الشاعر العراقي الكبير عذاب الركابي ارسل الي "صفحة كلام في الكتب"أحدث ديوان له " بغداد.. هذه دقات قلبي " ولم أجد أفضل من الدراسة النقدية التي سطرتها الكاتبة السورية الكبيرة غادة السمان عن هذا الديوان في يومياتها في مجلة الحوادث التي تنشر بالعربية في باريس .. وهذا التقديم في اطار الجمع بين الحسنيين من أجل قارئ صفحة كلام في الكتب كم حزنت حين شاهدت صورة بيت الأديب الكبير الراحل جبرا إبراهيم جبرا في بغداد،البيت الذي أعرفه واعرف ما يضمه من وثائق أدبية وثقافية وفنية ثمينة وقد تحول إلي خراب وحطام واحترق كل ما فيه من الكنوز الإبداعية لذلك الأديب الكبير . قلت لنفسي :هذا الخراب الصغير نسبياً ، ولكن المروع صورة عن الخراب العراقي الهائل ، الذي آن له أن ينتهي ويهدأ الوطن ويستقر ويتوازن في ظل ما يشتهيه .انه البيت الكريم ذاته الذي استضافني وزوجي علي العشاء وسعدنا بجلسة مطولة مع الأديب جبرا إبراهيم جبرا ...واذكر إنني جلست ليلتها في مقعد مبتكر هو كومة من الحصي في غلاف جلدي أنيق ما تكاد ترتمي عليه حتي يحيطك كرحم ويحنو علي تعبك متجاوبا مع انحناءات جسدك ، كأنه مقعد حي .وكل ما في بيت جبرا كان مثله يسيل ابتكاراً وفناً وذوقاً. صورة خراب البيت ، تلك الصورة الأليمة منشورة ضمن إطار مقالة كتبها الناقد المعروف ماجد السامرائي من بغداد يرثي فيها ذلك الصرح الأدبي الفني الإبداعي الذي كان بيتاً لجبرا وزوجته الصديقة ، وصار خراباً تحتضنه أشجار احترقت أوراقها مع أوراق وثائقه ومخطوطاته و " أعمال فنية نادرة لكبار فناني العراق وآلاف الأوراق والوثائق التي تمثل ذاكرة مرحلة لعلها من أخصب مراحل الإبداع وأكثرها غني ". كما يكتب الوفي ماجد السامرائي ، مضيفا أن كل شيء في الدار تغير بل امّحي وتحول ركاماً من الحجارة والتراب والرماد .. . والبيت/المتحف تهاوي . وكان يضم أعمالاً لجواد سليم وشاكر حسن ونوري الراوي ومحمد غني ورافع الناصري وضياء العزاوي وسعاد العطار وراكان دبدوب ، وسواهم من كبار مبدعي العراق في الفن التشكيلي إلي جانب آلاف الرسائل الأدبية و التسجيلات الصوتية وأشرطة الفيديو لندوات ومحاضرات ولقاءات تاريخية ثقافية شارك فيها جبرا كشاهد مبدع علي العصر ، هذه كلها تلاشت واحترقت والدار التي كانت مركز حيوية إبداعية طوال نصف قرن صارت رماداً ، بفضل سيارة مفخخة استهدفت المبني المجاور أي القنصلية المصرية في بغداد ، وهكذا راحت حوالي عشرة آلاف رسالة تلقاها جبرا ضحية للدمار وليته نشرها قبل رحيله...... حين نطالع أخبار ذلك الخراب الأدبي كله والهدر والضياع نشعر بالرغبة الملحة في نشر ما لدينا من رسائل وإبداعات من رفاق الكلمة كما فعل ياسين رفاعية بنشره مؤخراً لحكاية حب شامية لأمين نخلة أنجبت قصائد ورسائل ومناخات إبداعية ....