يُعد عمنا الأكبر، نجيب محفوظ، من أوائل وأفضل الأدباء المصريين الذين كتبوا عن مصر الفرعونية. فقد كتب الرجل عددًا لا بأس به من أعماله عن تاريخ وآثار تلك الحضارة العريقة. وقامت أعماله على الدقة الأدبية والصياغة الفنية الفائقة وصدق المعلومة التاريخية وبعث الأجواء القديمة باقتدار. وقد بنى معمار معظم أعماله الفنية على قصة أدبية ذات بعد سياسي وأسطوري، أو على قصة متواترة من التراث، أو على حدث تاريخي معروف، أو عن شخصية ملكية مثيرة. وقد يبدو غريبًا لدى البعض اهتمام نجيب محفوظ الكبير بمصر الفرعونية، غير أن هذا الاهتمام له ما يبرره من أسباب عديدة. فقد بدأ حب كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ لمصر الفرعونية مبكرًا حين كان طفلًا صغيرًا يعيش في منطقة سيدنا الحسين، ثم في حي العباسية الشرقية العريق بعد ذلك؛ إذ كانت أمه، المرأة المصرية البسيطة ذات الحس الحضاري العفوي والعميق، تأخذ ابنها الصغير لزيارة الأماكن الأثرية، خصوصًا المتحف المصري بوسط القاهرة. ولم يكن نجيب الطفل يعرف لماذا تقوم هذه المرأة البسيطة بهذه الزيارات لتلك الأماكن التاريخية الخالدة، وظل هذا السؤال دون إجابة إلى نهاية حياة كاتبنا الكبير. ومن خلال هذه الزيارات المعتادة لمعالم حضارة وتاريخ مصر الفرعونية بدأ شغف وحب الطفل الصغير بهذه الحضارة وتاريخها وآثارها يزادان دون وعي منه. ونظرًا لتعلق كاتبنا الكبير بثورة 1919 وزعيمها الخالد سعد زغلول، وتأثره العظيم بتوجهات ونتائج الثورة وما بثته من بعث وإحياء لمصر وحضارتها الخالدة، ازداد وعيه ووعي المصريين بمجد حضارتهم الغابرة للرد على محاولات المستعمر البريطانى الغاشم المستمرة لطمس الهوية المصرية؛ حتى يظل ذلك الاحتلال البغيض جاثمًا على صدر مصر والمصريين لسنوات طويلة. وكان من حسن الطالع أن تم اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبي الملك الصغير توت عنخ آمون يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1922 على يد الإنجليزي هوارد كارتر في فترة زمنية قصيرة من قيام الثورة، مما أكد صدق وحدس زعيم الثورة ورجالها من أن مصر دولة عظيمة ذات حضارة رائدة، وأنها تستحق الاستقلال، ووضعًا أفضل مما هي عليه الآن. وبدأ نجيب محفوظ خطوات عملية في تأصيل وعي المصريين بتراثهم الحضاري العريق، فقام في الصيف، في نهاية مرحلة دراسته الثانوية بترجمة كتاب "مصر القديمة" للمؤلف جيمس بيكي؛ وذلك كي يحسن من لغته الإنجليزية، ثم أرسله بعد ذلك إلى الأستاذ سلامة موسى الذي أصدره في دار النشر الخاصة به، وأرسل منه نسخة بالبريد للطالب نجيب محفوظ. ومن هنا نشأت علاقة قوية بين التلميذ نجيب محفوظ وأستاذه وأبيه الروحي سلامة موسى، الذي توسم خيرًا في الكاتب الشاب وآمن به وبموهبته وتعهده برعايته. ونشر هذا الكتاب عام 1932. وكانت ترجمة هذا الكاتب خير مران ومقدمة لمحفوظ للتعرف على مفردات الحضارة المصرية القديمة، فضلًا عن فنية وأدبية وأسلوبية الكتابة عنها، وترك هذا الكاتب الصغير أثرًا عميقًا في نفس محفوظ سوف يؤتي ثماره الأدبية لاحقًا في صور إبداعية عديدة عبر مسيرة أديبنا الطويلة. وبدلًا من أن يدرس نجيب محفوظ الأدب كما كان يخطط، التحق بقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) تأثرًا بأستاذه سلامة موسى وغيره من كبار المفكرين المصريين في أوائل القرن العشرين، أمثال د. طه حسين وغيره. ومكث نجيب محفوظ في دراسة الفلسفة بتلك الجامعة من عام 1930-1934. وفي هذه الفترة الجامعية، ونظرًا لولعه الشديد بمصر القديمة وحضارتها، كان محفوظ يتردد على قسم الآثار المصرية القديمة بنفس الكلية ليتعلم ويستمع إلى محاضرات أساتذتها من علماء المصريات الأجانب عن مصر القديمة وآثارها وتاريخها، فضلًا عن دراسته وقراءاته الذاتية عنها. وكان نجيب محفوظ قد بدأ بكتابة المقال الفلسفي متأثرًا بدراسته، وشرع بالفعل في إعداد وكتابة رسالة للماجستير في الفلسفة عن موضوع "الفلسفة الجمالية عند الشيخ مصطفى عبدالرازق"، غير أن تأثره بالأدب كان أقوى، فترك البحث الأكاديمي وانغمس إلى أذنيه في كتابة الأدب، لكنه لم يهجر الفلسفة أو تهجره كلية فظهرت مرارًا في كتاباته الأدبية، ويعد واحدًا من أوائل الروائيين العرب الذين مزجوا في كتاباتهم بين الأدب والفلسفة، معيدًا بذلك ذكر ومسيرة فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة "أبو حيان التوحيدي". وتأثر أيضًا نجيب محفوظ بأستاذه الأدبي الكاتب الكبير توفيق الحكيم وروايته الفذة "عودة الروح"، التي سعى فيها الحكيم لإحياء مصر والأمة المصرية، كما تم بعث وإحياء أوزيريس عن طريق زوجته المخلصة إيزيس. وكما صرح نجيب محفوظ أكثر من مرة فإن رواية "عودة الروح" للحكيم كانت المدرسة الكبرى التي تعلم فيها هو وجيله من الأدباء المصريين في أوائل القرن العشرين الميلادي. وكان زميل نجيب محفوظ ورفيق دربه الأدبي الأديب عادل كامل قد كتب رواية عن ملك مصر أخناتون أطلق عليها "ملك من شعاع". وبعد أن هجر نجيب محفوظ كتابة المقال الفلسفي، اتجه كلية إلى كتابة القصة القصيرة. وكان من ثمار بداية الإنتاج الأدبي عند أديبنا الشاب ما يقرب من ثمانين قصة نشر أغلبها في الصحف والمجلات في تلك الفترة، خصوصًا في مجلة الرسالة التي كان يرأس تحريرها أستاذه سلامة موسى. وجمع عددًا من قصص بداياته الأدبية ونشرها في مجموعته القصصية الأولى "همس الجنون" عام 1938 (تأثرًا -أغلب الظن- باسم الديوان الشعري لميخائيل نعيمة "همس الجفون"). وكان من بين قصص هذه المجموعة، قصتان أحدهما تتماس مع مصر الفرعونية، والأخرى تدور أحداثها في مصر القديمة. القصة الأولى تسمى "يقظة المومياء"، والأخرى تدعى "صوت من العالم الآخر". وتأثرًا بما فعله السير الإنجليزي والتر سكوت عندما كتب تاريخ إنجلترا فى شكل روائي، خطط نجيب محفوظ لكتابة أربعين رواية عن تاريخ مصر، غير أنه لم يكتب منها إلا ثلاث روايات هي "عبث الأقدار" (عام 1939)، "رادوبيس" (عام 1943) و"كفاح طيبة" (عام 1944)، وماتت الروايات السبع والثلاثون الباقية بالسكتة كما قال نجيب محفوظ نفسه. وكان السبب وراء هذا التحول أن مصر وأحداثها السياسية آنذاك جذبت بشدة نجيب محفوظ أكثر مما جذبته مصر القديمة وأحداثها، على الرغم من أن روايات مصر الفرعونية لم تكن تتحدث عن مصر القديمة فحسب، بل كانت تلقي بظلالها على مصر المعاصرة وأحداثها آنذاك؛ إذ كان نجيب محفوظ يحلو له أن يصنف نفسه ب "أديب الحاضر" في مواجهة النوعين الآخرين من الأدباء: أديب الماضى وأديب المستقبل. وعلى الرغم من انشغال محفوظ بالواقع المصري المعيش، ابتداءً من روايته الشهيرة "القاهرة الجديدة" (عام 1945)، فإنه لم ينس غرامه القديمة بفاتنته، مصر الفرعونية، فكتب واحدة من أهم رواياته في عقد الثمانينيات من القرن العشرين، أعني رواية "العائش في الحقيقة" (عام 1985)، والتي كتبها من وجهة نظره المصرية البحتة عن فرعون التوحيد، الملك المصرى الفليسوف، "أخناتون"، وأغلب الظن أن فكرة هذه الرواية ظلت تطارد عقل ومخيلة نجيب محفوظ زمنًا طويلًا منذ أن خطط أن يكتب تاريخ مصر بشكل روائي في بداياته الأدبية؛ إذ لا يمكن تخيل كتابة تاريخ مصر دون الحديث عن الفرعون الشهير أخناتون ودعوته الدينية المثيرة. وبعد اغتيال الرئيس السادات، أجرى محفوظ محاكمة ومواجهة روائية بين حكام مصر منذ البداية، وتحديدًا من عهد الملك مينا موحد القطرين وأول ملك لمصر الموحدة إلى عهد الرئيس محمد أنور السادات في عمل أدبي جديد من نوعه يصعب تصنيفه يدعى "أمام العرش" (حوار بين الحكام) عام 1983. ويوضح هذا العمل القصير الفذ تشعب وعمق وتنوع ثقافة نجيب محفوظ وإلمامه بتاريخ مصر وأبرز معالمه ورجاله عبر العصور ووجهة نظره الشخصية في ما مر بمصر من أحداث طيبة كانت أو غير طيبة في قالب أدبي فريد. وتعد ثلاثية نجيب محفوظ الفرعونية "عبث الأقدار"، "رادوبيس"، و"كفاح طيبة"، ورواية "العائش في الحقيقة" هي الأعمال الروائية الفرعونية في مسيرة أديبنا الطويلة. وتُعد رواية "عبث الأقدار" (عام 1939) أول رواية كتبها الأستاذ نجيب محفوظ في مسيرته الأدبية، وكذلك أول رواية فرعونية هدف بها بدء مسيرة لم تكتمل تقص تاريخ مصر بشكل قصصي. وتدور أحداث هذه الرواية في عصر بناة الأهرام العظام، وأعني عصر الدولة القديمة، وتحديدًا في عصر الأسرة الرابعة في عهد الملك المعروف "خوفو"، باني الهرم الأكبر بهضبة الجيزة، العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا السبعة القديمة. وكان محفوظ أطلق عليها اسم "حكمة خوفو"، غير أن أستاذه سلامة موسى غير الاسم إلى الاسم الحالي "عبث الأقدار". وبنى محفوظ هذه الرواية على قصة مصرية قديمة تسمى "قصة خوفو والسحرة" أو ما يعرف ب "بردية وستكار" نسبة إلى السيدة التي اشترت هذه البردية، والمحفوظة حاليًا في المتحف المصري ببرلين بألمانيا. وتحكي القصة ما دار في مجلس الملك خوفو واستماعه للساحر "جدي" ونبوءة زوال حكم خوفو من بعده لملوك الأسرة الخامسة التي تلت أسرة الملك خوفو في الحكم. وكانت رواية "رادوبيس" (عام 1943) الثانية في الثلاثية الفرعونية المحفوظية. وتدور أحداثها حول الغانية الحسناء والفاتنة "رادوبيس"، جميلة جزيرة "آبو" (أو إلفنتين) في الجنوب بالقرب من أسوان الحالية، التي عشقها علية القوم وصفوة رجال المملكة المصرية وعلى رأسهم الفرعون نفسه. وكان هذا الملك الشاب فاسدًا ومتهورًا، على عكس زوجته الملكة نيتو قريس التي كانت تتمتع بحكمة كبيرة. وفي نهاية الرواية، قتل ذلك الملك الفاسد وانتحرت عشيقته الغانية رادوبيس. والرواية الثالثة والأخيرة في الثلاثية الفرعونية هي رواية "كفاح طيبة" (عام 1944)، وتقص قصة كفاح شعب مصر الطويل ضد احتلال الهكسوس للأرض المصرية. وتنتهي أحداث الرواية بانتصار مصر بقيادة الملك أحمس على الهكسوس وطردهم من مصر إلى فلسطين. وقد قرأ الناقد الأدبي سيد قطب هذه الرواية وأوصى بإقرارها على طلبة المدارس كي يتعلموا منها تاريخ مصر والدرس الذي قدمته من أجل طرد المحتل المغتصب وتحرير الأرض المصرية. وتعد رواية "العائش في الحقيقة" (عام 1985) آخر ما كتب كاتبنا الكبير من أعمال عن مصر الفرعونية، وفيها يسرد محفوظ قصة فرعون مصر الأشهر "أخناتون" من خلال إعادة سرد قصة حياته وفترة حكمة من منظور من عايشوا تلك الفترة المثيرة والحرجة من تاريخ مصر القديمة. وعلى تعدد وتنوع وكثرة الأعمال الإبداعية عن أخناتون وسيرته وفترة حكمه، تبقى رواية نجيب محفوظ عنه من أبدع الأعمال الفنية عن فرعون التوحيد. وعلى هذا لم ينسحب بساط مصر القديمة الساحر من أدب نجيب محفوظ، وإنما ظهرت مصر القديمة متخفية تحت ستار في هيئة أفكار وشذرات نثرية، أو استوحى أحداثها ومعالمها دون مباشرة هنا وهناك في أدبه الرائع عبر مسيرته الإبداعية الحافلة. وتظهر هذه الأعمال حب محفوظ الجم لمصر القديمة ولحضارتها وإيمانه الكبير بمصر والمصريين وعظمة الشعب المصري وتحضره وقدرته على النهوض ثانية وتحقيق المعجزات؛ إذ وجد القيادة الصالحة والقدوة الطيبة. (عن بوابة الأهرام)