الذوَّاقة، لهذا اللقب وقعٌ طيبٌ علي الأذن، وعندما تنطقه تشعر بالفعل أنَّ ثمة لذة في نطقه! وإذا استخدمت أكثرَ طُرقِ التعبيرِ شيوعاً وبساطةً لشرحِ معناه، وهو ما ليس مشجعاً، فقد أقول: شخصٌ يحب الأكلَ للغاية. أَيمكنُ للشخصِ الذي يحب الأكلَ أن يصيرَ خبيراً! هذا ما لم أكن أتوقعه بالمرة. فكلُّ الأشياءِ التي أتوقعها لا تحدث، ودائماً ما تقع الأشياءُ التي لا أتوقعها، وقد كان هناك بالفعل شخصٌ ما صار خبيراً بسبب حبِّه للأكل، عاش قربي كالشبح طوال أربعة عشر عاماً. كنتُ أحتقره، أكرهه، وأعارضه، وحينما أصبحتُ أنا في النهاية شخصاً بلا أي مهارة فريدة، صار هو يحمل لقبَ الذوَّاقة بسبب حبِّه للأكل. وفي البداية لا مناصَ من أن أعبِّر بصراحة، أنني بشكلٍ عام لا أعارضُ الطعامَ والشراب، ولو كنتُ أعارضهما منذ صغري، لكانت حياتي ستنتهي في اليوم ذاته الذي أطلقتُ فيه صرخات مجيئي إلي هذا العالم، ولهذا لا يمكنني معارضةَ فكرةِ الطعام والشراب. ولكن عادات قوميتنا تُعنَي بالجِد والبساطة، واقتصادِ العيش بعدم الإسراف، ولهذا كان الشخصُ النَّهِمُ يلقي الرفضَ دائماً. وكانت الأمهات يربِّينَ أطفالهن علي "استهجان الشراهة" منذ الصغر، علي الرغم من أنَّ هذا النوع من التربية كان يتخذُ من السباب والشتيمة مظهراً له: " النَّهِمُ، بائسُ الحظ!"، سيصبحُ الشَّرِهُ عفريتاً، وسيكون بائسَ الحظ كذلك. وعندما كان الأطفالُ يريدون إحراجَ غيرهم من أقرانهم، كانوا يحكُّون خدَّ طفلٍ آخر بسخرية: "أَلا تخجل، أيها الشَّرِهُ، أيها النَّهِمُ، أَلا تخجل". ولهذا كانت الفتياتُ لا يجرؤن علي قضمِ الفطائرِ في الشارع خوفاً من التعرضِ للإحراج، والآنساتُ في المسرح كنَّ يغطين أفواههن بأكمامهن عند تناول الطعام والشراب. وقد تربيتُ علي "معارضةِ النَّهِم"، ولهذا كنتُ أحتقرُ النهمين من الأشخاص. وبعد أن صادفت تحديداً ذلك الشخصَ الذي كان شَرِهَاً منذ صِغره، والذي أصبح "خبيراً" ويُدعي تشو زي تشي، رأيتُ أنَّ الأشخاصَ الشرهين كأنهم خَلٌّ يُقَطَّرُ في الأنف. وتشو زي تشي رأسمالي، وأن تكون رأسمالياً محترفاً، فلا ضيرَ في ذلك. ويقول بعض الناس إنَّ الرأسماليين أقوي من ملاكِ الأراضي، فهم مثقفون، ماهرون، وعلي دراية بنظام العمل والإدراة. وأنا أوافق علي هذا أيضاً. لكن تشو زي تشي كان استثناءً، فهو رأسماليٌّ وصاحبُ عقارات، يملك تقريباً جميع البيوت في حارتنا هذه. وهو يستغلُ الناسَ الآخرين الذين يفتقدون أيَّ مهارة، ولا ينطق سوي كلمتين فقط: "ادفع الإيجار"، حتي أنَّه لا يحتاج لقول هذه الكلمات، لأنَّ مَهمَّةَ جمعِ الإيجار يقوم بها وسيطٌ خاصٌ بالنيابةِ عنه. والرأسماليون مُلاك العقاراتِ بشكلٍ عام يكونون دائماً علي دراية بعالم البناء، وهذا الأمرُ مفيدٌ للمجتمع. لكن تشو زي تشي كان جاهلاً بذلك، حتي أنَّه يملك عقارات عديدة، تقع في مكانٍ ما، ولا يدري عنها شيئاً. كان والده في السابق وكيلاً