سقوط ضحايا ومصابين في قصف إسرائيلي على قطاع غزة    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    ضغوط جديدة على بايدن، أدلة تثبت انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي في غزة    سيد عبد الحفيظ: أتمنى الزمالك يكسب الكونفدرالية عشان نأخذ ثأر سوبر 94    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    تستمر يومين.. الأرصاد تحذر من ظاهرة جوية تضرب مصر خلال ساعات    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    مينا مسعود أحد الأبطال.. المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    حي شرق بمحافظة الإسكندرية يحث المواطنين على بدء إجراءات التصالح    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم السبت 4 مايو 2024 في البورصة والأسواق    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الإذاعى أحمد أبو السعود    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    وفاة الإذاعي أحمد أبو السعود رئيس شبكة الإذاعات الإقليمية الأسبق.. تعرف على موعد تشييع جثمانه    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    الخطيب يهنئ «سيدات سلة الأهلي» ببطولة الكأس    تعثر أمام هوفنهايم.. لايبزيج يفرط في انتزاع المركز الثالث بالبوندسليجا    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضحايا يوسف إدريس ..محمد يسري أحمد وجماعة طب القصر العيني الأدبية الثائرة
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 08 - 2015

كانت كلية طب القصر العيني تضم كوكبة من الشباب الثائر، والتي ضمت في إهابها، ابراهيم فتحي ومصطفي محمود وصلاح حافظ ومحمد يسري أحمد ويوسف ادريس، هذه المجموعة الي كانت تمد الحياة السياسية بطاقات ثورية كبيرة، في الأدب والسياسة والفن، وشارك معظمهم في تحرير كافة مجلات اليسار التي كانت تصدر في ذلك الوقت، أي منذ العام 1948 .
وكان ألمعهم ككاتب قصة آنذاك محمد يسري أحمد، هذا الكاتب الذي ضاع تماما، والذي لم تتعرف عليه الأجيال التالية من الأدباء والمثقفين وكتّاب القصة، إنه رائد القصة المصرية الحقيقي في ذلك الوقت، وهو الذي قاد زملاءه جميعا بشكل أو بآخر إلي الكتابة الجديدة في القصة، وهذا باعتراف إدريس وصلاح حافظ.
في كتابه "بصراحة غير مطلقة" يكتب يوسف ادريس مقالا عنوانه "نقاش"، هذا المقال يكشف بعضا من وهج هذا الكاتب والأديب الذي غاب عمدا، في ظل الأحداث الثقافية والسياسية الجسيمة التي تراكمت، ولم يستطع أن يجاريها، أو يتغلب علي صعوباتها، فاعتصم إلي مهنة الطب، ومضي غير آسف علي ضياع الأدب والقصة والسياسة، في مقاله يقول ادريس :"قضيت اليوم كله في نقاش مستمر مع يسري، هو يحاول أن يقنعني بالعودة لمزاولة الطب، وأنا أحاول إقناعه بضرورة أن يعود هو للكتابة ومزاولة الأدب...والغريب أن هذا الموقف ذكرني بموقف مشابه له تماما حدث منذ عشر سنوات حين كنا لا نزال طلبة في الكلية، وكان يسري يحاول إقناعي فيه بضرورة ترك تلك المهنة البغيضة الطب، والتفرغ نهائيا لعالم الفن الرحب العريض، وكنت أنا أحاول إقناعه بضرورة مواظبته علي الكلية حتي يتخرج ويصبح طبيبا... "، وبعد أن يسترسل ادريس في رسم صورة حية له ولرفاقه ولزملائه في الكلية، وهم في غاية الانهماك في التحصيل الدراسي، وكان هو رغم انشغالاته السياسية، كان نموذجا للطال ب المثالي والمجد، ولك يكن يعيبه سوي أنه يحب القصص، لدرجة لا تليق بطالب طب "دكتور"، كانت كلية الطب مناخا لممارسة كافة أنواع الفن والأدب والسياسة .."في تلك الأثناء قرأت قصة لكاتب اسمه محمد يسري أحمد أذهلتني، واعتبرت أن كاتبها لا بد فلتة، إذ لم أكن قد سمعت هذا الاسم من قبل أو قرأت له، وظلت القصة وإعجابي بها يملآن عليّ نفسي إلي أن حدث وعرفني أحد أصدقائي القليلين من الطلبة في جلسة من جلسات البوفيه المشهورة بزميل مقطب الجبين عازفا عن الاشتراك في حديث الطلبة التافه، وقال : محمد يسري أحمد، ولم أصدق أبدا أنه هو كاتب القصة التي أذهلتني، ولم أستطع أبدا أن أهضم أنه هو الآخر طالب في الكلية، بل في نفس الدفعة ..ومنذ ذلك اللقاء لم نفترق، وبعد أن التقينا عدة مرات، ووثقت به تماما صارحته بأنني أحيانا أكتب القصص ولكني أخاف أن أطلع عليها كائنا من كان، ...وفي وجل شديد، وبقلب يدق قرأت له آخر قصة كتبتها، وكدت أعتقد أنه مجنون حين وجدته قد أعجب بها وظل يتحدث معي بضع ساعات عنها..ولأول مرة أحسست أن كتابة القصة ليست عيبا أو شيئا مخلا بالشرف، وأهم من هذا هو أن الإقناع جاء من طالب طب زميل، وحين غادرني يسري ليلتها أحسست أني أقف علي باب عالم جميل غريب مجهول أهون شئ علي الانسان أن يهب عمره لتفقده وتعرف مخابئه وأسراره وكل مايحتويه"!!
