محافظ سوهاج يتفقد لجان انتخابات اليوم الأول لمجلس النواب بدار السلام والمنشاة وسوهاج    النقل: إقبال كبير من المواطنين على القطار الكهربائي الخفيف LRT | صور    حافز جديد من الحكومة لتشجيع بناء وإنشاء المنشآت الفندقية    القسام تعلن موعد تسليم جثة أحد أسرى جيش الاحتلال تم العثورعليها شمال قطاع غزة    "القاهرة الإخبارية": إسرائيل ترسل وفدا سياسيا إلى لبنان لأول مرة وسط ضغوط أمريكية    مدرب الزمالك يستعين بقطاع الناشئين قبل كأس عاصمة مصر    بالدي: نجحنا في الرد بشكل مميز بعدما تلقينا هدفا أمام أتلتيكو    ماركو سيلفا: كنا نستحق التعادل أمام مانشستر سيتي    مدرب منتخب فلسطين: فخورون بإسعاد شعبنا وبالأخص في غزة    القبض على 4 عمال بمطعم في الشيخ زايد بتهمة سرقة مجند خليجي    الطقس غدا.. تغيرات فى درجات الحرارة وشبورة كثيفة والصغرى بالقاهرة 18 درجة    الداخلية تضبط طالبًا طمس لوحات سيارته فى البحيرة    محافظ الجيزة يتفقد أعمال تطوير حديقتي الحيوان والأورمان (صور)    تشغيل بوابات إلكترونية وماكينات حجز ذاتي في المتاحف والمواقع الأثرية    زينة: "ماشوفتش رجالة في حياتي وبقرف منهم"    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 3ديسمبر 2025 فى المنيا.. اعرف مواقيت صلاتك    وكيل لجنة مراجعة المصحف ورئيس منطقة الغربية يتفقدان مسابقة الأزهر السنوية لحفظ القرآن الكريم    فحص أكثر من 6.1 مليون طالب للكشف المبكر عن الأنيميا والسمنة والتقزم بالمدارس الابتدائية    افتتاح غرفة عناية مركزة للأطفال بدمياط تنقذ 26 حياة وتغير واقع الصحة    الحكومة: 6.3 مليون مواطن يستفيدون من خدمات التأمين الصحي الشامل حتى يونيو 2025    الصين: خطة أوروبا لاستخدام الأصول الروسية تنتهك القانون الدولي    الصليب والهلال الأحمر الدولي: فيضانات جنوب شرق آسيا كارثة إنسانية تتطلب دعما عاجلا    ريهم عبدالغفور تحيي ذكرى وفاة والدها الثانية: "فقدت أكتر شخص بيحبني"    في عيد الكاريكاتير المصري الخامس.. معرض دولي يحتفي بالمتحف المصري الكبير    الرئاسة الفلسطينية: تصويت الأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال انتصار للشعب الفلسطيني    مدرب تونس: طوينا صفحة الخسارة أمام سوريا وجاهزون لفلسطين    تحذير من انتشار «التسويق القذر»| أمين الفتوى يوضح مخاطره وأثره على الأخلاق والمجتمع    7 ديسمبر.. الإدارية العليا تنظر الطعون على نتيجة المرحلة الثانية لانتخابات النواب    انعقاد الاجتماع الرابع للجنة الفنية المصرية – التونسية للتعاون الاستثماري    محافظة الجيزة ترفع 500 حالة إشغال خلال حملة بشارع عثمان محرم.. صور    مصر السلام.. إيديكس 2025.. رسائل القوة بقلم    مراسل إكسترا نيوز: 18 مرشحا يعودون للمنافسة فى الفيوم بعد قرار الإلغاء    كولومبيا تطرد أعضاء من الطائفة اليهودية المتشددة ليف تاهور إلى أمريكا    دونالد ترامب يحضر قرعة كأس العالم 2026    ضبط عامل يوزع كروت دعاية انتخابية على رواد أحد المخابز بالبحيرة قبل بدء العملية الانتخابية    بداية شهر رجب 1447 هجريًا... الحسابات الفلكية تكشف موعد ظهور الهلال    التشكيل المتوقع لمباراة بايرن ميونخ ويونيون برلين في كأس ألمانيا    ضبط سيدتين بحوزتهما كروت دعاية انتخابية بمحيط لجنة في دمنهور قبل توزيعها على الناخبين    في اليوم العالمي لذوي الهمم.. انتصار السيسي: وجودكم يضيف قيمًا وإنسانية وجمالًا لا يُقدّر بثمن    الصحة تعلن ضوابط حمل الأدوية أثناء السفر| قواعد إلزامية لتجنب أي مشكلات قانونية    لاول مرة فى مستشفي شبين الكوم بالمنوفية..