05 عاما معه.. لا.. ليست وحيدة، معها أشياؤه الصغري وأشياؤه الكبري، يؤنسها 002 ولد هم كتبه ومؤلفاته، فقط غاب الجسد النحيل الذي وهن العظم منه إلا قليلا، ولم يشتعل العنفوان الفكري إلا توهجا حتي آخر لحظة في التاسعة من صباح يوم الجمعة قبل الماضية 12 أكتوبر، كانت آخر بسمة في ساعاته الأخيرة من عينيها، وآخر قبلة علي وجنتيه ويديه، وآخر طلة من محياها الذي كان يحبه حبا جما، وأنا علي ذلكم من الشاهدين. 05 عاما معه.. بعد الرحيل... زرت البيت المعطر بحروف اسم أنيس منصور، أصداء صوته لا تزال تعبق في جنبات البيت الجميل والأنيق، أنوار مكتبه لا تزال مضاءة، قلمه لم يجف مداده، ولن يجف، أوراقه كأنها تنتظر إبداعا جديدا، مقتنياته تتألق في كل ركن، حقيبته المسافرة تشي بأنه ذهب في رحلة جديدة حول العالم، لكن بلا أيام معدودة هذه المرة. 05 عاما معه.. في صالون قلب وحياة أنيس منصور كانت للسيدة رجاء حجاج أيام وذكريات، والذكريات صدي السنين الحاكي، فهي شريكة العمر والحياة، وسيدة القلب الأولي والأخيرة، والمتربعة علي عرش الوجدان، ورفيقة الابحار والمشوار، شغلت في عالمه أعز مكان ومكانة، ولها في مؤلفاته وجود وحضور، ولها في حياته كل شيء.. كل شيء..!. 05 عاما معه.. في عينيها شجن له حنين وبريق، وفي ذبذبات صوتها مسحة من الحزن العميق، هذا طبيعي، هي تقول إنها لا تستطيع استيعاب الموقف، مع أن الإيمان بقدر الله وقضائه قوي، لكن هذا هو حال النفس الإنسانية، أستعين بالصبر والصلاة وبقراءة القرآن (في مجلسها المصلي وبين يديها حامل المصحف ذي النسخة المكبرة تقرأ منها ما تيسر لها من آيات الذكر الحكيم،وفي غرفتها صورة لها مع أنيس العمر تعتز بها ولا تفارقها حتي قبل رحيله) إنها تقول: »صعب أن أواصل الحياة بدون سندباد العمر، كان رفيقي وصديقي وأنيسي، عمر جميل مضي، رحلة من الحب والإحترام والمودة والرحمة، والعشرة التي لا يمكن أن تهون، وكيف تهون وهو في القلب والعقل والوجدان؟. 05 عاما معه.. وتطلعني علي الوصية التي تركها الكاتب الكبير وفيها أوصي لزوجته رجاء فريد حجاج بإدارة جميع كتبه ومؤلفاته، والإشراف والمحافظة عليها، ولها حق التصرف فيها، وأن ترأس مجلس أمناء لهذه المهمة وان تدير الامور لحماية الكتب مع الابناء الثلاثة مني رجب ود. جعفر رجب ود. علا رجب. تقول السيدة رجاء إن كتب زوجي الحبيب هي أبناؤنا، إن ال 002 كتاب أضعها في عيوني الي آخر العمر إن شاء الله، فهي حياة أنيس، وحصاد فكره، وشقاء عمره، هي مرآة ذاته، وترجمات نفسه، هي صورته الكاملة، هي أنا وهو معا، في كل كتاب لمسة منه بيننا، أهداني أنيس منصور كتابه الموسوعي الذي ليس كمثله كتاب في مكتبته الإبداعية »في صالون العقاد كانت لنا أيام« وهو الكتاب الوحيد الذي كتب فيه إهداء، جاء فيه: »الي التي لولا تشجيعها ما كان السطر الأول في هذا الكتاب (في صالون العقاد كانت لنا أيام) ولولا تقديرها ما اكتملت هذه الصفحات، امتنانا عميقا وحبا أعمق: إلي زوجتي«. 