشعر وعن التأليف المسرحي، وأدركت أن عادل كامل بروايته »مليم الأكبر« وفي التاريخ الذي كتبت فيه عام 1936 كان سابقا في ارتياد الابداع القصصي في تيار الواقعية النقدية لنجيب محفوظ صاحب »خان الخليلي« و»بداية ونهاية« ففي الوقت الذي كتب فيه عادل كامل قصة »ضباب ورماد« ورواية »مليم الاكبر« كان نجيب يكتب أقاصيصه الأولي علي صفحات »الرواية« بين عامي 1932، 1942 ويجهد للاقتراب من لغة القص وبساطة اللغة، والواقعية في قصص أكثرها يعد من باب المفارقة، والنكتة قصص بالعشرات لم يختر منها نجيب سوي عدد محدود، نشره في مجموعته الأولي »همس الجنون«.
ورفض نشرها سائرها في مجموعات أخري.
ملك من شعاع
بين دعاة الاقليمية أو المحلية في الادب في سنوات الثلاثينيات كان عادل كامل، ونجيب محفوظ وليس لأحدهما.. فيما أعرفه مقال في هذا الصدد. لكن نزوعهما إلي هذا الاتجاه كان واضحا، فيما أبدعاه من روايات نجيب محفوظ كتب ثلاثة أعمال روائية في التاريخ الفرعوني بينهما: »رادوبيس« و»عبث الاقدار« وعادل كامل كتب روايته التاريخية اليتيمة »ملك من شعاع« عن أخناتون الملك موحد الألهة في إله واحد: هو »الشمس«.
ولأن الدعوة للإقليمية بمعناها الخاص، بالتراث الفرعوني وبإمكان ربط الواقع المصري لمصر بحضارة بادت وانقطعت فكرا ولغة باللغة القبطية ثم باللغة العربية وبالحضارة اليونانية ثم الرومانية ثم العربية الإسلامية فقد أخذت هذه الدعوة الاقليمية معني جديدا عند نجيب محفوظ وعادل كامل معني المحلية المصرية والعصرية فكانت »مليم الاكبر« وكانت »خان الخليلي« وإذ توقف »عادل كامل« بعد »مليم الاكبر« عن القص استمر »نجيب محفوظ« فيه فقد أضاف نجيب الي نزعته المحلية المصرية العصرية وفي ثنايا رواياته معني »الايمان« بصورته الاسلامية الصوفية التي تمثلت في بعض شخصياته، وراح يضفرها في : ثلاثيته، وحرافيشه، وحاراته، جنبا الي جنب مع : زيطة، والموظفين، والفتوات، واليساريين، والوفديين،والإخوان وأحسب أن عادل كامل لو استمر في القص لانتهي به الأمر الي نفس الطريق وإن تغيرت الرؤية وتغيرت التجارب وتغيرت طريقة المعالجة والتعبير.
عالم واحد وهو عالم »ملك من شعاع« و»رادوبيس« و»عبث الاقدار« لكن رواية »ملك من شعاع« تبدو لي كرواية سامقة روائيا قصا وفن قص، علي فرعونيات نجيب ويزداد أساي لفقد القص المصري لصنو ونظير لنجيب محفوظ وما قدرت عمق العلاقة بين الاثنين خاصة وهما أبناء حقبة واحدة ورفيقا عمر، علي كثرة لقاءاتي بنجيب في مقهي الأوبرا حتي أتيحت لي الفرصة للقاء عادل كامل.
الدائرة المشؤومة
عام 1959 عملت شهورا كصحفي بصحيفة الجمهورية كان سعد وهبة كاتب المسرح يعمل بالصحيفة نائبا لرئيس التحرير وكان يشرف علي تحريرصفحة منوعة مثيرة بالصحيفة الصفحة الخامسة بالتحديد عرضت عليه إدارة حديث صحفي مع »عادل كامل« صاحب »مليم الاكبر« وكان بها شهيرا بين كتاب القصة في مصر ولم اكن قد كتبت سوي أربع قصص أوخمس نشرتها بمجلة الآداب وأذيعت من البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة لكن معرفتي بعالم القصاصين في مصر كان طيبا وافق سعد علي الفكرة وكنت أعرف أن عادل كامل قد صار محاميا منذ منتصف الأربعينيات وذهبت للقائه.
كان مدخل مكتبه مليئا بشوانين الملفات والبطاقات والموظفين والمحامين وخرج من باب جانبي رجل ربعة جاوز الأربعين ببضع سنين مصري الوجه أسمر راعني انحناؤه وهو يصافحني وراعني هذا المنديل الأبيض الذي يدسه في كم يسراه، مثل لورد انجليزي. وصحبني إلي مكتبه الخاص.
فاتحته في سبب زيارتي له، فابتسم، وقال لي:
-دعنا من الحديث،فهذا أمر نسيناه،
عدت أعرض ما جئت أسأله عنه، ولا أعرف تماما كيف تحول الموقف بيننا، صار المسئول يسأل. قال لي:
- أهم من ذلك.أن نتعرف ببعضنا أنا وأنت، قد تصير صديقين، قدومك إلي، يجعلني أشعر أنك قرأت لي "مليم الأكبر" وأنك تمارس كتابة القصة.