وهو ما سأفعله من الآن فصاعداً كما سابق أن افتتحتُ ذلك حين نشرت رسائل غسان كنفاني لي وقامت القيامة ووجهت نداء إلي من بحوزتهم رسائلي لنشرها مع رسائله ولم أتلق جواباً ، وهو ما سأفعله قبل نشري لرسائل أي مبدع وسأقوم بذلك قريباً جداً . ذلك الخراب المهول ، والشوق العراقي إلي انتصار الحضارة علي الهمجية كجزء من رسالة ذلك الوطن المعذب منذ أقدم العصور نطالعه في كتاب العراقي المبدع المقيم في ليبيا عذاب الركابي الذي نشر سطوراً من قصيدة اللامنسي بدر شاكر السياب "أنشودة المطر" كتقديم ثان لكتابه "بغداد هذه دقات قلبي" وجاء في سطور السياب ما يشبه الرؤيا حيث النبوءة جزء عفوي من الأبجدية ، اذ يقول السياب ملتاعاً كأنه يخط قصيدته اليوم : اليوم تصرخ بي : العراق !! والموج يعول بي عراق ، عراق ليس سوي العراق ! البحر أوسع ما يكون ، وأنت أبعد ما تكون والبحر دونك يا عراق !! وهذه الصرخة الملتاعة للسياب هي اللحن الأساسي لكتاب الركابي " بغداد هذه دقات قلبي " . فالعراق لا يفقد مكانة الوحي الإبداعي لدي الشعراء جيلاً بعد آخر وها هو عذاب الركابي يعلن (عذاباته ) أمام نزف العراق ، ويهدي كتابه إلي العراق قائلاً : إلي العراق ...إنسانا .. وتاريخاً ....وأرضاً !! لأنه لا يعرف الموت ، سيظل يولد أبداً حتي وأن بدت الولادة أكثر صخباً ... وضجيجاً !!! وكانت مجلة " الحياة الثقافية " التونسية قد كتبت تقول عن عذاب الركابي إنه " من ألمع الأصوات الشعرية العراقية التي ظهرت في عقد السبعينات في العراق " . لأن الحرية إيقاع قلوب الأدباء الذين يحبون العراق الوطن العريق بتاريخه وعطائه وإبداعه وفكره وتراثه وأصالته ، ومعاصرته وطليعته ولأن الأسلوب الشعري والنثري لعذاب الركابي "جميل ومعبر ومؤثر وحضوره الإنساني والشعري واضح " كما يقول عبد الوهاب البياتي ولأن "عذاب الركابي أفلح كثيراً في صياغة عذابه وعذابنا شعراً متألقاً يجرح القلب ويربك ضرباته " كما يقول عبد الرحمن الربيعي ، لم يكن سهلاً أن اختار لكم قصيدة واحدة من " بغداد هذه دقات قلبي " لتعبر عن سطور الكتاب المشحونة بالعطاء والشجن ، لكنني سأحاول مع قصيدة بعنوان "العراق" تقول: الأمطار ، تري قطرها صعباً ، إذا لم تصلها دعوة من حقول العراق !! الأنهار ، تري سيرها عبثاً ، إذا لم تمر بأرض العراق !! والمواسم ، تخبئ ضحكة الدفء ، سنيناً .. لأهل العراق !! وكل اللقاءات ... افتراق ، إذا لم تفتح كأسها الأولي باسم العراق !! الصباح بليغ ، في حديثه النديّ ، عن نخل العراق !! والدفء يختار ، عنوان قصيدته الأخيرة : العراق !! والكلام ، ليس كلاماً ، بغير حروف العراق !! من زمان زرت العراق زيارات قصيرة ولكنها رحلت إلي العمق في كتابي " الجسد حقيبة سفر " الصفحات 299-334 بعنوان : منتهي الرعاية أو قصر النهاية العناق بين التراث والمعاصرة لقاء بيكاسو والواسطي بعيداً عن (الصالونية) - المسرح شريحة مبدعة من حياة الشعب ... وغير ذلك من المقالات عن بغداد التي تحتاج إلي عمر لكي تعرفها وإلي عمر لكي تنساها ...... لذا أتنهد ويتنهد القارئ حسرة وشوقاً إلي الأفضل وأملاً وهو يطالع لعذاب الركابي : عقارب الساعة تشير إلي الحرية ، حسب توقيت العراق !! الوقت ، يري قنواته منحازة ، وهي تنقل أحزان العراق !!