استخراج ملعقة من بطن سيدة مسنة أنقذت حياتها    ستوري بوت | لماذا احتفى الشعب المصري والعربي ب «دولة التلاوة»؟    وزير قطاع الأعمال: الروابط الراسخة بين مصر والإمارات ركيزة أساسية للتنمية والاستثمار    على رأسها رونالدو.. صراع مشتعل على جائزة مميزة ب جلوب سوكر    تفاصيل جريمة غسل أموال بقيمة 30 مليون جنيه    وزيرا التخطيط والمالية يناقشان محاور السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية    طلاب ثانية إعدادي يؤدون اختبار مادة العلوم لشهر نوفمبر بالقاهرة    وزير البترول والثروة المعدنية يستعرض إصلاحات قطاع التعدين ويبحث شراكات استثمارية جديدة    محافظ القاهرة يوجه بوضع خطة عاجلة لتطوير الحديقة اليابانية بحلوان    3 ديسمبر 2025.. أسعار الخضروات والفاكهة بسوق العبور للجملة    محافظ الإسكندرية يتفقد لجان الاقتراع بدائرة الرمل    مجلس حكماء المسلمين يشارك بجناح خاصٍّ في معرض العراق الدولي للكتاب 2025    احتفاءً بأديب نوبل، القاهرة للكتاب والوطني للقراءة يطلقان مسابقة لإعادة تصميم أغلفة روايات محفوظ    أسعار الفراخ والبيض اليوم الاربعاء 3-12-2025 في الأقصر    الأمم المتحدة تحتفل باليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة    دعاء صلاة الفجر اليوم.. فضائل عظيمة ونفحات ربانية تفتح أبواب الرزق والطمأنينة    «الوطنية للانتخابات»: إعادة 19 دائرة كانت قرارًا مسبقًا.. وتزايد وعي المواطن عزز مصداقية العملية الانتخابية    «السيدة العجوز» تبلغ دور ال8 في كأس إيطاليا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد حماسة عبد اللطيف.. خذلته الدار وأنصفته اللغة
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 01 - 2016

والعام يلملم أوراقه، كان الشاعر واللغوي محمد حماسة عبد اللطيف هو الآخر يستعد للرحيل. ففي صباح 30 ديسمبر ودع محمد حماسة اللغة العربية بالمشاركة في الاحتفال الثاني باليوم العالمي لها، وفي المساء التقي ببعض أصدقائه الذين تعجبوا من سلامه، فقد عاد ليُقبلهم مرة أخري، وحين سألوه عن السبب، قال مازحاً: "ربما لا أراكم ثانية". هو كان يشعر بالطبع لكنه لم يخبر أحد. وفي فجر اليوم التالي، اليوم الأخير للعام ولحياته، غادر مُحي النحو العربي حياتنا. هكذا بلا أي مقدمات.
لم يكن محمد حماسة (74 عاماً) يعاني في أيامه الأخيرة من أي مرض، كان يعاني بما هو أشد؛ الخذلان، فقد تعرض أستاذ النحو والصرف والعروض بكلية دار العلوم إلي أزمة تتلخص في أن جامعة القاهرة اتهمته دون سند قانوني بالجمع بين وظيفتين، هما عمله في الدار واشغاله منصب نائب رئيس مَجمع اللغة العربية، وحولته إلي التحقيق، إضافة إلي ذلك اتهامه بأخذ مبالغ ليست من حقه خلال العامين الماضين منذ تاريخ وجوده بالمَجمع (مايو 2013).