قلت:
-وقرأت رواية "ملك من شعاع" وقصة "ضباب ورماد" وكأنما مست فيه اشارتي لضباب ورماد ذكري خاصة انفتح صدر عادل كامل لي. خلع جاكتته، وألقي بمنديل كمه جانبا. وشمر قميصه إلي منتصف ساعديه، وقال:
الآن.نتكلم.أريد أن أقرأ لك.
حدثته عن نفسي،وحدثني عن نفسه، مؤكدا بين حين وآخر،أننا نتعارف، وأن ما يقوله ليس للحديث الصحفي،أراني صورة لبناته الثلاث. باح لي بأن نجيب محفوظ لا يدخل أحدا بيته، فيما يعلم سواه باح لي بان"نجيب" لا يطلع أحدا قبله، علي قصة له،إثر كتابتها بالآلة الكاتبة، وأراني رواية "أولاد حارتنا" الموضوعةعلي مكتبه قبل أن تنشر مسلسلا بالاهرام" وقبل أن تصدر في كتاب بيروت، إثر اعتراض الرقابة الدينية علي موضوعها ، وباح لي بأنه قدم لنجيب خدمة العمر، منذ أن عمل هو(عادل كامل)محاميا.اتاح له أن يكتب سيناريوهات لأفلام السينما، فغطي بأجوره عنها نفقات أعوامه كموظف بالأوقاف وأتاح له فراغا يوميا يكتب فيه قصصه كان سينفقه في القلق علي موارد المعيشة الشهرية وفي العمل الاضافي بأي مكان وضحك عادل كامل وقال:
أنا سعيد حقا لأنني أتحت له هذه الفرصة أحدنا علي الاقل قد بقي في ساحة القصة يكتب قصصا.
رحت أساله عن رأيه في القصاصين اللامعين الذين تشهدهم ساحة الابداع القصصية في مصر- محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ومحمود البدوي.
وسواهم من المعروفين ظننت أنه يجد وقتا أو رغبة لقراءة أحد من هؤلاء القصاصين الجدد في صحيفة « المساء» أو في مجلة «روز اليوسف» ولم يخف رأيه فيمن سألته عنهم ولم يتحرج في البوح به ثم قال لي:
هؤلاء صنعوا أنفسهم بالأعلام لا أستثني منهم سوي محمود البدوي في بداياته الأولي ويضيعون أنفسهم وأوقاتهم بكتابة القص كنا قد قضينا ساعتين من الثانية ظهرا حتي الرابعة عصرا ونسي كلانا حاجته الي الطعام لاشئ سوي الحديث وفناجين القهوة سألت عادل كامل:
لم توقفت عن كتابة القصة؟
أثر موقف مجمع اللغة من روايتي أدركت أنه لاقبل لي بإضاعة الوقت في مناطحة الصخر وأدركت أنني لن أعيش من قلمي ككاتب وأن قلمي لو صار في يدي سيفا ولاينبغي له أن يكون في يد الكاتب سوي سيف سيجعلني أعاني أكثر مشقة مجرد العيش قررت في تلك اللحظة أن أكون محاميا وهانذا كما تري ميسور الحال الشوانين ملأي بالملفات والبطاقات شركات كثيرة بقلب المدينة قضاياها بمكتبي هذا وأنا بعد محامي الفنانين المقيمين في مصر والذين يفدون اليها من الفنانين أو يخرجون منها وبفضل معرفتي بهؤلاء الفنانين أتحت الفرصة لنجيب ليكتب سيناريوهات للسينما ويواصل كتابة قصصه ثم أكد علي قال:
ماقلته تعارف وليس للحديث
أسمع
وطلب مني أن ألقاه غدا ومعي قصص اختارها له ليقرأها لي ولنزداد معرفة ببعضنا
في اليوم التالي حملت له ثلاث قصص، ولم يكن بمكتبه فرحت أتجول بين الكتب المجلدة في دواليبها الزجاجية التي تحيط بالجدران الأربعة لايقطعها سوي فراغي النافذة والباب كانت كلها كتبا في الادب بلغات ثلاث وليس بينها كتاب واحد في القانون وجاء عادل وجلسنا وواصلنا ما انقطع من الحوار وانصرفنا علي موعد في الغد
قال لي في لقائنا الثالث
قرأت قصصك ولاينبغي أن تتوقف عن كتابة القص يوما مثلما فعلت أنا أسعدني ماسمعته منه
وقلت له
أود أن أسالك سؤالا أأنت حقا سعيد بما أنت فيه ولا تحن إلي الكتابة.
قال لي
سأقول لك الحق لست الآن ومنذ سنين سعيدا بما فعلت وإني لشديد الحنين للكتابة وحاولت العودة اليها وقد استقرت لي الأحوال.
