"الآن أرسل لك حكاية جديدة، لا أعلم إن كانت ستعجبك أم لا، ولكنها مساحة لأبتعد عن الحديث في أزمة القضاء السياسي الذي يدين الثوار لمجرد مشاركتهم في الثورة"، هكذا يكتب مُرسل الخطابات إلي سلمي، ليحدد استراتيجيته من كتابة الرسائل والهدف منها: تجنب السياسة. يسعي كتاب "يا سلمي أنا الآن وحيد" لباسم شرف الصادر عن »دار دوّن« لتجنب السياسة لكنه ما ينفك يحوم حولها، أو بالأحري يكتشف إحاطتها به. تبدو السياسة مركز الكتاب/ النص/ الرسائل رغم كل محاولات الإفلات المتكررة. يسعي الكتاب لكتابة حكايات خيالية لكن حتي الحكايات الخيالية لا يمكنها أن تحتفظ ببراءتها بعيدا عن السياسة.. بعيدا عن الموقف من العالم. ولكن لماذا يرغب الكتاب/النص في تجنب السياسة؟ لا يمكننا قراءة وتفسير هذه المحاولات الفاشلة من داخل النص. الإجابة علي هذا السؤال تفرض علينا الحركة ذهابا وإيابا من الداخل للخارج ومن الخارج للداخل. لا يمكن تجنب الكلام عن الثورة ونحن بصدد الإجابة علي هذا السؤال. بعد عامين من الثورة، وتحديدا بعد 30 يونيه، بدا أن المزاج النفسي لكثير من الناس ونحن هنا بصدد الاستعانة بفرويد منقسم بين شعور بالارتياح (الهروبي) لأن الآباء قد استعادوا زمام الأمور بعد عامين من الفوضي الطفولية، كأطفال لسبب ما تُركوا في البيت بمفردهم فكادوا أن يشعلوا النيران به لولا عودة آبائهم في الوقت المناسب، وبين شعور بخيبة الأمل، لكنها أيضا خيبة أمل طفولية تسربت لأطفال صدّقوا أنهم صاروا خارج كل رقابة وأنهم قادرون علي أن يديروا شئونهم بأنفسهم لولا أن الآباء قرروا أن وقت اللعب قد انتهي وآن أوان النوم. شعور الارتياح الممزوج بخيبة الأمل أو خيبة الأمل الممزوجة بالارتياح فرضت علي كثير من الأشخاص خصوصا أصحاب النفوس المسالمة كباسم شرف نفسه الذي لا شك أنه هو والمرسل شخص واحد أقول فرضت عليهم الاعتزال، اعتزال السياسة، كفرصة لاسترداد الأنفاس.
بالنسبة لباسم شرف كما بالنسبة لمُرسل الخطابات كانت كتابة الرسائل لا الرواية مثلا محاولة للاعتزال. الرواية ديوان العالم، في الرواية لا يمكنك تجنب السياسة، لكن في كتابة الرسائل خصوصا تلك التي لا يعرف مُرسلها إن كانت تصل أو لا تصل خصوصا تلك التي لا يكون ثمة رد عليها فرصة كبيرة للاعتزال، ومن ثم لفرض إيقاع منتظم علي فوضي العالم، إيقاع الرسائل، الفترة التي تفصل بين رسالة وأخري، طول الرسالة أو قصرها، التنوع بين الحكي وبين المناجاة الذاتية، التداخل بين الشخصي وغير الشخصي، القراءة علي الكتابة، وأخيرا الشعر. تضمّن الرسائل عدة قصائد خارج أي سياق حتي خارج سياق كتابة الرسائل نفسه محاولة لفرض نَفَس شعري، أي منتظم، إيقاعي، علي ضجيج منفلت، حاصرنا، وحاصر الكاتب، طوال الأعوام الأخيرة. "الوحدة مزاج الأنبياء" هكذا يكتب في مفتتح الكتاب/ النص، ويكتب "الوحيدون وحدهم"، وهما عبارتان تتكرران طوال النص. الوحدة التي ترد في العنوان وتتكرر طوال النص تبدو كاختيار، لكنها تبدو أيضا كهبة إلهية. لدرجة أن الوحيدين يعرفون بعضهم عن بُعد، ما أن يركب أحدهم المترو حتي يمكنه تمييز الوحيدين الآخرين، ككائنات تسير في الشوارع دون أن يلفتوا الأنظار. في فيلم مدينة الملائكة يقرر "سيث" الملاك أن يعبُر طبيعته النورانية ليتحول لبشر، هو ليس الوحيد الذي تمكّن من فعل ذلك، فثمة آخرون، يمكنهم تمييز بعضهم بعضا، لكنهم لا يُفصحون عن طبيعتهم الأولي، ولا حتي حين يختلون ببعضهم. هكذا هم الوحيدون في نص باسم شرف. ثمة كائنات وحيدة، تميز بعضها، لكنها أبدا لا تفكر في خدش وحدتها وتمايزها. ومع هذا فإن فعل الكتابة نفسه لسوء حظ الكاتب ولحسن حظنا كقراء يخدش الوحدة. الوحدة التي هي الاكتفاء المطلق بالذات، والتي تجعل من الوحيد بحسب الكاتب إلها، تفقدها الكتابة معناها. بالكتابة أي بالرغبة في التواصل في التشارك في استعراض الذات لنفسها أمام آخر يتأكد الافتقاد. الوحدة إذن ليست اكتفاء ولكنها افتقاد. يكتب باسم "لا أعلم لو لم يكن هناك رسائل أرسلها لك ماذا كنت سأفعل؟". الحقيقة أنه لا شيء. الكتابة هنا بديل عن شيء ما، أو عن عدم ما. يستعير الكاتب عبارة لفرجينيا وولف تقول "صرت أكتب كثيرا كي أُشعر العالم بوجودي". فرجينيا وولف هو وحيدة أخري، واحدة من تلك الكائنات التي يمكنها تمييز بعضها البعض، لهذا فإنها تخص الكاتب برسالة (الكاتب/مُرسل الرسائل تأتيه عدة رسائل ليس من بينها رسالة من سلمي).
