1 الصورة علي الشاشة تحاول أن تلامس فلسطين وتوحي بأن كل شيء سوف يبدأ من جديد في واقع يحث الخطي ويجمع شظايا الأمس، الصورة تحاول أن تنبهنا أننا لم نعد قادرين علي الانتباه، وحين نلتفت إلي التفاصيل نري الغياب قد تكدس بداخلنا ونصب حصاره من حولنا، ينسل من الصورة فتيات وشباب وأطفال تضيء جسارتهم حفرتنا وخلاء الهوية الذي رمونا فيه وحروفنا العربية التي تحاول أن تتدبر أمرها؛ أبناء الانتفاضة وأطفال الحجارة كبروا ويحملون عبء التاريخ، ربما تغيرت الملامح والألفاظ والعادات؛ لكنهم لم ينسوا حلمهم في أن يؤسسوا لنهار جديد لا يمتثلون فيه لجبن المرتعشين بكهرباء السياسة والحفاظ علي مقاعد السلطة وزعامة الفصائل، ولا يعلق فيه العدو بندقية علي شجرة زيتون أو برتقال فلسطينية. تنحبس دموعنا أمام الشاشة كما ينحبس بكاء الأمهات الفلسطينيات أمام أجساد أبنائهن التي تفيض بالدم وحزن آباء يكابرون أن يعلنوه جهاراً، فيما يتباري سماسرة السياسة وجنرالات الإعلام في ابتكارات جديدة لتحويل نهر أكاذيبهم حيث يصور لهم خبثهم أنهم أكثر دهاءً من التاريخ، فقرروا أن يصنعوا حوله طريقاً دائرياً جديداً لعلهم يفلتون، بينما نحن الشعب العربي تحولنا إلي جمهور يعيش فعل الفرجة علي فلسطين علي الشاشة ليست كخارطة ممتدة الأطراف أو متقلصة، وإنما كما اعتدنا رؤيتها بقع دماء تتسع و لا تتقلص، ونحن أمام الشاشة نتابع إتساع بقعة الدم الحمراء يوماً بعد يوم بعينين جافتين وقلب مكسور، يتكرر المشهد السريالي حيث يصنع الموت يومياً بهدوء، موت الفلسطيني طبعاً، ونحن نتابعه ب"عين بصيرة وإيد قصيرة". الخارطة الفلسطينية من قبل 48 ، كان اللون الأخضر لفلسطين والأصفر لإسرائيل، يتسع اللون الأصفر ويتقلص الأخضر ليصبح كبقعة صغيرة ابتلعها الأصفر، إنها ما تبقي من فلسطين وما يتشبث به الفلسطينيون، فلسطين المحبوسة في عزلتها التي فرضها علي الصهاينة، فلسطين المحرومة من الزوار المواسين والممنوعة من اللهفة وحتي من النظر إلي العالم الفسيح، فلسطين المسروقة. الآن أفهم أنه لا يمكن إزاء كل صور الدفاع والمقاومة والدم والرحيل أن نمارس لعبة البلاغة والكلمات رداً علي الانهيار والخراب والفراغ المعتمل في النفوس العربية، أو تنظيراً للعجز العربي داخل الصورة وخارجها، يتدرج الأسود والأحمر في خطوط الصورة وتتوالي مشاهد الإعدام الميداني لأطفال وفتيات وشباب تعيد بقع الدم المهدرة في مذابح صهيونية متكررة علي مدار التاريخ سواء في فلسطين أو مصر أو سوريا أو لبنان، وتُسمّر العيون علي الجسد الفلسطيني المقاوم وهو يربي فينا الأمل ويخلصنا من مواطيء الخسارة والوجع ويمنحنا نقطة ضوء في عالمنا العربي البائس، طال الدرب ولم يتعب الفتيان من المشي، مازالوا في خفتهم يصعدون التل ويقطعون الشوارع والغابات وحتي السماء ليحفروا دربهم إلي قراهم وبيوتهم وكرومهم، درب صغير يتسع بسكينهم ويضيق علي السارق: هل تعرف البيت، يا ولدي مثلما أعرف الدرب أعرفه ياسمين يطوق بوابة من حديد ودعسات ضوء علي الدرج الحجري وعباد شمس يحدق في ما وراء المكان ونحل أليف يعد الفطور لجدي علي طبق الخيزران، وفي باحة البيت بئر وصفصافة وحصان وخلف السياج غد يتصفح أوراقنا ... (محمود درويش/ إلي أخري وإلي آخره/ لماذا تركت الحصان وحيداً). 