كنزي وضعت وسادتين خلف ظهري بينما بخار الشاي بالنعناع الأخضر لايفلح في تنبيهي، قاومت نعاسا طالما أوقف في ليال بعينها أسفار حنيني عبر حدائق ذكرياتي، لطالما اقتطفت من ثمارها ما قوي مناعتي في مواجهة هذا العالم ،هذه المرة تشبثت بالقلم خشية أن أفلت الفكرة. أردت أن أكتب عن كل من حملت لهم حبا..سطرت سطرا..أحسست كلماته باهتة الشعور شحيحة المعني.. تعجبت.. كنت أظن الفكرة ستكتب نفسها،وأن الكلام سيفيض كما هي مشاعري!! توقفت عن الكتابة المتعثرة، أنفاس زوجي الرتيبة تدعوني الي إطفاء مصباحي الصغير والاستسلام، تزاحم بعضهم أمام عيني نصف المقفلتين، عينا أبي رحمه الله الواسعتان المفعمتان بالحب المشعتان بالذكاء والحكمة،انصاته وتصويبه لأخطاء لغتي،نظرته التي تكشف اعماقي، أفعاله التي تدعوني لأفضل قدوة، يد أمي لا حرمني الله منها وهي تربت علي أوجاع قلبي، همهمتها بالدعاء في جوف الليل، تذكرنا اسما اسما،جدودي لها ولأبي وأخوتها وأخوالها وأعمامها، تخيط لي أجمل ما يمكن أن ترتديه فتاة في مثل سني، تجعل من شرائط شعري تيجانا لملاكها الجميل كما تحب أن تدعوني،صبرها الممزوج بالرضا علي ايام الشدة وتضحياتها بكل ما تملك لمؤازرة ابي، تبتسم عمتي التي أقمت معها طويلا بعد أن صارت وحيدة بوفاة زوجها، تمد يدها بكوب الشاي باللبن الصباحي، تسهر الليل في محاولات فاشلة لإيقاظي كما طلبت لأن الامتحانات علي الأبواب، تفوح رائحة الرغيف الصغير الذي كانت تسميه جدتي رحمها الله "حنونة" تخص به كل حفيد يوم الخبيز، أدور معها في أفراح أقاربها في القري البعيدة، أجلس معها في الصدارة، أرفض الكسكسي بالمرق، فيصنعون لي بمفردي آخر بالزبد والسكر، ألست حفيدة تلك المرأة التي ينحني لها الرجال،ويجلها الجميع،زوجة العمدة مهابة الطلعة، التي حملت هم العائلة كبارا وصغارا وفتحت الدار للجميع في أحلك الظروف، تصنع لي عروستي من القماش المحشو ببقايا ما تخيطه امي،تخيط في الرأس شعرا حريريا من قطعة من فراء الجدي، ترسم فوق القماش شفتين وتكحل العينين بألواني، تطبق كفها علي معصمي وهي تهبني أجمل عروس ضاغطة علي الكلمات.. أعز من الولد ولد الولد، زوجي الحبيب، صديق وأب وزوج، اكتشف في كل مرة شعرت فيها بألفة النظرة الأولي مع أي إنسان أنه يشبهه بشكل ما، افتح قلبي لصديقة العمر،ألقي في بئرها أسراري وأوجاعي، تنصت وتحنو، نتقاسم الفرح والهم ويمتلئ قلبانا بالخير لكل الدنيا. يغيبون في زحام حياتي أحيانا، لكنهم أبدا لا يضيعون مني، أموات وأحياء تتفاوت اماكنهم في القلب لكنهم يملكون القدرة علي إبقائه مصدقا بالرحمة والحق والعدل مفعما بالحب، اكتشفت انها فكرة ساذجة بالفعل أن أضع كل تلك النماذج الانسانية المدهشة علي ورقة. حاولت أن أفكر في شيء إذا ما كتبت عنه كتبت عنهم جميعا. عندما فتحت عيني لم أتخيل أنني غفوت، هل يمكن ان نغفو دون أن نشعر؟ منذ دقيقة واحدة كان كل شيء حقيقيا كنت هناك علي ذلك الشاطيء.. القارب الغريب يقترب قادما من الأفق البعيد، ألقي أمامي الصياد بكومة صيده..