ومنذ ذلك اليوم ويوسف ادريس لا يفارق يسري أحمد، ويكتبان وينشران في مجلات اليسار وغير اليسار، ويمزجان السياسة بالفن والأدب، وينشئ تنظيم "حدتو ..الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" مكتبا اسمه "مكتب الأدباء والفنانين"، ويضم هذا المكتب مجموعة بارزة من الكتاب والفنانين والمثقفين الشباب، منهم عبد الرحمن الشرقاوي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وكمال عبد الحليم ويوسف ادريس ومحمد يسري أحمد وصلاح حافظ وغيرهم، وكانت صحف اليسار آنذاك يشتد عودها، وكما تقدم معارضة حادة للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تقدم ألوانا جديدة في الفن والكتابة، وعلي صفحات مجلة "الكاتب"، التي كان يملكها الكاتب والمثقف والفنان يوسف حلمي، نقرأ قصصا ليوسف ادريس ومحمد يسري أحمد، وقصائد فصحي ورسومات لصلح جاهين، وأشعارا لفؤاد حداد، ومقالات من باريس لعبد الرحمن الشرقاوي، وكان ذلك في أهوام 1951و1952 علي وجه التحديد، قبل أن يلتحق ادريس بجريدة المصري عندما قدمه عبدالرحمن الخميسي، ثم بعدها مجلة روز اليوسف.
كان يوسف ادريس هو ويسري أحمد وصلاح حافظ ومصطفي محمود ينشرون قصصهم في مجلات وصحف الملايين والكاتب والنداء وقصص للجميع ومطبوعات أخري، ولكن علاقة ادريس بيسري كانت هي الأقوي والأمتن، يقول يوسف :"ليال طويلة قضيناها يقرأ لي ماكتبه وأقرأ له ماكتبته وشوارع المدينة النائمة، نجوبها سيرا علي الأقدام، جوعي مفلسين، نبحث عن الحقيقة ونناقش الفن والخلود وأصل الكون والفرق بين رومانسية إيليا أبوماضي ورومانسية ناجي"، ومن المدهش في تلك الفترة يتحدث كثيرا ادريس في بعض مقالاته، أن شهدت حواراته مع يسري أحمد، بأنه كان دوما أي ادريسيقنع يسري أحمد بالمواظبة علي حضور الكلية، والالتزام بضرورة إنجاز الدراسة والتخرج لكي يصير طبيبا مرموقا، والعكس يحاوله يسري، الذي كان يدفع صديقه بالغرق في بحر الفن والأدب والثقافة، حتي أن مضت السنوات، وتخرج الاثنان، وعملا في مهنة الطب، والتي سرعان ماتركها ادريس ليتفرغ للأدب والصحافة، ويحدث العكس، إذ أن يسري أحمد يتخرج، ويهجر تقريبا كتابة القصة، بعد أن يصير طبيبا ناجحا، ويذهب إلي السودان، ويعود في إحدي زياراته، ويلتقي الصديقان، ليحاول ادريس استعادة يسري أحمد إلي كتابة القصة دون أي جدوي، بعد أن قدّم نماذج قصصية، من أغني ماكتبه ذلك الجيل في تلك الفترة، وحتي الآن لم يجمعها أحد في كتاب، حتي تستقيم معرفتنا بالتاريخ الكامل لكتابة القصة القصيرة، بكامل رواده.
