يتجلي الحرف كعلامة جمالية فريدة في كتابة الشاعر العراقي المبدع أديب كمال الدين ،فهو يحمل دلالات التمثيل المجازي للصوت من جهة، ويقع كبديل للذات، والأنثي، ولعلامات الحكايات، والتراث، والأسطورة، والصيرورة الإبداعية الكونية من جهة أخري. إن تكوين الحرف، وتنقيطه المحتمل في الكتابة، يتجاوز بنيته الشكلية، والاتصالية الأولي في الذاكرة الجمعية ، فهو يحمل أصالة الصوت، وبنية المحو الكامنة في الأثر في تداعيات النص؛ فقد تأتي الباء في النص دون تنقيط؛ لتكشف عن الغياب في عالم المتكلم الداخلي، وقد تدل النقطة علي الوفرة الإبداعية للحياة الأخري حين تمتزج بمادة التراب، وأخيلته في الوعي؛ وكأن النهايات تكشف عن وفرة النقطة، وصيرورتها الاستعارية، وتحولاتها الأرضية، واستبدالاتها المحتملة للصوت. وتبدو صيرورة الحرف الإبداعية في حالة من التداخل مع أصوات الحكايات، والتاريخ، وشخصيات الحكايات القديمة، أو تمتزج برقص حلمي، أو بالمحاكاة الساخرة للحياة، والموت، والشخصيات الإشكالية، وقد تحمل دلالات فلسفية، وثقافية، وذاتية مختلفة؛ فالميم تتجلي كتمثيل للبدايات، وللنهايات التي ترتبط ببنية اسم المفعول (مقتول، منفي، معذب)، والنون تقترن بعالم الأنثي الصاخب، ورعب المحو الكامن في المتكلم حين تغيب النقطة، والحاء تدل علي الحياة الوفيرة، والموت المحتمل، والكامن في الحب نفسه. ونلاحظ مثل هذه التيمات الفنية في ديوان أديب كمال الدين، المعنون ب "رقصة الحرف الأخيرة"؛ وقد صدر عن منشورات ضفاف ببيروت، والرياض؛ وتشير عتبة العنوان إلي فاعلية التمثيلات المجازية للحرف، وإلي مدلوله الجمالي المتغير في تداعيات النص؛ فالحرف قد يصير تمثيلا للذات، أو لأصواتها الكامنة في اللاوعي، والذاكرة الجمعية، أو تكوينا يحتمل الغياب المضاعف، أو وفرة الحياة، أو يستنزف تلك العلامات نفسها فيما يتجاوزها عبر المحاكاة الساخرة، والتناقض الجمالي، وتداعيات الأسئلة الفلسفية الكثيفة. ومن التيمات الفنية المتواترة في الديوان؛ الصيرورة الجمالية للحرف، والفضاء، واستبدالات الكتابة، ووفرة الصوت المبدع. أولا: الصيرورة الجمالية للحرف: يتجاوز الحرف وظيفته الاتصالية، ويعيد تكوين صورته في سياق النص وتداعياته، وكذلك في صيرورة التجربة بالمفهوم الفلسفي النيتشوي في ديوان أديب كمال الدين؛ فالحرف شخصية فنية تمثيلية لها كينونة، أو صوت، وهو يقع بين أحلام اليقظة للمتكلم، والواقع بمستوياته اليومية، وفضاءاته المجازية، وهو يتصل بوجود المتكلم النسبي، وآثاره، واستبدالاته المشكلة للهوية الجمالية في الكتابة. إن الحرف يمارس نوعا من المحاكاة الساخرة ما بعد الحداثية لمدلوله الذاتي المستقر في الوعي، وللمتكلم، ولعلامات النص الثقافية، والفلسفية من خلال تواتر الأسئلة، والتحولات. يقول: "ما دمت قد قررت أن تنجو/ مما أنت فيه، / فلماذا أطفأت الضوء في مفتتح القصيدة/ فبكت الحروف/ وملأت النقاط صالة العرض بالصراخ" ص16. يجمع مدلول الحرف هنا بين حضور الكينونة، وتحول الأثر في علامة النقاط؛ فالنقطة تتجلي كدمعة، وصرخة في آن؛ ومن ثم هي تؤكد الصوت المتمرد في حالة الكتابة، وتجلي الذات كأثر مضاعف يقبل المحو، والتدمير في واقع فني، أو فضاء مسرحي تشبيهي لواقع المتكلم الأول. وقد يدل الاختلاف في بنية الحرف علي ثراء الفراغ؛ وهو هنا بديل للواقع الجمالي السابق؛ يقول: "ما دمت لا تعرف/ ما تفعله هذي اللحظة/ فلماذا لا تجرب إطلاق النار/ علي المرأة العارية؟/ في المرآة العارية" ص 18. تبدو المرآة في النص كفراغ مسرحي للذات، وللقصيدة/ الأنثي؛ ومن ثم فهي تشير إلي امتلاء استعاري متكرر، ولكنها تشير إلي رعب الصمت الملازم للكينونة، وزمنها الخاص، وهو ما يذكرنا بمخاوف العدم في فكر هيدجر. وقد تفكك صورة الحرف الصوت المركزي المحتمل للذات المتكلمة، وتجمع بين اللعب، وأثر الصوت المؤجل في النص، يقول في قصيدة "قصيدة السيرك": "وسيصر علي أن اسمها الحياة/ شاعر الحرف/ لكنه سرعان ما يكتشف المأساة/ حين تتركه حاء الحب/ جسدا طافيا ليل نهار/ فوق بحر الظلمات، / وتنزل إليه الباء من سلم القدر/ عارية وهي تخفي ابتسامتها الساخرة". ص108. تحمل صورة الحاء صخب الإيروس، والنهايات معا، بينما تمارس صورة الباء العارية سخرية ما بعد حداثية من الصوت المتكلم، ومركزيته، وتسهم في استنزافه، أو تأجيله؛ فالنقطة الغائبة تعيد تأويل الذات بين الحضور، والمحو في القصيدة. وتصل تمثيلات الحرف، وتحولاته بين الواقع، والوعي إلي ذروتها في نص "تكرار"؛ فالنقطة تشير إلي تناقضات التعاطف الكوني، والتمزق، أو الغياب الذي يذكرنا بنشوة ديونسيوس في فكر نيتشه. يقول: "أردت أن أقبل شفتيك ذات حلم/ فأطلقت علي ثعالبك وذئابك وكلابك كي تنهش حرفي ونقطتي دون رحمة" ص137. التمثيلات الوحشية السوريالية للإيروس، والتدمير تندمج في صورة الأنثي، وتحولاتها بينما يبدو الحرف ممثلا للأصالة، ورعب الفراغ المحتمل في النص. أما النقطة فتؤول حالة التجسد، وتستنزفها فيما قبل التجسد نفسه؛ وهي تذكرنا بالنفس الدائرية الكلية عند كارل يونج؛ فهي تتصل بالفضاء الكوني الأسبق من حياة الجسد، وموته. ثانيا: الفضاء، واستبدالات الكتابة: تتعدد مستويات الفضاء في كتابة أديب كمال الدين؛ فالنص ينتقل ذ في التأويل ذ من الفضاء الداخلي في عوالم الوعي، واللاوعي إلي المسرح كفضاء يومي تشبيهي، ثم يوحي