(سلامتك يا راسي) مجموعة قصصية حديثة للقاصة المصرية المبدعة هدي توفيق، صدرت عن مركز المحروسة للنشر بالقاهرة سنة 2015، وتمزج هدي توفيق بين الحدث، والعوالم الفنية، والخيالية، والتأويلات الثقافية المصاحبة لبنية العلامة في النص القصصي، وتداعياته، كما تعزز من الصوت الأنثوي الفردي عبر استبطان صوت الشخصية، والكشف عن تاريخها الممزوج بالدلالات الجمالية، ونزوعها نحو الفردية، وتأكيد الكينونة الإبداعية المصاحبة لصيرورة المرأة، وإحساسها الداخلي بالأصالة، وذلك عبر تقديم منظور الشخصية، وذكرياتها، وأحلامها التي ترتبط بمخزون الذاكرة الجمعية، وتجدد نماذجها في فعل الحكي، والوعي المبدع للبطلة، أو الساردة. وتعاين الساردة في قصص المجموعة شخصيات ذات حضور استثنائي يقاوم مدلول العدم في وعيها، ولاوعيها، كما تقدم فضاءات تجمع بين المكان بمدلوله الفيزيقي، وتجدد ذكريات الطفولة الجمالية في بنيته؛ وكأنه يقاوم تغيرات الزمن، ويجدد السؤال حول دائرية لحظات الحضور الفريدة، وارتباطها بأخيلة الصوت، وعوالم اللاوعي، ومدي تفكيكها للنهايات الحاسمة في المدلول الفلسفي للزمن. إن تداعيات القص في المجموعة تمنح الشخصية حضورا مغايرا، وممتدا في عالم الساردة / البطلة الداخلي؛ فصوت عمر شاهين يتجدد، ويبدو في حالة من الإكمال الذي يستنزف بنية الموت في ضمير المخاطب، بينما يتجدد صوت الشاعر الذي يشبه جاهين في تكرار قصيدته، أو أغنيته في وعي البطلة؛ وكأنه يستعيد بهجة الحياة فيما وراء الموت في النص. ويمكننا ملاحظة ثلاث تيمات فنية في المجموعة؛ هي: أصالة الصوت الفردي للأنثي، والعالم الفني للشخصية، وتجدد مدلول العلامة في السياق الثقافي. أولا: أصالة الصوت الفردي للأنثي: تبحث الساردة في عوالم الوعي الخيالية عن أصالة الصوت الأنثوي، وتحققه الفردي كآخر له كينونة مختلفة تقاوم المحو في السياق الاجتماعي، وفي تداعيات النص، وعلاماته، وتعيد إنتاج الحدث، والتاريخ الشخصي، والشخوص انطلاقا من منظور المرأة، ولغتها الأدبية الخاصة الممزوجة بطاقة الأنيما طبقا لغاستون باشلار، وبأحلام اليقظة، وتأويلها الاستعاري للأشياء، والعلامات في صيرورة الكتابة. ثمة بطولة لضمير المتكلمة، تؤكد اتساعه الخفي فيما وراء تداعيات الحدث القصصي في قصة (الأمان الضائع)؛ فالبطلة تواجه محاولات استغلال، أو محو للصوت، أو استبداله في معاملة أم الزوج، وأوامر والده، ولكنها تحاول إنتاج عالم خيالي / واقعي آخر، تمحو فيه لحظة الخوف التي اقترنت في وعي أطفالها بحدث الزلزال، وانهيار البيت. تحاول البطلة رسم تاريخ آخر من داخل وعيها الأنثوي المبدع، وجدله المستمر مع محاولات الهيمنة المناهضة للنزعة الفردية، وذلك عن طريق فعل الحكي من منظور المتكلمة، ولغتها الأدبية المؤكدة لشاعرية الاختلاف. وتعيد الساردة تشكيل العلامات، والأشياء انطلاقا من رقصة روحية يمتزج فيها العشق بالموت، والتجدد في الأثر الخيالي للرقصة في قصة (قصة الباليرينا)؛ فأزهار عرف الديك الأحمر، تمثل النبلاء الشباب الذين يخدمون القصر، وأزهار البنفسج توحي بضباط البحرية الفتيان، ويأتي الفارس منتصرا، ومحملا بحرارة العشق، ثم تطير الأميرة الراقصة باتجاه الموقد، ويموت طائر السنونو، ويصير الفارس قلبا، والراقصة