ورغم أن الدكتور سيد حامد النساج لم يدرج سوي ثماني عشرة قصة في الببلوجرافيا التي أعدها في "دليل القصة القصيرة من 1910 حتي 1961"، إلا أن قصص محمد يسري أحمد تزيد عن ضعف هذا العدد، والقصص التي أدرجها د النساج هي "غابت الشمس عام 1948، ومارد الأعماق 1949، وكلهم يموتون 1950، وقمم سوداء 1950، وكاميليا 1950، وشاطئ الغرباء 1950، وأول الطريق 1950، وطابور خامس 1950وحكم الإعدام 1950، وحياة النمل 1950، وعودة الأبطال 1950، والموت 1950، وكم علمتني 1953، ولقاء المجانين 1954، ودنيا الشرف 1954، وغابت الشمس 1954، وهذه حواء 19554، ودنيا الشرفاء 1955"، وتراوح نشر هذه القصص بين مجلات القصة وروز اليوسف، ولم يلتفت د النساج لمطبوعات أخري، ربما لتعذر الحصول عليها، مثل مطبوعات اليسار التي كانت تختفي بصورة سريعة .
والببلوجرافيا التي وضعها د النساج لمحمد يسري أحمد، تعطي انطباعا بأنه يسري أحمد قد توقف عن كتابة وتشر القصص عام 1954، ولكن الحقيقة والسجل يقول غير ذلك، فهاهي أمامي قصة "الطفل"علي سبيل المثال تنشرها مجلة "الغد" في يناير 1959، وتضع لها تصنيفا يقول بأنها "قصة رمزية"، وهي نموذج فريد في الكتابة القصصية، سننشرها لاحقا لو أتيحت المساحة والظروف، وكذلك يعيد يوسف ادريس نشر قصة "كاميليا" في 9 ابريل 1960بجريدة الجمهورية علي صفحة كاملة من الصحيفة، ويكتب لها تقديما احتفائيا، أرجو ألا يضيق القارئ بنشر هذا التقديم كاملا، طالما نحن في مجال التوثيق، يقول ادريس :"محمد يسري أحمد اسم ليس غريبا علي قراء القصة والمهتمين بها، فمنذ عشر سنوات، وحين كانت الحركة الأدبية الحالية جنينا لا يزال يبحث لنفسه عن ملامح علي صفحات مجلة القصة والرسالة والنداء وقصص للجميع، كان محمد يسري أحمد من ألمع نجوم هذه الحركة اللامعة
وأستاذ قصتها الأول، وما أثار الدهشة أنه، بعد نضج هذه الحركة واكتمالها ووصولها إلي القمة تلفت الناس فلم يجدوا لمحمد يسري احمد أثرا، ووجدوا مكانه شاغرا، أين هو؟ وماذا يفعل ؟ولماذا كف عن الكتابة ؟أسئلة لم يستطع أحد الإجابة عليها، كنت وحدي تقريباأعرف الجواب، وأعرف أن قصة صعود يسري واختفائه في حد ذاتها درامة جيلنا الحالي وتجسدها، لقد كانت كتابة القصة هي سبب تعارفنا، ثم أهم أسباب صداقتنا الوطيدة بعد هذا، وكان ليسري في تلك العلاقة دور المعلم والموجه والصديق، هو الذي عرفني بعالم الفن الغامض الرهيب الرحيب، هو الذي اكتشف لي نفسي وقدمني إليها، وهو الذي من ثار عليّ حين غيّرت الطريقة وأصبحت نفسي، وكان لا بد أن نختلف، وكف هو عن الكتابة، وواصلتها أنا لسوء حظيوسافر يسري إلي السودان كطبيب، وأمضي هناك خمس سنوات، ثم عاد منذ أقل من عام، وتجدد بيننا العراك حول أن يكتب، وكنت أعرف أن عودة الفنان للإنتاج بعد عشر سنين من الانقطاع معجزة، ولكني لم أكن أعرف أن العودة ستكون بمثل هذه المعجزة، كاميليا....أقدم لكم كامليا، القصة والكاتب والمجزة"!!!!، وأضع من عندي كل علامات الاستفهام هذه، لأن يسري أحمد لم يتوقف عشر سنين كما كتب ادريس في تقديمه، بل حسب ببلوجرافيا النساج، فله قصص منشورة في عامي 1954 و1955، وهناك قصص نشرها له يوسف ادريس نفسه، عندما كان مشرفا علي باب القصة في المجلة، وحسب مالدي من مطبوعات، فيسري أحمد له قصص منشورة حتي عام 1959، قصة "الطفل" التي أشرنا إليها، والتي صنفها محرر المجلة علي اعتبار أنها قصة رمزية، أما سبب التعجب الآخر، يكمن في أن قصة "كاميليا"، كانت منشورة سابقا في عام 1950، ويعيد نشرها ادريس علي اعتبار أنها قصة حديثة، بل إنها معجزة.
