عذاب الركابي الشاعر العاشق ركّز في ديوانه علي معاناته وآلامه الشخصية ومعاناته لما تحس به ذاته الشاعرة وما تراه في مجتمعها من مظاهر الأسي والألم، فقدم تجربته الإبداعية بقصائد دالة موحية، تؤكد ترابطها الجميل المتمثل في تعلقها بعروبتها وقوميتها وبلدها وذاتها، والثورة والتمرد علي كل مظاهر الألم والفساد. ويظهر في الديوان تمسكه بعروبته ووطنه، وأنه يرفض أنصاف الحلول، لكنهُ قبل بالواقع كما هو. وكان قادرا علي تشكيل الحدث بأسلوب تصويري بديع، يظهر فيه الانتماء والصبر والعشق للحياة وللوطن وللأمة وللإنسانية، لكنه في كثير من الأحيان طوق نفسه بالماضي الحزين الذي لم ينطفئ علي مرّ الزمن ،يقول في قصيدته(في انتظار ما لا يجيء): أنا لا أحد أبحث عني.. ولا أجدني خطوتي..انتظار ولحظة ميلادي..غيابْ حياتي : كتابة وعالمي المخملي: كتاب وقتي الطفولي..قلق(ص:67) فقد أكد عذاب الركابي في ديوانه أن (هو/ الذات) الانسانية يحبّ ويغضب كما الجميع تماماً، وعبّر فيه عما في داخله من عشقٍ ورفضٍ وكرهٍ وثورةٍ.وقد خلع أحاسيسه علي الطبيعة ، وأشار إلي أن له دوراً لا حدود له في الحياة ، فهو يعتبر نفسه ليست مجرد ذات وحيدة بل كيان قومي حضاري، ولا بد من استيعاب أبعاده " . ويثير هذا الديوان كثيراً من الأسئلة الإشكالية، علماً أنه " لا يوجد معني حقيقي للنص " (3) كما يري بول فاليري. ثانياً: صرخة رجل تربط الذات الشاعرة بين الرجل/ المرأة/ البطل والورود والملحمة والأسطورة في ديوانه..يقول في قصيدتهِ (جلجامش لا يغيب طويلا): يا أبا العالم يا سيدي الرابض في إيقاع ولادتنا الصعبة أيها الشاهد الأزلي علي موتنا المستحيل هذي أناشيدك الكونية قد استباحوا حقلها القرنفليّ(ص:55) ويعبر عما في داخله من عشق أو كره أو رفض أو ثورة كما الأبطال تماماً، ولعل هذا جاء حصيلة مجموعة من المواقف أو علي الأرجح ارتبط بتجربة ذاتية خصبت لديه شعوراً بأن النفس البشرية الغيور فاعلة في مجتمعها، ومن ثم فإن صرخة الشاعر الغاضب في ضوء تجربته الشعرية لا تُحقِّق كينونة مفقودة أو طموحاً مغيباً، وإنما تشير إلي حالة من الرفض لظروف اجتماعية طارئة... إنّك تقرأ في قصائد الشاعر ثنائيات ضدية عميقة وكثيرة، فكان رافضا ومتحديا وعاشقا في آن. وقد أسس أول قصيدة في الديوان لحالة غضبٍ أو ثورة علي ما أصاب بغداد من دمار وحصار ومحو لعالمها وحضارتها وتاريخها...معلنا ذلك في التجربة الشعرية، إذ بها وحدها كانت تفتتح القصيدة، وعليها وحدها بكي العربي وجداً وحدادا... وسالت دموعه حزناً، وخلفها وحدها استمرت رحلته هابطاً ومرتفعاً بين السهول والأودية الجبال والسفوح، فأراد عذاب الركابي أن يعيد للذهن المعاصر ما تعانيه بغداد في بعض صورها المؤلمة. يلحظ قارئ هذا الديوان أن الذاكرة عند الشاعر مخصبة تخصيباً عالي الحركة والقوة، فالقهر في كل مكان، وملايين الشموس المستنفرة كما يقول تختبئ تحت جلدها؛ إشارة إلي أن بدائل القهر المضادة جاهزة للخروج والولادة والتصدي، وفيها خلاص وحرية وضياء ومحبة ومساواة، والجلد عنده حدوده قصوي، كأنه فضاؤه.. فالحاضر الأول والأكبر في الديوان، هو الوطن والواقع الأليم.. وانتظار الغد الجميل، والحاضر الثاني في هذه اللوحة هو الشاعر، فقد وقع عليه فعل الواقع والمكان ، فثنائية الأنا والهو حاضرة لا تغيب، وثنائية الفعل الحركي الجميل بين القهر والبشاعة الذي يعني الألم وبين الاستشراف الذي يعني الحياة الجميلة، وبين اللملمة والبعثرة تسيطر علي تفكير الشاعر، وكانت النتيجة أنه يختبئ بين يدي الشعر بإرادته، وهو ينظر إليه بأنه القوي القادر علي الحماية. لأنه يرتبط بفعل هبوط المطر،وشروق الشمس،وانتشار الابتسامة والضحكة الحلوة... فلمعان وهطول المطر وغناء الأرض للمطر، ترتيب تقبله النفس وتفرح به، ولا يرفضه العقل، فتكون الغاية بهذا الفعل حركة عطاء دائمة، وفرح لا ينقطع.. ففيه جماليات لا تخفي علي أحد، فيه الخير والدفء، وفي الشجر العطاء، وتحت ظلاله تكون أوجاع العشاق، وهمسات الكلام الدافئ، هذا كلّه لم يعد في ذاكرة الشاعر، لأنه يسكن في سؤال جلجامش وفي انتظار لا يجيء مثل انتظار جودو...! ويلحظ القارئ في قصائده استخدام ألفاظ من واقع معاناة الإنسان العربي في العصر الحديث، ترددت في كل مكان ، فاستخدم ألفاظاً قاسية جارحة ، ليعبر عن موقفه من الآخر والفضاء والواقع العربي المتردي... وحول هذه الكلمات من عدم القبول والرفض والامتعاض إلي الرضا بها عنده وعند المتلقي، فقد استطاع الشاعر أن يجعل لهذه الكلمات قبولاً، لأنه غير مدلولاتها، وأعطاها بعداً معنويا جديداً... وجعل كلماتها طفلا يولد أو يحبو أو يكبر أو يبني لا يمكن لأحد ألا يراه... بلد في المزاد بتوقيع جنّ الأرض واستكانة أنس البلاد مملكة الضياع حين تغيرتِ الطباع وصارتِ الشهامة ذكري واستهجنت بطولة الآباء والأجداد(ص:70) ويزداد أنينه حين يري أن أباه قدْ ملّ الحياة مبكراً..ويري أمّه وفيةً لحزنها وموت زوجها...وأن إخوته قد كبروا هكذا دونما طعم حياة...وأنّ الزمان يكاد يشبهُ زمن الأنبياء..!!فنجده يصرخ بكلّ ما يراه في رؤيته دامياً ومحرقاً علي مَنْ يسمع صوته يستفيق بهذا الألم الذي يصطخب في داخله: لي أبٌ ملّ مبكراً من الحياة وأمّ وفية لحزنِها..حتي الممات لي أخوة وأخوات كبروا..وأنجبوا رغم شراسة الفقر وسخرية الطغاة(ص:68) ورغم كل هذا يبقي عذاب الركابي من شعراء العرب المبدعين ..وهو ذو صوت ألمعي مائز..في شعره تجد الإنسان...وتجد الحياة...فهو يصوغ كل ذلك في لغةٍ شاعريةٍ جميلةٍ.. وحسّ شعري عالٍ يجعلان منه شاعراً عراقياً عربياً مميزأ...! " بغداد .. هذه دقات قلبي" » شعر« عِذاب الركابي »دار الأدهم للنشر« القاهرة 2013م.