يتبقي منها حلية متفحمة. للأشياء الصغيرة حياة في وعي الساردة ذ إذا ذ ونعاين في صيرورتها أحلام الموت، والحياة، والتكرار، والتجدد. يبدو الفارس كإنسان يشبه السوبرمان، أو تعيد الساردة من خلاله تخييل صورة أدونيس من الذاكرة الجمعية؛ أما الاحتفال الممزوج بالمأساة فيذكرنا بانتصار أجاممنون، ومأساة كاسندرا في مأساة أسخيلوس. وتشبه أحلام اليقظة المتمركزة حول النار، رقصة النار العاشقة، والمميتة في آن؛ فهي تعيد تمثيل غريزتي الموت، والحياة طبقا لفرويد؛ فصخب النار يؤكد تجميعها للراقصة والفارس، ثم تلتهمهما فيما يشبه تحول آخر، يؤكد حياة الأثر في الأشياء الصغيرة كالحلية التي تعكس دائرية الأنوثة، والقلب الصفيح الذي يقترن بأخيلة العاشق، وصورته الموحية بالزيادة في العشق، والموت معا. وقد يصير الشيء علامة يمتزج فيها البعد الاستعاري بالثقافي في قصة (حكاية السرير الطريفة) فقد حافظت أسرة الساردة / البطلة علي عادة الجلوس علي السرير كبديل عن حجرة الضيوف، أو المعيشة؛ فهو موضع للتسلية، والتواصل، ومشاهدة التليفزيون، ثم انتقلت العادة إلي الأعضاء الجدد في العائلة كزوج بنت أختها الذي تعجب في البداية من هذه العادة. السرير يقترن في الذاكرة الجمعية بالسلام، والاستقرار، والبهجة، وفكرة اتساع مساحة الامتلاك الكوني للمكان المستعادة من الطفولة، ويوحي التليفزيون بالحياة المحولة الطيفية لصور الواقع؛ وكأن السرير صار فضاء للتأمل الأنثوي لعلامات العالم، وأحداثه، وتناقضاته، دون ولوج للحدث نفسه، وصخبه، وآلامه، ومآسيه؛ السرير فضاء مجازي تشكل البطلة تاريخها، ووجودها الخيالي من خلال طاقته الإبداعية الممزوجة بالتأمل. ثانيا: العالم الفني للشخصية: للشخصية عالم تمثيلي آخر في كتابة هدي توفيق؛ فهي تمزج بين الأنا، والآخر / التمثيلي في بنيتها الداخلية، وكأننا أمام حضور فني للسياق الواقعي، وشخصياته؛ فشخصية محمد / أخو البطلة في الرضاعة ذ في قصة (جاهين مات فعلا) - تشبه صلاح جاهين؛ وهو يكتب الشعر، وصاحب ضحكة أسطورية، وتعاين صورتها في كتابته، وتعده بالكتابة عنه، وتشير أنه مات في حادث، وتستعيد حضوره في كلماته الإبداعية المؤكدة لصوته المتجدد فيما وراء الموت. هل تعيد شخصية جاهين الأخري سؤال الموت، والحياة، وأيهما أسبق عند صلاح جاهين؟، أم سؤال الاتساع الكوني، وثراء العالم الداخلي للشاب ذي الألف عام؟ لقد بزغ البطل، وتحدي الموت بالكتابة، وبصوته الطيفي المؤكد للحضور الفني المتجاوز للحدود الواقعية للشخصية. ويعاين البطل / نجيب محمد مجموعة من التحولات العبثية في قصة (أنا مستشار اللغة العربية)، ويتعرض لمؤامرة من أخ انتهازي؛ فيتحدث بعدائية باتجاه الآخرين، وينفصل عن زوجته، ثم يبدو في حالة فنية تمثيلية جديدة عقب وفاة أخيه؛ فيصير مزيجا من الأنا، والآخر، ويستعيد هويته مع تأكيد دور الأب باتجاه أبناء أخيه. إننا أمام استبدال قصصي، وواقعي معا؛ وكأن الساردة تؤول تاريخ الشخصية من خلال وظائف الحكي؛ وهو ما يذكرنا بعلاقة التاريخ بالقصة عند ريكور. وتمارس الساردة نوعا من فعل الحكي المضاعف في قصة (سلامتك يا راسي) بحيث نعاين المفارقة بين شخصية البطل / عبد الكريم المحامي المتأمل المنفصل عن زوجته، والذي يلتقي بابنته