2 أخرج من الصورة البرزخ بين عالمين: قريب وبعيد، وأحاول أن أقيس المسافة بين موضعي المستقر أمام الشاشة وبين القذيفة وأنقاض بيت فلسطيني أو رصاصة تنقب عن قلب شاب فلسطيني وبين جنرالات الموت وهم يشربون القهوة العربية في صباحاتهم ويتصفحون الجرائد التي تحصي عدد الموتي والجرحي ثم يبتسمون أمام الكاميرا وهم يهللون باسم الشهداء، أخرج من حصار الصورة لعل كل شيء قد يكون ممكناً في هذا الفضاء المفقود، فأنزلق غير سالمة إلي حصاري الاختياري، وأجلس القرفصاء أمام شاشة أخري حيث أعيد مشاهدتي لفيلم "رسائل من اليرموك" للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، فيمسني لهيب أسئلة غير الخائفين من تجاعيد الأرض عند الصعود ويحملون علي أكتافهم أساطيرهم وأحلامهم بأنهم سيهبطون عما قليل إلي بلاد لم ينسوها وتأبي أن تتركهم هي الأخري في حال الضياع والشتات. "اسمها لميس، صبية من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين اللي في سوريا، اللي محاصر إله أكتر من سنتين، لميس بتحاول تعمل معي اتصال"، هو ما بدأ به المخرج رشيد مشهراوي فيلمه الوثائقي "رسائل من اليرموك" (2014) من تعريف لإحدي فتيات اليرموك والتي كانت إشارة ولوجه إلي المخيم الذي لم يزره مشهراوي بنفسه أثناء الحصار داخل وخارج المخيم كما وصفه مشهراوي ذاته :"مخيم ضحية حرب وجيش حر وقاعدة واختلاف الفصائل خارج وداخل المخيم"، وذلك في تفسيره للوميض الفخ لعمله السينمائي الذي ييسجل به برهاناً جديداً علي العبث العربي الذي تعجز أمامه كل معاجم فقهاء اللغة، والانشقاق في المشهد الفلسطيني الصغير والمشهد العربي الكبير والتمزق العام، ويغوص به في تشعّبات الحالة الإنسانية لسكان المخيم وخصوصاً الشباب، وفي متاهات أحلامهم وحماساتهم وانكساراتهم في مجتمع بائس، وأحلام مبتورة، وخيبات لا تضاهي تسحق شباباً وتعيدهم إلي الحصارات المختلفة والأسئلة المعلّقة التي تمنحه فرصة كي يصنع فيلماً، يقول مشهراوي:" ناس بتناضل وتجوع وتموت ونحن في السينما بنسميها مواد قوية.. مواد جامدة بتعمل فيلم، بس كيف نبدأ وكيف ننهي موضوع، ما حدا عارف كيف ينتهي إذا بينتهي!!". في اليرموك تمشي عقارب الساعة نحو الحدث، والحدث هو الحصار، والحصار ليس مجازياً فقط يحملق في عبث الزمان اللا مطلق والنهائي، لكنه الحصار الكامل حتي الحافة دون أي تمهل، موت وقذائف وانقطاع المياه والكهرباء والجوع بعد انقطاع المعونات الغذائية وأشبح القتلة بالخارج وسماسرة الشعارات السياسية علي المنعطف، ولميس الصبية تقوم بالاتصال بمخرج كبير مثل رشيد مشهراوي وتحاول أن تشده إلي المخيم ا لمحاصر وتلقي له الضوء علي أحواله التي أصبحت كارثية طالت من سكانه ال400 ألف فلسطيني وسوري، ورشيد مشهراوي لا يستطيع الذهاب إلي المخيم؛ لكنه عبر لميس يتواصل مع "نيراز سعيد" أحد أبناء المخيم والذي يقوم بتصوير المخيم والحصار وتبعاته بالفوتوغرافيا والفيديو، نيراز يوثق الحدث بصورته غير المنتمية إلا للحدث ورشيد مشهراوي يري الصورة ويفتش عن فكرة لبلورتها وكشف الحقيقة أمام العالم لبشر رغم الخراب ينحازون إلي إرادة الحب والحياة والغناء والموسيقي لتكون أعلي من صوت القذائف والانفجارات كما رأينا في نهاية الفيلم. تحكي "لميس" في بداية الفيلم عن مأساة المخيم وكيف أنها خرجت ووصلت إلي ألمانيا مع آخرين، وأنها مازالت تنتظر الموافقة علي طلبها لأنها كتبت في أوراقها أنها "فلسطينية" وتضحك لأنهم في ألمانيا "لا يجدون دولة بهذا الاسم" ومازالت تنتظر. علي مدي 59 دقيقة، نشاهد عبر تقنية "سكايب" تفاصيل الحياة اليومية في المخيم، الذي يعد أكبر مخيم فلسطيني في الشتات، رجال يبحثون عن الطعام في النفايات، وطوابير "الشوربة" التي تحتوي فقط علي الماء والبهارات ويتهافت عليها السكان حتي لا يموتوا جوعاً، وعجائز يتبادلن فتات الخبز، و"الملوك الثلاثة" كما وصفهم سكان المخيم وهم ثلاثة