في يوليو الماضي، هاتفت محمد حماسة لأعرف تفاصيل الأزمة، ونشرت "أخبار الأدب" حديثه بالكامل، إذ أوضح أنه لا يشغل أي الوظيفتين؛ فهو أستاذ متفرغ علي المعاش، كما أن عمله في المجمع ليس وظيفة لأن منصبه فيه بالانتخاب، وأنه لا يتقاضي راتباً من كلا الجهتين، بل مكافأة. كان الدكتور يحاول جاهداً أن يُداري نبرة الحزن في صوته، مزح معي قائلاً: "حين كنت معيداً، عملت في جريدة الأخبار مُصححاً لغوياً في عهد مصطفي أمين الذي ضاعف راتبي حين علم أني أعد الدكتوراه، في هذا الوقت كنت أجمع فعلاً بين وظيفتين.. أرجوكِ لا تخبري الجامعة بذلك!".
طيلة المكالمة ردد محمد حماسة عبارة واحدة: "أشعر بإهانة بالغة"، فقد أفني الرجل حياته كلها لأجل الدار، إذ اختارها علي خلاف رغبة والده عبد اللطيف رفاعي الذي نذر ابنه للأزهر منذ صغره، فبعد أن قضي حماسة ثلاث سنوات في معهد القاهرة الديني، التحق بكلية اللغة العربية في الأزهر مع كلية دار العلوم. وقال: "الأولي لأبي والثانية لنفسي". لكن أحد المُعيدين في الدار، وهو الدكتور حسن الشافعي رئيس المَجمع الحالي، نصحه بأن يركز في إحدي الكليتين، لأنهما مثل بعضهما، فاختار حماسة - بعد أن استأذن والده - دار العلوم، التي تخرج منها عام 1967 بتقدير ممتاز، وعُين فيها معيداً.
من حينها، لم يترك محمد حماسة الدار يوماً واحداً، أخلص لها وللغة العربية، ففي عام 1972 نال درجة الماجستير، وفي عام 1976 نال درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف أولي، ومن عام 1880 إلي عام 1984 أُعير للتدريس في كلية الآداب جامعة الكويت، ثم عاد للدار بمنصب أستاذ مساعد عام 1984، وصار أستاذا عام 1990 الذي شهد أيضاً إعارته للتدريس في الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد حتي عام 1993، وفي هذه الفترة أيضاً تولي منصب عميد معهد اللغات واللغويات بالجامعة نفسها. كما عمل أستاذاً بجامعة العين في الإمارات (1993- 1994). وإلي الدار مرة أخري، إذ عُين رئيساً لقسم النحو والصرف والعروض عام 1994 ثم عُين وكيلا للكلية لشؤون التعليم والطلاب من 2001 حتي 2006، بعدها أصبح محمد حماسة أستاذاً متفرغاً يعمل وكأنه في شبابه.
أثناء تدرجه من منصب لأخر، لم يخطر علي باله لحظة أن يكون نتيجة هذا الولاء؛ الاستغناء عنه بهذه السهولة، فقد قررت جامعة القاهرة في أغسطس الماضي إنهاء خدمته، هو والدكتور حسن الشافعي. بعد الخبر، هاتفت محمد حماسة، كان صوته مليء بالمرارة، سألته: "هل تريد من أخبار الأدب شيئاً؟". أجاب: "لا أريد شيئاً". ظل الرجل صامداً، لا يشكو أحد، ولا يبوح بألمه من اتهامه بالتربح من المَجمع. لذلك حين جاء موته مفاجئاً اعتقد كثيرون من تلاميذه أنه مات حزناً وقهراً.
قبل الوفاة بيومين، كان من المقرر عقد جلسة يطالب فيها محمد حماسة برفض قرار الفصل، لأنه غير قانوني، لكن تم تأجيلها. وفق ما قالته ابنته نورا، التي سردت كثير من التفاصيل عن حياة والدها في الشهور الأخيرة. تحكي: "لم أتركه بعد الأزمة، فقد فارقت الابتسامة وجهه وصار يبكي كلما تذكر شيء، حتي قصائده عكست هذه الحالة. فالحياة عند أبي مرتبطة بالعطاء، وحين علم بقرار إنهاء الخدمة قال (الواحد يعيش ليه.. أموت أهون)، فكانت لدار العلوم مكانة كبيرة عنده، كانت كل شيء تقريباً، وما أحزنه حقاً هو سلبية أساتذة الكلية تجاه قرار الفصل، فكان يتوقع دعمهم.. المعنوي علي الأقل، لكن هذا الصمت التام خذله".
