ابنته : أبي مات مكروبا من جامعته .. وسيظل بحرا لعشاقه فيصل الحفيان : نشر الحب وكان فيلسوف النحو ومتذوق الجمال صلاح فضل : شق مدرسة بتذوق النحو.. ومزج الاصالة بالمعاصرة حسن الشافعي : حارس علم العربية الذي خشعت بالصلاة خلفه سليم العوا : فقدت مجالسه الأثيرة بالدار والمجمع مصلوح ودرويش وأبوالشوارب يكتبون رثاء مؤثرا قصائد الشعر العربي تنهال في تأبين حارس اللغة والإنسانية أصدقاء حماسة : طيب المعشر والعلم والعطاء لن يعوضها أحد " لم أفعل العرف لا خوفا ولا طمعا .. لكنه الله والأخلاق و "الدار"/ ما كنت ابغى سوى حسن الوداد به.. وقد جزيت كما يجزى سنمار/ يكفى جزائي أنى قد سعدت بما ..أتيت من عمل ، والله أختار" كانت تلك آخر المعاني التي نطق بها العالم اللغوي المصري د. محمد حماسة عبداللطيف وقد فاضت روحه إلى بارئها قبل أيام مخلفا ألما فادحا بنفوس تلامذته ومحبيه . كان الراحل أستاذا بكلية دار العلوم ونائبا لرئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة وأحد أبرز علماء النحو والصرف العرب، كما كان شاعرا وأستاذا تخرجت من عبائته عشرات الأسماء الكبيرة بعالم الإبداع واللغة . رحل "عبداللطيف" وفي نفسه كمد وقهر بعد قرار جامعة القاهرة بفصله بدعوى جمعه بين منصبين بالجامعة ومجمع اللغة، وكان آنذاك قد تجاوز السبعين من العمر، وتناست إدارة الجامعة رحلة عطائه غير المحدودة واسمه الذي صار فخرا للكلية بربوع العالم العربي، وهو نفس ما فعلوه مع رئيس المجمع د. حسن الشافعي! وفي ليلة تأبينه التي نظمها معهد الدراسات والمخطوطات العربية بالتعاون مع كلية دار العلوم مساء الأربعاء ، جاء أعلام اللغة العربية يذرفون الدموع ويلقون الأشعار ويتأملون محطات دالة برحلة حياة العالم الكبير، والذي عُرف بالسماحة والبشاشة وعشق اللغة والقرآن الكريم منبعا أصيلا ، كما وضع مدرسة جديدة بفلسفة النحو العربي وكان مخلصا لهذا العلم الذي يعد أبرز أعمدة لغة القرآن المعجزة . وقد أراد مدير الندوة د. فيصل الحفيان، رئيس معهد المخطوطات، ألا تكون الليلة تأبينا حزينا ولكن لقاء حميما لمريديه تصدح فيه نغمة الحب لحفز نهج العلم والعطاء، يتحلقون حول حماسة عبداللطيف وروحه التي لا تموت، وقد تعلموا منه كيف نحفظ هويتنا وننفتح على الآخر، وكيف نخلص للعلم كما أخلص حماسة للنحو العربي الذي كان أهم بوابة عنده للدلالة. وذكر "الحفيان" الحضور بمواقف جلية جمعته بحماسة عبداللطيف، ومن ذلك انهماكه في المخطوطات التي كان يحققها للمعهد وفتحه لأسرارها مهما بلغت صعوبتها، وكيف كان أحد عشاق القرآن الكريم منذ نعومة أظافره متأسيا بوالده شيخ القرية ، وكان إذ تسمعه يتلو آيات الله تخشع وتعلم ما علمه القاريء من فيوضاتها، حتى كان كبار الشيوخ يصلون خلفه خشوعا ، ولم يكن ذلك مانعا من تذوق الفنون وكان د. محمد حماسة محبا للطرب الأصيل ويستمع للقصائد التي تتغنى بها أم كلثوم . درب العلا استهل د. حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية نعيه لصديقه بكلمة للعارف جلال الدين الرومي وهو يتأمل زهور حقل القطن، فبعضها يصير بنسيج جبة عالم وبعضها يصبح كفنا لشهيد وبعضها يصبح خرقة تداس بالأقدام، ومصائرها تلك تعتمد على موهبتها وعطاءات الله لها . وهكذا كان د. حماسة، فقد تهيأت موهبته لعطاءات الله فجالس العلماء وأخذ العلم الشرعي واللغوي عن أصحابه، وكان من النابغين بالمعهد الأزهري ومن ثم كلية دار العلوم. ومن المواقف التي يتذكرها الشافعي لصديقه الراحل وتدل على صلته الوثيقة بكتاب الله أنه لما شاهد أحد رفاقه يهل من مسافة بعيدة أخبره بأنه كان يقرأ سورة "ق"، فسأله صديقه كيف عرف، فأجابه بأن حركة الشفاه تبين ما يتلى منها .وبالفعل كان حماسة يصلي بهم إماما فيعظم تأثرهم بتلاوته العذبة. واكد الشافعي أن حماسة لم يكن من المهرولين للدرجات والمناصب، ولكن كان إذا ما دعي لبى، وكان بإمكانه أن يحصل على الأستاذية في وقت مبكر ولكنه تمهل عشقا للغة ولعلم العربية الأول "النحو" وقد ألف العديد من المؤلفات في دلالته، وكان ملما بالمدارس العالمية اللغوية ومع ذلك كان عالما متبحرا بالتراث وقد دخل عام 2003 لمجمع اللغة فقدم إنجازات باهرة. كما ذكر ما كان من براعته الشعرية والأماسي التي كان يطل منها بصحبة رفاقه ومنهم الأساتذة حامد طاهر وأحمد درويش فكان النقاد والمبدعون يتنبأون لهم بمستقبل شعري كبير. سيرة عطرة واختار الناقد البارز د. صلاح فضل أبيات أحمد شوقي لرثاء صاحبه بالمجمع، ومنها يقول "رأى الله أن تلقى إليك صحيفة ...فنزهتها عن هوشة وكذاب/ ولم تتخذها آلة االحقد والهوى ...ولا منتدى لغو وسوق سباب/ مشينا بنوري علمها وبنيانها ...فلم نسر إلا في شعاع شهاب" وأقر فضل بنبعين استقى منهما حماسة نبوغه اللغوي وهما القرآن الكريم وعيون الفن والشعر العربي، فكان يمزج بلغته بين الرصانة والعذوبة ، ويتفرد بوجدان مستقيم واع لحقيقة اللغة وأسرارها الإبداعية ولهذا عد من أنبغ أبناء الجيل الثاني من الدراعمة ، وهذا الجيل يمتاز عن سابقه بالميل للتراث والتأصيل وعدم الانجراف للغرب . وقد تمكن حماسة من علم النحو الذي قالوا عنه أنه نضج حتى احترق، وأضاف إلى عطاءاته ودلالاته العلمية . كما تذكر "فضل" كيف كان صديقه يقف على رأس مدرسة مناقضة له؛ فكان يميل للأصالة وكان فضل يحاول جذب التيار للتحديث، ومع ذلك يعترف بأنه كان يقتنع تماما بمنطق حماسة وأن الود بينهما لم يتعكر يوما بسبب هذا الاختلاف الذي يسير باتجاه هدف واحد وهو خدمة اللسان العربي . وقد أنشد العلامة د. سعد مصلوح أبيات عدة في فقيد العربية والذي كان نموذجا رائعا لرعاية القرآن ، وقد لقيه صديقا منذ أن كان معيدا بالكلية وكان حماسة ما يزال طالبا . وكان مصلوح قد أنشد في صديقه قبل رحيله قصيدة "من دفتر المحبة" وجاء منها : يقاولني بالشعر ربُّ سَفينِهِ .. ومن بكمين القول أعلى وأعلمُ/ يد الشكر إذ كانت لديك عظيمة .. فكيف بشكر الشكر، أنَّى يُقَوَّمُ ؟