أكتب كي أشعر العالم بوجودي.. ربما تكون العبارة المفتاح لقراءة الكتاب/النص، ولتفسير السؤال الذي افتتحنا به المقال. يقول الكاتب "الساذج من يفكر في تغيير العالم، إننا نتكلم عن تغيير العالم وهو لا يتغير ولن يتغير، الصيرورة تغيره والحروب فقط، لا قصيدة ولا حكمة ولا عقيدة"، هذا الفشل في تغيير العالم، أو النجاح في معرفة أن العالم لا يتغير، هو الدافع خلف كتابة لا تسعي لتغيير العالم وإنما لتجاهله. "أكتب كي أعيش سعيدا فقط.. أنا العالم ولا شيء سواي"، السعادة المرتجاة من فعل الكتابة (الكتابة الشعرية والشاعرية بالخصوص وهي شاعرية تبدأ من العنوان الفاتن: يا سلمي أنا الآن وحيد) هي سعادة متخيلة، افتراضية، مستحيلة أيضا، فخلف عبارة كتلك "دعيني أبشرك بخبر جميل لك ولي، إننا في انتظار الشتاء، وتعلمين أني أحبه مثلما أحبك" تبدو مأساة كاملة شاخصة رغم تخفيها لأنه ببساطة ثمة شخص ما "يستطيع أن يقبض عليّ لأني أسير بجوارك في شارع بوسط المدينة" ولن تفلح مراوغة كتلك: "ولكن لا داعي للحديث عن مثل هذه القضايا" في نفي الواقع، أو في نفي حقيقة أن الواقع يثقل علي الكاتب كحجارة في جيوب فرجينيا وولف التي تمنعها عن الطفو، ومن ثم النجاة. لهذا فإن الرجل الذي قتل أطفاله.. المرأة التي انتحرت.. وزارة الصحة.. حوادث الطرق.. مطاردة الشرطة للشباب.. هبة قطب.. غزة والرصاص الذي يطوف حول الرؤوس كما دخان السجائر.. وحتي استعمار أمريكا للعالم بصلصلة الكاتشب سوف يطاردون الكاتب كأشباح مهددين السلام الذي يبحث عنه، ليظل طوال الوقت كفأر في متاهة صنعها جدٌ ما، حتي أن العالم يتحول في النهاية لصندوق ينتمي للجد تتصارع فيه إرادات، وفيه "كل شيء يحدث.. يحدث كل شيء.. وكأن شيئا لم يحدث" رغم أن في الخارج ثمة فضاء يتسع للجميع. العبارة الأخيرة: كل شيء يحدث وكأن شيئا لم يحدث هي عبارة مفتاح أيضا، لأن العالم كما الرسائل التي لا يأتي لمُرسلها رد ولا تنجح في التخفيف من آلامه أي التي يحدث فيها كل شيء وكأن لا شيء يحدث فيها يبدو بضجيجه وفوضاه كأن كل شيء يحدث فيه لدرجة أن لا شيء يحدث فيه علي الإطلاق.
"يا سلمي أنا الآن وحيد" كتاب جميل، قد يكون علي غير رغبة الكاتب مفرط الكآبة، لكنه يظل واحدا من الكتب الممتعة الصادرة هذا العام، ربما لأنه كتاب صادق، لم يتخفّ كاتبه باسم شرف خلف قناع سردي، ووضع نفسه أمامنا، بهزائمها وانكساراتها، بمتعها الصغيرة وأحزانها الكبيرة، لنسأل معه عن سؤال الجدوي، جدوي أي شيء، جدوي الحياة، وجدوي الكتابة، وجدوي السياسة، بل وجدوي الهرب من السياسة أيضا. وهو سؤال ربما فرضته متوالية الفقد، بداية من فقد فرص التغيير وليس انتهاء بفقد الأم، تلك التي يكتب لها باسم واحدة من أجمل الرسائل وأكثرها صدقا وأشدها إيلاما، حتي أنه يسألها "الكل هنا كان يحبك فلماذا ترحلين؟"، كما لو كان يوجه سؤاله عبرها لبهجة العالم وللوعود وللآمال الكبري.