تري نورا حماسة أن ثمة أسباب خفية يعلمها رئيس الجامعة وحده وراء هذا القرار، خصوصاً أن والدها لم ينشغل في حياته سوي باللغة والنحو والشعر، لم ينتمي مثلاً إلي أي تيار سياسي، لأنه يعتقد أن البلد ستتقدم إذا أخلص كل فرد في عمله، مثلما فعل. بالعودة إلي التاريخ، نجد أن ماتعرض له محمد حماسة هي سابقة أولي من نوعها منذ إنشاء المَجمع عام 1932، إذ جري العرفُ أن يتم انتخاب أساتذة اللغة العربية في منصبي رئيس المَجمع ونائبه. فقد سبق وأن شغل كبار الأساتذة نفس المنصب، مثل الأديب طه حسين، وعالم الفلسفة إبراهيم مدكور، والأديب شوقي ضيف، نهاية بالدكتور محمود حافظ رئيس المَجمع السابق.
الغريب فعلاً هو ألا ينتفض أحد لما حدث، رغم أن محمد حماسة عند زملائه وطلابه، حتي عمال الدار،يُعد بمثابة شيخ. فلم يبخل علي أحد منهم سواء بالعلم أو بالمال. من الممكن القول أن له مريدون، يتبعون طريقته، ويسيرون علي نهجه. أقربهم إليه الدكتور محروس بريك الذي رافق أستاذه عشر سنوات، لمس فيها جوانبه الإنسانية. يقول: "عرفته أستاذاً وشاعراً وإنساناً نبيلاً، اختطّ لنفسه في الدرس اللغوي طريقاً واضحة المعالم، لم يكن يوماً مُقلداً، لم يدَّع يوماً أنه صاحب فضل وإن كان هو ذاته الفضل، فقد كان عالماً نحوياً يستحضر النحو في ذهنه كما يستحضر أحدنا اسمه، واسم أبيه".
ساعدت نشأة محمد حماسة الأزهرية علي التفرد بين أبناء جيله، فوُلد في قرية كفر صَراوة بمحافظة المنوفية، لأسرة متوسطة الحال، وكان والده عبد اللطيف رفاعي حافظاً للقرآن وإماماً للقرية ومُفتيها، لذلك اعتني به، وقبل أن يبلغ حماسة العاشرة من عمره كان قد أتم حفظ القرآن. يتذكر الدكتور محروس بريك إحدي المواقف التي جمعته بأستاذه: "في يوم بدا علي وجهه الإرهاق، وحين سألته عن السبب، قال إنه لم ينام طيلة الليل، فمن عادته أن يقرأ كل مساء من ذاكرته شيئاً من القرآن، وهذا الليل نسي سورة محددة، ما أصابه بالحزن، فقد كان يملك ذاكرة قوية لم يتباهي بها أمام أحد".
وكما ارتبط تلاميذ حماسة به، كان هو الآخر مرتبطاً بأستاذه تمام حسان، يواصل الدكتور محروس بريك، الذي أخبره حماسة أنه كان إذا كتب جملة في رسالته استحضر صورة تمام حسان، ويسأل نفسه: هل هذه الجملة سيرضي عنها العلامة تمام؟.. لذا نجد أن لغته في رسالتيه للماجستير والدكتوراه (الضرورة في الشعر العربي) التي طبعها فيما بعد في كتاب بعنوان (لغة الشعر)، و(العلامة الإعرابية بين القديم والحديث) فخمة ومنضطبة، إلي الحد الذي تكاد لا تصدق أن يكون لمعيد صغير السن هذه المنهجية الواضحة والرأي العلمي المتفرد والنظرة الإبداعية.