/ سآوي إلى خيرٍ قريراً بعِجْزةٍ .. ويجنحُ شعري للتي هي أسلمُ" . مجالسة العلماء من جانبه تذكر المفكر الإسلامي د. محمد سليم العوا مناقب الراحل العظيم، وقد عرفه شاعرا بديوانه عن النيل ثم جمعته به صلة وثيقة من خلال مجمع اللغة العربية، وقد حز في نفسه أن يحرم من عضوية مجلس كلية دار العلوم بقرار من بعض أعضاء المجلس الجديد بالكلية، وكان يحرص على لقاء اللغويين والمؤرخين غير المسبوقين ، على حد وصفه، ولا يداني مجلسه سوى مجلس مجمع اللغة العربية والذي أفيد منه كثيرا . وتمنى "العوا" أن يجمعه الله في الآخرة برفيقه حماسة طيب المعشر . أما د. أحمد كشك العميد السابق لدار العلوم فقد اعتبر حماسة شقيق نفسه ، وتذكر إعجابه بنبوغه في سنواتهما الأولى بدار العلوم وكان حماسة يسبقه وقد عين معيدا بالكلية، ويقر بأنه كان "يخط الخط" فيمشي الجميع وراءه . كما تذكر "كشك" كم كان الراحل وفيا محبا للجميع لا ينام الليل لو غضب منه أحد، كما كان صاحب مروءة . وبنفس المعاني أكدت د. وفاء كامل عضو مجمع اللغة على نبل وأستاذية حماسة عبداللطيف والذي كان دائم الود لها وشد أزرها في أصعب المواقف، يقف خلفها ويدعمها لمناقشة الرسائل العلمية وكان الاجتماع به في المجمع يمر سريعا دون أن يشعر أحد بالوقت . وشهد التأبين إلقاء قصائد عدة في أبي حاتم النحوي، ومن أبرزها قصيدة صديقه د. احمد درويش اللغوي والأكاديمي البارز بدار العلوم والذي حالت ظروف السفر دون حضوره ، وكتب قصيدة منها يقول : "يطرق الموتُ فتلقاه شجاعا واقفا لم تحن جذعا أو يراعا واسع البسمة أخفيت الذي ملأ القلب انكسارا والتياعا" دموع الأحبة بين دموعه، قرأ الخبير اللغوي د. عبدالستار الحلوجي قصيدة برثاء "عبداللطيف" وقد جاء من المستشفى على إثر وعكة صحية ألمت به وفاء لصديقه، وقال أنه تكفيه ما ذرفته مدامع الأشراف من حزن عليه . وممن ألقوا قصائدهم المؤثرة بليلة التأبين من أساتذة دار العلوم د. تامر أنيس، د. أحمد بلبولة ، الباحث والشاعر محمد حجاج، د. محمد المعصراني ، د. مصطفى حسين، والشاعر إيهاب عبدالسلام . وألقى الخبير المجمعي د. سعيد أبوالشوارب قصيدة حزينة برثاء حماسة عبداللطيف والذي جمعته به صداقة كبيرة، وقال أنه بعد موت الفرح فليس إلا الدموع، وقد كان له كنخلة يستظل بها في الحر . أما د. خالد فهمي فأكد أن من عاش حياته بخدمة كتاب الله وما يتعلق به من علوم، ومضى هاشا باشا يساند الضعيف ويرق للمحتاج حاز العزة الباذخة التي تستشعر بها في عزاء د. حماسة . ومع كلمات د. نور حماسة ابنة الراحل اختتمت الليلة، وقد تحدثت نيابة عن الأسرة معبرة عن الفقد الرهيب الذي خلفه أبيها، ومتذكرة مناقبه وأياديه البيضاء وحبه لأهل قريته وحبه لأبيه الراحل والذي ناداه وهو في سكرة الموت ثم نطق " يا حي يا قيوم " وسجد ففاضت الروح لبارئها، كما يكون بوداع الصالحين، ولم يحملهم ألمه رغم ما كان يقاسيه من جبال أحزان بعدما جرى له بالجامعة . وقرأت قصيدة عامية في وداع أبيها ، وجاء منها : نفسي تعرف إن حبك .. في القلوب فاق الحدود ... نفسي اقولك إن صعب .. الدنيا دي بزيّك تجود ... يذكر أن حماسة عبداللطيف أحد فقهاء النحو البارزين والشعراء المرموقين بمصر والعالم العربي، وكانت له نزعة صوفية واضحة، وقد أنشد قبل رحيله يقول : قالت دع القلب لا تطرق جوانبه ولا تناد به حبا فيضطربا فإن قلبي ضعيف لا احتمال له وهل يطيق احتكاكا يسقط الشهبا فقلت إنى أنادى وهو ذو رشد سيستجيب إذا ما كان مقتربا ولن أكف إذا ما كان بى نفس لأن قلبى حزين يبتغى طربا ومن أناديه ذو عطف وذو كرم يؤوى الغريب إذا كان الهوى أربا