سندس مرتين في الشهر؛ للتواصل، والشخصية الأخري لرجل داخل حكايته تخلي عن زوجته، وأولاده، وتركهم للغرق، بينما انشغل بألم ضربة أحدثها رجل في رأسه؛ لأجل تصرفه الغريب في الحكاية. الشخص الواقعي الافتراضي في حكاية عبد الكريم، يؤول علاقة عبد الكريم نفسه بابنته من خلال الاختلاف البنائي بينهما؛ فالرجل في القصة الوليدة ينكفئ علي مأساته الفردية الخاصة، بينما يؤكد عبد الكريم آخرية الآخر في حدث الحكي، والتواصل، والتأمل المنتج؛ فالتواصل قيمة أدبية مجردة في وعيه، تناهض انغلاق البطل الآخر في آلامه. ثالثا: تجدد مدلول العلامة في السياق الثقافي: تتصل العلامة في قصص هدي توفيق بعوالم اللاوعي الجمعي، ودلالاتها الثقافية المتجددة في النص، وبالأسئلة الفلسفية المتعلقة بالموت، والحياة، ونشوء الوعي، وتجاوزه للذات التاريخية، وغيرها. وبصدد العلاقة بين الأساطير، واستعارات النص الأدبي، يري الباحث روبرت د. دنهام في سياق دراسته لمذهب نورثروب فراي النقدي أن الترابط اللغوي يعرض الاتصال في فكر نورثروب فراي بين التفكير في البدايات، والمبادئ الأساسية للأدب، وعلاقة الاستعارة بالأسطورة. هكذا تتجدد الأسطورة في سياق آخر، يوحي بإنتاجية النص، وتأويلاته الثقافية للمكان، ووعي الشخصية؛ ويبدو هذا التصور واضحا في قصة (لعنة صنمو)؛ فالساردة تقرأ واقع القرية قراءة ثقافية، تبرز الصراعات، والعنف، والشخصيات المدهشة الاستثنائية، والعلاقة بين حيا الله، والخواجة رضوان، ثم صيرورة رضوان الابن الذي نجح في سيناء، ثم عاد بعد طلب الأب لرؤيته، ثم توفي في خزان صنمو، وتبرز الساردة خطاب أهل القرية حول لعنته، وكمون أشباح تأخذ البشر معها في الأسفل. تتناقض إيحاءات هيمنة مبدأ المنفعة المهيمن علي البطل، وابنه مع ذلك التفسير السلبي المبني علي نماذج أسطورية، وسحرية قديمة مستدعاة من اللاوعي الجمعي؛ وكأن حضورها الاستعاري في النص يشير إلي غموض الموت، أو العقاب الكامن في الأنا الأعلي للشخصية، أو للظلمة النصية الاستثنائية الموازية لطبائع الشخصيات الغرائبية، أو لشخصية المكان المجازية التي تمزج الظلمة بالموت، وصخب ما وراء الواقع في تلك الصورة التي تذكرنا بحياة الموتي في الثقافات القديمة. وتستعيد الساردة صورة الآخر عبر تأكيد ضمير المخاطب في قصة (أعظم أستاذ في الوجود)؛ فالأستاذ عمر شاهين ينبع من تواصل روحي راق داخل المتكلمة، فقد أعطاها أسطوانة تحوي مجموعة من الكتب، ثم يتوفي قبل أن يعطيها كتاب مقدمة ابن خلدون، وتبدو كأنها تعاتبه، وتستدعيه في انتظارها للكتاب. لقد صار الموت جزءا من صيرورة الحياة كنموذج في اللاوعي الجمعي، وبحث الساردة عن خلود يشبه ذلك الخلود الذي بحث عنه جلجامش عقب وفاة صديقه أنكيدو في ملحمة جلجامش؛ فالمتوالية القصصية المتعلقة بضمير المخاطب تستدعي أن يكون حاضرا، وأن يحضر الكتاب في زمن آخر. وتقترن ولادة طفل في الشارع بمساعدة امرأة قوية بسياق واقعي مملوء بالازدحام، والسخط من قبل مجموعة باعة متجولين في صراعهم مع السلطة في قصة (زغرودة تبطل مفعول قنبلة)؛ فيبدو خروج الطفل، وكأنه يحمل دلالة البكارة في واقع جديد، وهو خط مواز هامشي يفكك الحدث الأصلي، ويعكس التعقيد ما بعد الحداثي في تداعيات النص، والواقع معا.