لمحمد حماسة عديد من المؤلفات التي كشفت عن نحوي مجدد وناقد بصير بفنون الأدب، أبرزهم: (إحياء النحو العربي) و(الجملة في الشعر العربي) و(النحو والدلالة) الذي قامت فكرته علي تعانق النحو والدلالة بحيث يكون الفهم الصحيح للنحو هو الفهم الصحيح للأساس الدلاليالذي يقوم عليه النص. كما له مراجعات في التراث اللغوي؛ فقد راجع الجزأين السابع والثلاثين، والثامن والثلاثين من معجم تاج العروس، وله العديد من الأبحاث التي نشرها بمجلة مجمع اللغة العربية، وله من الكتب في مجال تعليم اللغة العربية للأجانب منها (النحو الأساس) و(الكتاب الأساس لتعليم العربية لغير الناطقين بها). فهو يؤمن أن اللغة هي الإنسان، والإنسان في حقيقة الأمر هو لغته، لذلك كانت اللغة مقوم أساسي من مقومات الهوية والقومية.
لا يعرف كثيرون أن محمد حماسة بدأ حياته، كشاعر، ففي ديوانه (سنابل العمر) الصادر عن دار غريب عام 2005، قال إنه عرف الشعر بعد ثورة يوليو حين كان في الحادية عشر من عمره، فقد حكي له والده أن صبياً في مثل عمره ألقي أمام الرئيس محمد نجيب قصيدة، وكانت هذه طريقته عندما يريد أن يحفزه إلي شيء، ففكر أن يكتب هو الآخر قصيدة، ليُحي بها قائد الثورة حين يزور قريته وينال إعجاب والده، ولم يكن في ذهنه مثال للشعر الذي يريد أن يكتبه إلا الأناشيد التي حفظها في المدرسة الإلزامية، ولم يكن في مخزونه اللغوي إلا القرآن الكريم، وحين أعطي ما كتبه لوالده، حظي منه بإبتسامة صامتة لم يستطع أن يميز وقتها أهي ابتسامة إعجاب أو أنها يمازجها شيء من الإشفاق.
وفي مرحلة الثانوية، أهداه ابن عمته الذي كان مدرساً للغة العربية كتاباً يتناول الأدب العربي منذ العصر الجاهلي حتي العصر الحديث وهو (المنتخب في أدب العرب)، وكتاباً آخراً هو (التوجيه الأدبي) لطه حسين. ولما عرف الحب أحس أنه يحمل سراً خطيراً من أسرار الكون، ولأن الافصاح عن هذه المشاعر كان عيباً في خمسينات القرن الماضي، وجد في محاولاته الشعرية متنفساً، وعزاء لروحه. في هذه الفترة فُتن محمد حماسة بمسرحية مجنون ليلي لأحمد شوقي، فقد خيّلت نفسه له أنه هو "المجنون". وفي أحد الأيام أرشده أحد أساتذته في المعهد الديني إلي دار الكتب، يقول: "بدا لي أن الباب الذي ظننته واسعاً ما هو إلا كوة صغيرة جداً علي عالم الشعر". لم يكتف في هذه المرحلة بما يتيحه الوقت من قراءة في دار الكتب، بل كان يقتطع مما يعطيه والده من قروش قليلة ليقيم بها في القاهرة ليشتري بها بعض الكتب المستعملة التي كان باعتها يعرضونها أمام مسجد الجامع الأزهر.
سريعاً انخرط محمد حماسة في عالم الشعر، بعد أن اقترب من بعض الأساتذة، خصوصاً المحقق العلاقة السيد أحمد صقر، الذي كان يطلب منه دائماً قراءة القصائد، والتعليق عليها، كما كان ينسخ له بعض المخطوطات، وعن طريقه تعرف علي حامد طاهر وأحمد درويش، وربطتهم صداقة تقترب إلي الأخوة، فبدأوا معاً رحلة الشعر، وأصدروا ديواناً مشتركاً باسم (ثلاثة ألحان مصرية) عن الهيئة العامة للكتاب عام 1979. في هذا الديوان برزت تجربة محمد حماسة الأولي التي ركزت علي العاطفة، فجاء في قصيدة (أين الكلمة): "العين أمام العين/ والكلمة خجْلي في الشفتين/ الكلمة - يا دنياي - بصدري تتكئ علي حرفين/ مسنونين/ بينهما قلبي عصفور مذبوح يتألم/ عيناك تقولان: تكلم/ أو ما تدرين بأن مداد الكلمة دم/ يا دنياي.. قلبي محبرة الكلمات/ لكنْ.. من لي بقلمْ؟!".