أطفال جاءوا من مخيم "سبيلة" حليقي الرأس بعد إصابتهم بمرض جلدي غريب، لم تفلح الجهود في نقلهم لتلقي العلاج، وفي نفس الوقت نري الشاب "أيهم" صديق نيراز وسط الجوع والدمار يعزف علي البيانو. ويتعمد مشهراوي التركيز علي الأسئلة والتعليقات الواردة في الفيلم الذي يكشف الخيبة العربية التي وصلت إلي حد عدم السماح بدخول المساعدات الإنسانية، والمقارنة بين حياة سكان المخيم التي يتضور سكانه جوعاً وحياة أشقائهم في مدينة رام الله مثلاً والتي يسهر سكانها في المطاعم والمقاهي، فيفسح مشهراوي مساحة أمام الكاميرا ويطلب من نيراز أن يلقي نظرة علي مدينة رام الله خلفه ويخبره أن الناس في رام الله يعيشون حياة مختلفة ويرقصون ويغنون ويسهرون في المقاهي والمطاعم والبارات، ثم يسأل نيراز عن بلده الأصلي في فلسطين، فيجيبه: من قرية عولا قرب طبريا، ويرتبك مشهراوي لأنه لا يعرف كيف يخبره أن قريته الجميلة أبادها الصهاينة وتعرضت لتطهير عرقي:"قريتك مش موجودة، نزل عليها تطهير عرقي، قريتك دُمرت بالكامل يا نيراز.. أقول له نزح سكانها بقرار من القادة العرب، خليه يحلم بالعودة إلي عولا..."، ونفس السؤال يتوجه به إلي لميس، فتجيبه : من قرية نحف قضاء عكا، فيخبرها بعد جولة للكاميرا في شوارعها :"إنها أجمل من أي مدينة ألمانية"، ليظهر الفيلم إجمالاً؛ صورة وموضوعاً من هامش الأسود القاتم إلي الأبيض الذي يشكل مساحات من الأمل تفيض علي صوت المدافع ومشاهد القتل والصرخات المهشمة علي صخرة أرباب السياسة، يزداد الحصار لكنه لا يبعث سوي الصمود في أوجه النسيان المرعب، يستشهد محمد شقيق نيراز برصاصة قناص، فلا يتخل نيراز عن صموده رغم وجعه وبكائه، تخرج لميس من المخيم إلي ألمانيا لكنها مشدودة بحبها لنيراز وتحلم بالعودة بعد انتهاء الحصار، وترجع الصورة إلي وراء ويبكي محمود درويش وهو يلقي قصيدته: سنلتقي غدا علي أرض أختك: فلسطين. هل نسينا شيئا وراءنا؟! نعم، نسينا القلب وتركنا فيك خير ما فينا، تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا نوصيك بهم خير وينشد ويعزف شباب المخيم لفلسطين والصمود حتي يصبحوا ضوء الروح ولا يتحولون إلي ضحايا يقتات علي أجسادهم محترفو التحولات وتغيير المصائر وصناعة حاضر علي رخام بارد بدم ساخن لبشر تم تأطيرهم داخل الحصار. 3 قال الزوج المصري لزوجته المصرية أيضاً: ابتعدي عن ابني، خليه يختار بنفسه. يحب مين أو يكره مين. اختياراته لازم تكون من دماغه. بلاش كل شوية تقولي له اسرائيل .. اسرائيل. قالت له : تصطفل انت وابنك. نظر الولد ذو السبع سنوات لأمه ثم لأبيه وقال : بابا أنا خلاص اخترت .. أنا باكره اسرائيل. أمسكت الصغيرة بطرف دلاية السلسلة التي أرتديها .. الدلاية هي حفر لخارطة فلسطين معلق في سلسلة ألفها حول رقبتي، قالت الصغيرة: فلسطين جنة ولا نار؟ .. نظرت إليها وقلت : إنت شايفة أيه؟.. انتظرت قليلاً ثم قالت بعفوية: الاثنين.. جنة ونار، ثم ركضت وابتعدت وتركتني في حيرتي وصمتي، بينما قال لي المناضل الفلسطيني (كان يتابع المشهد عن قرب) : المصريون أكتر شعب لسة عارف عدوه الحقيقي.. سنة بعد سنة وجيل وراء جيل وتظل اسرائيل هي العدو. يا أختي شو ها الوعي، عندها حق اسرائيل أن تخافكم أكثر ... !! يتساءل الجندي المصري السكران (قام بدوره الفنان محمود الجندي) في فيلم "ناجي العلي" للراحلين نور الشريف وعاطف الطيب في إحدي ليالي الاجتياح الاسرائيلي للبنان في الثمانينيات: "هي الجيوش العربية هتيجي إمتي؟ يجيبه ناجي العلي: "الجيوش العربية مش فاضية"، يرد الجندي: "هي بتحارب في حتة تانية؟".