كتبت جانبا من رواية لي بعنوان الدائرة المشؤومة موضوعها عن هذه اللقاءات التي كانت تجمعنا أنا ونجيب والسحار وباكثير تحت قاعدة تمثال بأخر كوبري قصر النيل لقاءات ضائعة خائرة لجيل ضائع لكنني اكتشفت أن قلمي قد صديء وأن روحي لم تعد روح كاتب فقدت الدربة أحذر ان تفقدها يوما الروح تتحفز وتتوهج بالممارسة والقلم لايجف مداده بالكتابة
وزفر عادل كامل باسي ساخر ومرارة ضاحكة وقال سبقني نجيب وتطور وأنا حيث توقفت ولذلك لم أكمل روايتي
وأزحتها جانبا ثم قال لي:
انقذ نفسك من العمل بالصحافة وبسرعة لاتعمل شيئا سوي كتابة القصة سأتيح لك الفرصة التي اتحتها لنجيب ونعيش منها وتفرغ معظم وقتك لقصصك والبحث عن تجارب لقصصك وضحك وقال:
سوف أعرفك أيضا بأجواء القاهرة التي لاتعرفها ويعز عليك الدخول اليها
قلت بذعر:
لكنني لم أدرس السيناريو.
قال لي مؤكدا وهو سيناريو لفيلم
خذ: هذا سيناريو فيلم باب الحديد اقرأه وأصنع مثله
تبحث عن قصة للسينما الآن قصة يهوذا الجزار والضحية لغتها لغة صورة وذلك ماتريده السينما ولا تحمل هم السيناريو المنتج والمخرج سيرحبان به وبهذه القصة سأحاول، لكن قال لي ضاحكا:
الرغبة في نشر حديث معي تسيطر عليك كما تشاء أكتب الحديث.
قلت:
ساطلعك علي ماساكتبه.
فقال لي:
لا ذاكرتك طيبة وأنا أثق بك ولا تتحرج في نشر ماقلته عن أحد.
وكتبت الحديث ونشرته وثار المكتوب عنهم ورفضوا الدخول في أي حوار تعليقا علي حديث عادل كامل لي وتهربت من لقاء »عادل كامل« مرة أخري لقاء خاصا خفت من ضغطه علي لأكتب السيناريو طوال عشر سنوات.
خفت من تأثير كتابة السيناريو علي كتابتي للقص فقد كنت ما أزال في تقديري لقصي غض العود وخفت أن أدخل بقصصي في دائرة مشؤومة أخري.
دون عشرة جنيهات
أغري الشاعر »فاروق شوشة« بالحديث الذي نشرته مع »عادل كامل«
وبحديثي عنه وكان فاروق يعمل مذيعا بإذاعة القاهرة ويقدم برنامج مع النقاد من البرنامج الثاني واتخذ فاروق قرارا بإذاعة قصة »ضباب ورماد« من إذاعة البرنامج الثاني وتقديم حلقة من البرنامج مع »عادل كامل« وأذيعت القصة كاملة وزاد وقت إذاعتها علي الساعة وربع ساعة ولم يكن وقت الإرسال بالبرنامج يزيد آنذاك علي ثلاث ساعات وأذيعت الحلقة في حوار مدهش من الطرفين السائل والمسئول ولايزال نص الحوار الذي نقله فاروق من الشريط المسجل تحت يده مع نصوص الحلقات أخري مع صفوة المبدعين من الأدباء في تلك السنوات ينتظر النشر في كتاب.
وجاء موعد صرف المكافأة الاذاعية لعادل كامل عن قصة »ضباب ورماد«
وعن حديثه الحواري في برنامج »مع النقاد« وسعي عادل كامل إلي الاذاعة ربما حرجا مني ومن فاروق ليتسلم مكافأته وصحبه الساعي إلي وحدة العقود بين الدورين الرابع والعاشر وفوجئنا نحن وفاروق بعادل كامل يوقع إذني الصرف عن القصة والحديث الحواري ويعطيه لمصطفي الساعي.
قائلا له: أصرف المكافأتين وخذ قيمتهما لك
ولم يضطرب عرق واحد في وجه عادل كامل كانت المكافأة عن قصة »ضباب ورماد« جنيهين وستة وعشرين قرشا من جنيهين ونصف بعد الاستقطاعات وكانت المكافأة عن الحديث الحواري لمدة ساعة فيما أذكر خمسة جنيهات وكسورا من القروش والملاليم بعد الاستقطاعات فالحديث الحواري أجره في الإذعة مهما كان وقته ثلاثة أرباع مكافأة الحديث غير الحواري وكلاهما لايحسب له وقت في تقدير المكافأة أكثر من عشر دقائق.
وغرقت في العرق حياء من عادل كامل فأنا الذي حررته هوالذي استقرت به الاحوال وتوقف عن الكتابة هربا من مواجهة مثل هذا الموقف وما أحسب حال فاروق آنئذ كان بأفضل من حالي ونظر إلي عادل كامل وأنا أسير معه وفاروق إلي المصعد وقال لي:
متي ستريح نفسك وتكتب سيناريو لفيلم ؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.