عن طريق السيد أحمد صقر أيضاً، تعرف محمد حماسة علي عباس العقاد، فقد طلب الأول من الشعراء الشباب الثلاثة أن يكتبوا قصائد يهدونها إلي العقاد في ندوته الأسبوعية، واتفقوا علي أن يلتقوا في ميدان روكسي، لكن أستاذه تأخر، فذهبوا هم، ولأول مرة يرون العقاد غاضباً إذ استفزه الحاضرون بأسئلة عن الشعر الحر، وهو لا يحبه، فقد كان يؤمن بالقافية الموجودة في كل القصائد المكتوبة بكل لغات العالم. أمام غضب العقاد لم يعرف محمد حماسة ما يمكن أن يفعله كي يلقي قصيدته. لحسن الحظ كان ابن أخ العقاد، يدعي عامر، يشرف علي تنظيم الندوة، فأخبره حماسة بأمر القصيدة، فتحمس عامر، وقال له إن العقاد لا يهدأ إلا بالشعر، وجاء في القصيدة: "يا سيدي هذه تحية مُبتدء.. مُتعثر في ساحة الإنشاد/ حار اليراعُ براحه مُتهيباً.. وتعللتْ شفتاهُ جفَّ مدَاد".
لم يتوقع محمد حماسة أن يأتي له العقاد بعد الندوة، ليسلم عليه، ويطلب منه أن يحتفظ بقصيدته، ولم يكن لديه نسخة أخري منها، وما بقي منها بقي في ذاكرته. وقتها سأل العقاد الشعراء الثلاثة: "هل أنتم طلاب في دار العلوم؟"، فأخبروه أنهم لا يزالوا طلاباً في معهد القاهرة الديني، فقال العقاد لهم: "أوصيكم أن تختاروا دار العلوم". نفذ الثلاثة الوصية، لكنهم كتبوا الشعر الحر، وما شجعهم علي ذلك أنهم وجدوا الكثير من الطلاب الذي يكتبوه، ومع العمل الأكاديمي، خشي محمد حماسة أن ينسي الشعر، لأن الشعر يحتاج إلي تفرغ، ولم يكن مطمئناَ إلي أن التفرغ سيُقيم له حياة مستقرة، فوجد في الكتابة عن الشعر تعويضاً عن كتابته، لذلك كانت مؤلفاته العلمية وأبحاثه تتناول الشعر، الذي أظهر من خلاله الوجه المشرق للنحو.
بعد عُمر، اكتشف محمد حماسة أن العقاد مُحقاً في عدم حبه للشعر الحر، بعد أن وجد كثير من الشعراء يتحررون من القواعد النحوية. وفي حوار أجراه معه تلميذه التركي طاهرخان آيدين، قال إن دعاة الحداثة هم من أفسدوا أمر الشعر العربي، ولذلك الذين يسمون أنفسهم الشعراء من قصيدة النثر لا يؤثرون في غيرهم. فالشعر فن لغوي، ولكي نفهمه لابد من فهم طريقة تركيبه وأسلوب بنائه، لكن ما يحدث هو أنه يتم التركيز علي موضوع القصيدة فيتكلمون عن السياسة أو الاجتماع أو الغرض الذي قيل من أجله الشعر، ويتركون المادة التي تألف منها القصيدة.
هكذا قضي محمد حماسة حياته، حاضراً بجسده وعقله وعلمه في دار العلوم، لكن قلبه وروحه مع الشعر، فحين أراد أن يودعنا، ودعنا بالشعر: " لم أفعل العرف لا خوفاً ولا طمعاً/ لكنه الله والأخلاق و"الدار"/ ما كنت ابغي سوي حسن الوداد به/ وقد جزيت كما يجزي سنمار/ يكفي جزائي أني قد سعدت بما/ أتيت من عمل، والله أختار". وعلمت "أخبار الأدب" أن أسرته ستُعيد طبع دواوينه الأربعة، لم نذكر منهم (نافذة في جدار الصمت) وهو ديوان مشترك صُدر عام 1975، و(حوار مع النيل) الصادر عن دار غريب عام 2000، بجانب إصدار ديوان جديد له يضم قصائد تنشر لأول مرة، بعضها كُتب في فترة الستينيات إبان نكسة 67.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.