تركني أفتح محارة وراء محارة ، بعضها فارغ، بعضها به حبات لؤلؤ صغيرة، منتظمة أو غير منتظمة..أفتح وأفتح.. أفتش وأفتش.. لؤلؤ قليل ومحار فارغ كثير..وأخيرا..واحدة كبيرة تضوي..أجمل وأبدع ما رأت عيني..قبضت عليها بقوة.. كان شعاعها ينفذ من بين أصابعي المقفلة،فتحت عيني علي كفي المطبقة علي قلمي..كانت ورقتي ما تزال هنا وابتسامة رائقة علي شفتي .. كتبت وسط السطر"كنزي" حسم في طريقي إليه..كانت حريتي قرارا لن يقبل المساومة مهما امتدت جلستنا لساعات.. في طريق العودة..بعد ربع ساعة فقط ..كانت رائحة باقة زهرة تتسلل من يدي إلي روحي بينما أتأبط ذراعه. بالأعصاب زوجة ساخنة ..أسخن من أن أستطيع مسها وهي علي تلك الحالة. اعتدت منها ذلك بغض النظر عن حالاتها الأخري، لطالما اعتدت أن أراها غاضبة، أو مبتسمة حالمة ،أو حزينة باكية، وأحيانا شرسة متنمرة. تبكي .. أشاهد التلفاز دون اهتمام. تتنفس بعمق ، أظنها تسترد نفسها الآن .. ستأخذ بعض الوقت قبل أن تطلب مني ماهو متوقع تماما. تفاجئني هذه المرة بالنهوض والرقص بسعادة طاغية !. ابتسم .. مجنونة.. وعلي كل سأنام، ذلك أفضل جدا، فحالتي النفسية لن تسمح لي بإجابة طلبها المعتاد. مستجدية متوسلة،رفعت الوسادة التي ضغطت بها علي أذني معلنا انفصالي عن عالمها. أتهرب؟!. أبدا. اقرأ. أنا متعب .. غدا إن شاء الله. لا أحتمل نظرة الحزن والغضب في عينيها لكن ماحيلتي وأنا لا أستطيع تذوق الجمال مع الإكراه. لا مفر،سأقرأ مرغما. أتساءل بينما عيناي تلتهم ما كتبته : ياربي!.. من أين تأتي هذه المرأة بكل هذا الإبداع ؟!. دنياي وكأنما حفرت كل تلك الخطوط علي وجهي في غفلة مني..أحاول تناسيها..أدندن وأنا أعد الشاي لجلسة العصاري في الشرفة..الحلوة الحلوة عينيك ..ياحبيبي..تهتف ابنتي بينما يصلني صخب موسيقي توترني من سماعات أذنيها..شاي الجلسة المقدسة اليومية؟.. يصلني صوت أبيها الذي يسقي أصص حديقته الصغيرة: خضرة وشاي ونسمة عصاري ووجه أمك..الدنيا وماعليها كسور تلاقت عيوننا..هل أعرفها؟لم يبد منها مايدل علي ذلك ..أكاد أجزم انها هي..منذ متي لم أرها؟..لا أحب ان أتذكر وربما سأكره النظر في المرآة الآن.. مازال جمالها صاخبا كعباءتها الضيقة المثيرة التي تهدم فكرة الستر التي يفترض أن العباءات صنعت من أجلها..أراها عبر كتف زوجي الذي يجلس أمامي بينما ظهره للمائدة التي تجلس عليها، إلي جوارها رجل أظنه زوجها. تفتح له هاتفها النقال وتضحك وهي تشير بأصبعها علي شاشته: صورتي انبهاره يدل علي انه يري الصورة للمرة الأولي ويجعلني أتشكك في طبيعة علاقته بها..