ولا أعرف هل هذه الأخطاء التاريخية بمثابة السهو والنسيان، أو عدم الاغتناء بالدقة، أم أن هناك أسبابا أخري تختفي وراء المعلومات الخاطئة التي يطرحها ادريس، كما ظنّ فاروق عبد القادر ؟، أنا شخصيا أعزو هذه الأخطاء للسهو مرة، وللعمد مرة أخري .
ومن الواضح أن حكاية محمد يسري أحمد، تشبه إلي حد كبير حكاية عادل كامل، رفيق نجيب محفوظ، والذي نشر رواياتي "نليم الأكبر" و"ملك من شعاع"، وبعضا من القصص القصيرة، ومسرحية "ويك عنتر"، وذلك في عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وكان منافسا قويا لنجيب محفوظ، بل كان بعض النقاد يعدونه من أسبق أدباء جيله، بما فيهم نجيب محفوظ نفسه، الذي كان يثتي عليه في كل المناسبات التي تأتي بسيرته، ثم انقطع عادل كامل عن الكتابة تماما، وهاجر إلي كندا، ومارس مهنة المحاماة، وذات عام في التسعينيات عاد زائرا إلي القاهرة، وكان في حوزته رواية وحيدة، ليست في قوة بداياته، وكان عنوانها "الحلّ والربط"، ونشرتها له دار الهلال، لتبقي رواياته الأولي ساطعة في سماء نهضة الرواية الحديثة، جنبا إلي جنب مع روايات نجيب محفوظ.
الفرق الوحيد بين يسري وكامل، أن عادل كامل، وجدت رواياته طريق النشر، وصدرت في كتب، وكتب عنه نقاد مرموقون في ذلك الزمان وبعده، وحصلت روايته "نليم الأكبر" علي جائزة "قوت القلوب الدمرداشية"، نفس الجائزة التي حصل عليها نجيب محفوظ فيما بعد، وكان قد كتب لروايته "مليم الأكبر" مقدمة نقدية في 128 صفحة، هذه المقدمة بمثابة البيان الحداثي الأول في عالم الرواية الجديدة، لذلك عندما يحاول الباحثون أن يعيدوا قراءة عادل كامل، فسوف يجدون ماكتبه في كتب، وقد أعيد نشر هذه الكتب مرة أخري في مكتبة الأسرة.
أما كتابات محمد يسري أحمد، لم يعتن هو نفسه بجمعها، وتركها فريسة للصحف والمجلات المتناثرة في أضابير الزمن، وفي منحنيات دار الكتب العتيقة، أو في دور الصحافة التي يعاني فيها المرء مرارة البحث حتي يعثر علي المادة المنشودة، حتي يوسف ادريس نفسه، والذي نعرف من خلال شهاداته التي كتبها، لم يفكّر في ذلك الأمر، والذي فعله، هو نشر تلك القصة، مع هذا النقديم الجميل الجميل، والشهادة أو الاعتراف علي قلة اعترافات ادريس بأستاذية يسري أحمد، وجاءت القصة مصحوبة بالصورة اليتيمة التي نشرت ليسري أحمد في أي صحف من قبل ومن بعد.