عقارياً ماهراً، افتتح في شانغهاي مكتباً للعقارات قبل حرب اليابان، وعاشت عائلته هناك، ولكنه اشتري في سوجو أملاكاً ضخمة. وفي بدايةِ حربِ اليابان، سقطت قذيفة علي سطح بيته، ونجا بأعجوبة شخصٌ واحد، كان هذا الشخص هو تشو زي تشي الذي جاء إلي مطعم (منزل الجدة) لحضور ولائم الزفاف. وحبُّه للأكل هو ما أبقاه حياً، ولهذا فإنَّه لو يكن لم يأكل بنَهَم، لكانَ من الصعبِ عليه أن يعيش. عندما تعرفتُ عليه، كان علي وشك أن يُتم الثلاثينَ من عمره. ولا تظن أنَّ الشرهين جميعاً بُدناء، هذا غيرُ صحيح، ففي ذلك الوقت كان تشو زي تشي هزيلاً كغصنِ صفصاف. ولعلَّه أحسَّ أنَّه هزيلٌ للغاية، لذلك كان يشعرُ أنَّه لم يشبع طوال الوقت، فالأشخاصُ البدناءُ لا يجرؤون علي تناولِ المزيدِ من الطعام. وما يُقال حول أنَّ الأشخاص الشَّرهين يهتمون بإطعام أفواههم ولا يهتمون بمظهرهم منطقيٌّ بعض الشيء. وعلي الرغم من أنَّ تشو زي تشي يملك من المال ما يكفي ليأكل ويعتني بمظهره، إلَّا أنه لم يكن يُعير اهتماماً للملبس علي الإطلاق. كان يرتدي طوال العام أثواباً طويلةً غيرَ بالية، يشتريها من محل الملابس التقليدية، وحينما يشتري الجديدة، يرتديها، أما القديمة التي يخلعها "ينساها" في الحمام العمومي. وسمعتُ أنَّه تزوَّجَ من قبل، لكنه لم ينجبْ أطفالاً، ولا توجد في حياته امرأة. في إحدي المرات فقط، رأيته مع امرأةٍ فائقةِ الجمال يركبان معاً عربةَ جَرٍّ ثلاثية ويتنزهان في شارع (هو تشيو)، بعدها علمتُ أنَّ هذه المرأة لم تتمكنْ من دفع أجرةِ العربة، وطلبتْ منه توصيلها في طريقه، لكن تشو زي تشي وبأسلوبٍ يفتقرُ إلي اللياقة طلبَ منها أن تدفع نصفَ الأجرة. ولا يملك تشو زي تشي منزلاً في شانغهاي، ويعيش بمفرده في منزل بسوجو. وقد شُيَّدَ هذا المنزل في أواخر العشرينات، علي الطرازِ الغربي. بأبوابٍ ونوافذ مَنخلية وسجاجيد، وبمرافق كاملةٍ للصرفِ الصحي. وفي الشرفة صهريجا ماءٍ كبيران، يُجلَبُ إليهما الماءُ من البئرِ بمضخاتٍ كهربائية. كات هذه الفيلا الصغيرة المكونة من طابقين تقعُ خلفَ بئرٍ كبيرة، وفي الأمام توجد ستُ غرفٍ مصطفة من طابقٍ واحد: غرفةُ استقبال، مطبخ، وغرفةٌ للمحركات، ومخزن، كما أنَّ غرفَ الخدمِ كلَّها هناك. ولأنَّ خالتي وعمةَ تشو زي تشي بناتُ عم، فقد انتقلنا عقبَ حربِ اليابان، وبعدَ وفاةِ والدي، إلي مسكن تشو زي تشي، ومكثنا في الغرفِ المصطفةِ الأمامية. لم نكن ندفع إيجاراً، بل نقوم بمًهمَّتين فقط: الأولي حراسةُ مسكنه، والثانية مساعدةُ أمي في الأعمال المنزلية. كانت هاتان المَهمَّتان مريحتين للغاية، فتشو زي تشي يصحو مبكراً ويعود متأخراً، ولا توجد أيُّ أعمالٍ منزليةٍ نقوم بها، ولم يَطلبْ من والدتي أن تساعده في أي أمرٍ من قَبل مطلقاً. لم تتحمل والدتي ذلك، فكانت تغسلُ الأغطيةَ وترتقُها له، وتمسحُ الغبار، وتفتحُ النوافذ. لكنه لم يرحبْ بذلك فحسب، بل كانت يشعرُ بالضيق، ويري أنَّ هذه أعمالٌ غيرُ ضرورية. ذلك أنَّه يري المنزلَ سريراً فقط، وعندما يرقدُ في سريره تكون معدته ممتلئة، وحينها يستندُ علي الوسادةِ مُطلقاً شخيره. كان تشو زي تشي يستيقظُ مبكراً للغاية، ولا ينامُ لوقتٍ متأخر، لأنَّ معدته تبدأُ بالتحركِ ما أن يحين وقتُ استيقاظِه، تتحركُ معدتُه في الموعدِ بالضبط وكأنها منبه. وما أن يفتح عينيه، حتي تلمع في ذهنه فكرةٌ واحدةٌ فقط، "لنذهبَ إلي تشو هونغ شينغ لتناولِ الشعرية!" هذه الجملةُ تحتاج إلي بعضِ التفسير، وإلَّا فإنَّ أهلَ سوجو فقط، أو كبارَ ومتوسطي السن في سوجو فقط مَن سيفهمها، وسيجدُ البقيةُ صعوبةً في إدراكِ الإغراءِ الذي تثيره. في ذلك الوقت، كان في سوجو مطعمٌ للشعرية يُسمَّي تشو هونغ شينغ، افتتحَ مؤخراً فرعاً أمامَ حديقة يي. ويُعِدُّ المطعمُ أنواعاً كثيرةً من الشعرية، لا يمكنني أن أًصف مذاقَها الشهيَّ اللذيذ، وقائمةُ الطعامِ هناك عامرة. لكن الوجبات عادية، وأود أن أطلعكم علي بعضِ أنواعِ الشعرية. أيُّ نوعٍ تود أن تتناوله؟ ستجده. فصحنُ الشعريةِ الواحد، يُقدم بطرقٍ متعددة، والذوَّاقون لديهم خبرة في ذلك. مثلاً، ما أن تدخل المطعمَ وتجلس. "هيه! (حينها لم نكن ننادي الشخصَ بالرفيق) أريدُ طبقَ شعرية )(. وبعدَ أن يتمهل النادلُ لبرهة، يهتفُ قائلاً: "بسرعة، طبق شعرية) (لكن لماذا يجبُ علي النادلِ أن يتمهل لبرهة، لأنَّه ينتظرُ أن تُخبره بنوعِ الشعريةِ التي تريدها متماسكة، ناضجة تماماً، كثيفة المرق، قليلة المرق، شعرية باللحم والخضار أو الصلصة والتوابل، شعرية تُضاف إليها أوراق الثوم، شعرية بدون إضافة أوراق الثوم، شعرية كثيرة الزيت، شعرية قليلة الزيت، شعرية قليلة الإضافات (شعرية كثيرة، إضافات قليلة) شعرية كثيرة الإضافات (شعرية قليلة، إضافات كثيرة)، الجسررلا تُوضعُ الإضافاتُ في طبقِ الشعريةِ ذاتِه، بل تُوضعُ في صحنٍ آخر، وتُستخدم أعوادُ الأكل حين تناولها، وكأنك تعبرُ بالطعام جسراً حجرياً إلي فمِكروإذا كان تشو زي تشي في المطعم، ستسمعُ النادلَ يهتفُ بصوتٍ مرتفع: "بسرعة، صحن من الروبيان المقلي، شعرية كثيفة المرق، شعرية بإضافة أوراق الثوم، شعرية الجسر كثيرة الإضافات!" إنَّ طريقةَ إعدادِ طبقِ شعرية واحد يُدهش المرءَ فعلاً، ولكن تشو زي تشي لا يظن بأنَّ هذا كلَّه مُهم، المهم هو أن يتناول "أولَ قِدرِ شِعرية". فإذا أَعدَّ المطعمُ ألفَ صحنٍ من الشعرية، وقِدراً من المرق، سيكون المرقُ كثيفَ القوام ذا رائحةٍ خفيفة، ولن تكون الشعريةُ طازجةً، ومحمرة. وإذا تناول تشو زي تشي صحنَ شعرية له رائحةٌ خفيفةٌ من المرق، سيفقد حيويته طوال اليوم، وسيشعر بأنَّ أمراً ما لا يجري حسبَ ما يشتهيه. ولهذا لا يستطيعَ البقاءَ مثل آبلوموف مُسلتقياً طوال اليوم، وما أن يحين وقت المغرب حتي يتعينَ عليه النهوض، وغسل وجهه ويديه بسرعة، واللحاق ب (أولِ قِدرِ شِعرية). إنَّ فنَ تناولِ الطعامِ كغيرهِ من الفنون الأخري، يجبُ أن تحرص إزاءه جيداً علي العلاقةِ بين الزمانِ والمكان. حينما يخرجُ تشو زي تشي من البوابةِ الكبيرة وهو يدعكُ عينيه، يكون سائقُ عربةِ الركشا آه أر قد جرَّها ناحيةَ المدخل. يصعدُ تشو زي تشي العربةَ مزهواً، رأسه مائلٌ هكذا، يضعُ قدمَه هكذا، وتقرقعُ العربةُ لفترة، متجهةً إلي تشو هونغ شينغ. وبعد أن يتناول الطعامَ يركب عربةَ آه أر مرةً أخري، ويتجه إلي مقهي الشاي في شارع (تشانغ مين شي). ومقاهي الشاي منتشرةٌ في جميعِ أنحاءِ سوجو، لكن لماذا يذهب تشو زي تشي تحديداً إلي المقهي الموجود في شارع (تشانغ مين شي)؟ ثمة سببٌ ما. في مقهي الشاي ذاك غرفةٌ منفصلةٌ عن غرفِ الزبائن الآخرين، بها طاولة من الخشب الأحمر، وكرسي كبير مصنوع من الخيزران، تشكلُ عالماً صغيراً شخصياً فريداً. يَجلبُ المقهي الماءَ من الأمطارِ والآبار، ويَجلبُ أوراقَ الشاي مباشرةً من تلالِ دونغ تينغ الشرقية. يُغلَي الماءُ في جَرَّة، وتُشعلُ المواقدُ بأغصانِ الصنوبر، يُنقعُ الشايُ في براد ييشينغ الأرجواني. الأكلُ والشرب، الأكلُ والشرب، الطعامُ والشراب وحدةٌ واحدة لا يمكن فصمها، وكلُّ الذين يُطلَقُ عليهم لقبُ الذوَّاقة، لا يكونون كلهم من أتباع (لو يو)* و(دو كانغ)*. وبعد أن يطأ تشو زي تشي مقهي الشاي، يأتي أصدقاؤه بالتتابع. والذوَّاقون فيما عدا التأخرِ عن المواعيد، لا يتحركون فرادي، ولا يجب أن يقلِّوا عن أربعةِ أشخاص، وألَّا يزيدوا عن ثمانيةٍ علي الأكثر، لأنَّ أطعمةَ سوجو لها تكوينها المُتكامل. مِثالٌ علي ذلك، قبل أي شيء تبدأُ الوجبةُ بالمقبِّلات، بعدها الأطباقُ الساخنة، ثم الحلويات، ومن ثم الطبقُ الرئيسي، بعدها المعجنات، ويأتي الحساءُ ختاماً للوجبة. هذه المسرحيةُ الكاملةُ لا يمكن لشخصٍ واحد أن يشاهدها، فإذا شاهدتَ مشهداً واحداً بمفردك لن تستمتعَ بمحتواه، ولهذا ينبغي أن يتحرك الذوَّاقون في مجموعات. في البدء يجلسون في مقهي الشاي لمناقشةِ ما تناولوه في اليوم السابق، يتناقشون حول المزايا والنواقص. الدردشة هي المرحلةُ الأولي. وما أن يفرغوا منها حتي يتحولوا إلي الموضوع الرئيس، وحتي يكونوا في الجانبِ الآمن، أَلا ينبغي عليهم أن يقتطعوا جزءاً من الوقتِ ليقرروا إلي أي مكانٍ سيذهبون اليوم؟ هل إلي مطعم (شين جو فينغ) أم إلي (يي تشانغ فو) أم إلي (سونغ خي لو)، وإذا مَلُّوا تلك الأماكن، فسوف يذهبون إلي مكانٍ أبعد. ويستأجرُ كلٌّ منهم عربةَ ركشا، أو يركب كلُّ أربعةٍ في عربةِ خيل، يثيرون ضجة، وتصهلُ الأحصنة، ويذهبون إلي مطعم (شي جيا) لتناولِ حساءِ كبد سمكِ البونيت، ثم إلي قرية (فينغ تشياو) لتناولِ الشعرية، أو يذهبون إلي (تشانغ شو) لتناولِ (الدجاج المتسول)......وللأسف لا يمكنني أن أصف بشكلٍ دقيقٍ مأكولات سوجو وضواحيها، خشيةَ أن يجلب ذلك نقاشاتٍ كثيرةً حول سوجو. والتأثيراتُ الجانبيةُ للروايةِ من الصعبِ دائماً توقعها.