تخرج له لسانها بأسلوب مثير لا يليق بالمكان أو بسيدة محترمة، كانت ومازالت طاغية الأنوثة . كانت واحدة من حكايات اختبأت تحت تراكمات أحداث العمر.. كنت تقريبا في بداية المرحلة الإعدادية، بارعة في الإملاء وكتابة التعبير، جميلة الخط، وكانت يتبمة الأبوين تكبرني بعامين، جريئة،فقيرة، مكتملة الأنوثة، تركت المدرسة بعد أن زاملت أختي في بداية سنوات الدراسة الابتدائية ، أختها التي تربيها كانت تقول عنها" موش بتاعة علام"، كانت تملك مفاتيح إدهاشنا.. ملابسها المثيرة مكشوفة الصدر،حذاؤها اللامع وحليها الذهبية الكثيرة ،عندما تتأبط ذراع الثري العربي الذي عقد قرانه عليها كانت تبدو كنجمات السينما، تتحدث كسيدة مجربة، تؤكد أنها رفضت إتمام الزفاف قبل أن يجهز باسمها بيتا كبيرا، وفي الوقت نفسه تذلها قصة حب مع ابن الجيران طالب الثانوية العامة، يقترض منها لدروسه الخصوصية،حكاياتها مثيرة مقلقة ولا أنكر أنها كانت تمثل عالما غريبا يثير الفضول، كانت تستغل انشغال أمي في المطبخ وتحكي، دون شك كنت وأختي نخدع نفسينا عندما نقول أننا ننصت أملا في تقويمها بتقديم النصح، كانت تقول أن بيتنا كالجنة،تتمني لو كان أبواها علي قيد الحياة لتنعم بتلك السعادة ، أذكر تماما اليوم الذي لم تدخل بعده بيتنا .. استدعتها أمي مع أختها ، كان حوارا ملتهبا طلبت فيه أمي منها ألا تدخل بيتنا مرة أخري..صرامة أمي في ذلك اليوم لم أعهدها من قبل، قالت لأختها أن تلك الفتاة غير أمينة علي البيت الذي فتح لها أبوابه ..كنت قد حكيت لأمي كل شيء ببساطة ..أرعبتني نتيجة فعلتي التي قمت بها تحت إلحاح شديد من الفتاة .. طلبت مني أن أكتب خطابا لحبيبها الشاب ليقابلها في مكان ما، كان قد انصرف عنها ربما لأخري أو خوفا من افتضاح أمره ، زعمت أنها تريد الذهاب إلي الطبيب ولا تملك النقود لأن زوجها مسافر، ادعت أنها تريد أن يرد لها بعض ديونه، فإذا بالشاب يرد بخطاب للكاتبة، حملته لها حبيبته الجاهلة دون أن تدري محتواه، كان خطابا يحمل كلمات غزل واضحة لجميلة الخط والأسلوب..صدمني الخطاب وأثار رعبي.. لكن الفتاة لم تفاجأ..كانت مدركة تماما أنه يمكن ان يفعل ذلك مع أخريات. انتقلنا بعد ذلك إلي مسكن آخر وانقطعت أخبارها .. مازلنا في انتظار أطباق الطعام،ومازال زوجي يتحدث إلي ولدينا عبر الهاتف مؤكدا أننا سنعود في العاشرة..أحدهما سيدخل عش الزوجية قريبا والآخر في نهاية دراسته الجامعية، نكاد نحصد ثمار كفاح جميل ومشقة أزهرت وتكاد تثمر أحفادا سيملأون الدنيا حلاوة وشقاوة، أحدق فيها ..صباح...عرفتها ولم تعرفني، تتحدث بدلالها ولهجتها السوقية وتبدو آثار التدخين الشره واضحة علي صوتها وأسنانها..تشيح ببصرها عني .. تقول للرجل كلاما يبدو منه أن مابينهما ربما يكون علاقة عمل..ربما .. تلمع خواتمها وأساورها الذهبية وتخلو أصابعها من خاتم زواج، رغما عني أعاود مراقبتها مع الحذر،تأكل بسرعة ولا تلتفت لتساقط بعض الطعام .. تأتي أطباقنا فأنهمك مع زوجي في حوار هامس حول استعدادات فرح ابننا.. أمازحه : الأولاد كبرونا. لا أخطيء صدق ودفء الحب في نبرته: لن تكبري أبدا. لم تصبر لينتهي الرجل الذي تصاحبه من دفع الحساب، نهضت لتخرج أولا.. أحسست أن أذنها التقطت كلمات زوجي ..بدا وجهها ممتقعا حزينا،فاجأتني وهي في طريقها للباب بنظرة مباشرة مكسورة ..رأيتها في عينيها يوم أن طردتها أمي من جنتنا.