وربما انتماء يسري أحمد لليسار، لم يدفع رفاقه للحماس له، فبعض قصصه كما أسلفنا منشورة في مجلات ذلك الزمان اليسارية، ولم تكن تلك القصص زاعقة بأي حال من الأحوال، بل كان يسري أحمد أستاذا في كتابة القصة كما كتب يوسف ادريس، وكما قال صلاح حافظ في مذكراته، بأن يسري أحمد كان أبرعنا في كتابة القصة، وهاهي قصته "لن نموت"، وهي ليست مدرجة كذلك في ببلوجرافيا ، وهي منشورة في مجلة الكاتب بتاريخ 4 أغسطس عام 1951، وهي تدور في أجواء الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه القصة إحدي المخاضات الكبري في انتصارات فن القصة القصيرة، فهو يعبر بجمله الفنية، المشحونة بكل جيشان الواقعية الجديدة، دون ذلك التعبير المباشر الذي كان يفيض من بعض قصص رفاقه، ومنهم مصطفي محمود وصلاح حافظ ويوسف ادريس، ولهذا يعترف إدريس بأن يسري أحمد "هو الذي دلنا علي الطريق ثم مضي".
وهنا أريد فقط أن أقتبس استهلال القصة، الذي يضعنا في الحالة فورا، دون إطناب واستطرادات وتمهيدات، يقول الاستهلال :"الحرب.. وفي إحدي ليالي صيف عام 1942..وكان كل شئ بالنسبة لسكان الاسكندرية قد تم لاستقبال الموت ..فقد أطلقت صافرات الإنذار، ولم تلبث الأنوار أن انطفأت في كل ثقب من المدينة، بينما هرول الرجال إلي كل مكان، وصرخت النسوة ..وبكت الأطفال دون أن تعرف السبب..ثم أقبلت طائرة وثانية ..سبع طائرات ..ومضت تتسابق القنابل".
هذا الاستهلال الذي كتبه يسري أحمد، عندما نكمل قراءة القصة، نجده بمثابة الأرض الخصبة التي نمت فيها كافة الأحداث والشخصيات فيما بعد، وهذه تقنيات راحت تعمل عند غالبية القصص التي تركت علامات حادة في عقد الخمسينيات، وخاصة عند يوسف ادريس، والذي لا ينكر ذلك في اعترافاته، وقد كرر أهمية يسري أحمد ودوره البارز في القصة القصيرة المصرية في حواراته المطولة مع الدكتور غالي شكري، والتي جمعها كلها في كتاب أسماه "يوسف ادريس ..فرفور خارج السور".
إذن فمحمد يسري أحمد ترك عالم وكتابة القصة تماما، وسافر إلي السودان، ولم يجمع قصصه في كتاب علي الإطلاق، كما أن صلاح حافظ الذي ترك كلية الطب، وانتقل تماما لعالم الأدب، وكتب كما مهولا من القصص، لم يجمع منه سوي بضع قصص قليلة، ثم هجر كتابة القصة إلي الصحافة التي أغوته وأغرقته تماما فيها، وانشغل كذلك بالمعارضة الشرسة والدائمة، وتم حبسه والحكم عليه بالسجن، ثم اعتقاله، وكتب روايته الوحيدة "المتمردون"، ثم جمع بعضا من كتاباته الصحفية في بعض كتب، أما إبراهيم فتحي فلم يكن مشغولا بكتابة القصة القصيرة، ولكنه كان انخرط في العمل السياسي بشكل جارف، ثم الترجمة فيما بعد، ثم النقد الأدبي الذي قدم فيه ثمارا في غاية الأهمية، والوحيد الذي صمد لفترة ما من جماعة كلية الطب، كان مصطفي محمود، الذي نشر كما كبيرا من القصص، وظل منافسا أساسيا لإدريس، كما قلنا في حلقة سابقة، وأوضحنا فيها هجرة مصطفي محمود إلي أجناس أخري من الكتابة، حتي يحط به الترحال في التنظير الديني، والعوالم الصوفية، والتي بدأت بقوة في كتابه "التفسير العصري للقرآن"، والذي نشره مسلسلا في مجلة "صباح الخير" عام 1969، ليثير ضجة كبيرة، تأخذ مصطفي محمود فيما بعد بشكل كلي إلي عالم البرامج الدينية، خاصة مع قدوم صديقه القديم محمد أنور السادات، ليكون رئيسا للبلاد.
من هنا يخلو المجال تماما من منافسين أقوياء في مجال القصة القصيرة، حتي يصبح يوسف ادريس عن جدارة إحدي علامات القصة في عالمنا المعاصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.