05 عاما معه.. وتشير الي أكثر من مكان، هنا جاء مئات الشخصيات السياسية والثقافية والفكرية والفنية والدينية، من العمالقة والشباب، ومن كل الأطياف، هنا زارنا كل الذين شكلوا وجدان الناس عبر، نصف قرن أو يزيد، هنا جلس الذين ساهموا في تنوير المجتمع، وتناقشوا في كل شئ، هنا كان صالون أنيس منصور وكانت فيه أيام وأيام. 05 عاما معه.. والدموع هي اللغة التي تتحدث بها حرم أنيس منصور، جموع من السيدات المعزيات، والسيدة رجاء تستقبلهن، بالصوت المبحوح، والوجه الذي يؤكد أن صاحبته الجميلة، قد سافرت بفكرها مع رفيق العمر، قلبها معه، وبالها معه، وروحها معه، وكلها معه. يحاول أبناؤها الثلاثة كفكفة هذه الدموع، الدكتور الطبيب جعفر رجب، والكاتبة الصحفية مني رجب ود.علا رجب، فقد كان أنيس منصور هو الأب الروحي لهم، وكم حدثني عن حميمية هذه العلاقة الروحية وكيف أنها ذات حبل سري آخر بينه وبينهم، حتي الأحفاد: رنا ومحمد وأنيس ومحمود وأحمد وشريف، كلهم أبناء وأحفاد... حقيقة وجدانية واجتماعية. وفي هذا السياق تتسع دائرة الحوار في الجلسة وتنضم إلينا الكاتبة مني رجب والدكتورة علا رجب، الابنتان الروحيتان العزيزتان علي قلب الأب الروحي أنيس منصور، لتتشكل أجندة ثقافية مكثفة لما بعد الرحيل.. لدي العائلة أكثر من مشروع للمحافظة علي اسم أنيس منصور، بتأسيس مؤسسة ثقافية تحمل اسمه، وجائزة كبري تليق بمكانته وتركز علي ابداعات الشباب والأجيال المتعاقبة، كما تنتقل مكتبته إلي مدينة المنصورة، واقامة صالون فكري باسم انيس منصور. وبين يدي السيدة رجاء حجاج، أكثر من كتاب مخطوط.. كان الكاتب الكبير قد انتهي من اضفاء اللمسات الأخيرة عليها، مثل كتاب »صندوقي الأسود«، الذي سينشر خلال أيام عن القطاع الثقافي بدار أخبار اليوم، وكتاب موسوعي مميز هو »اعجبني هؤلاء« الذي تنشر أخبار اليوم فصولا منه علي الصفحة الأخيرة. وهناك أيضا كتاب في أدب الاعترافات »عزيزي فريد..« وهو مجموعة الرسائل الخاصة والكثيرة التي كان يبعثها الكاتب الراحل إلي صديق عمره اللواء أركان حرب »د.محمد فريد حجاج«. وقد أوصي أنيس منصور أن ينشر بعد الرحيل بعد إشراف وموافقة د.محمد فريد حجاج. وهناك أيضا كتاب »مشواري السري« ويضم حصاد رحلات أنيس منصور المكوكية بين الرئيس الراحل أنور السادات وقادة إسرائيل، أثناء مفاوضات السلام وهو كتاب وصفه أنيس منصور بأنه »خطير« وعلي قدر كبير جدا من الأهمية وأنه سيسد ثغرات كثيرة في فهم معاهدة واتفاقية كامب ديفيد. تبقي مذكرات أنيس منصور الصحفية »علي ومصطفي أمين« يسرد فيها رحلته في شارع الصحافة. 05 عاما معه.. وألمح صورة روحية تجمع الزوجين بملابس الإحرام في الحج، وأحاول أن أدخل السيدة رجاء في أجواء هذه الهالة السماوية، تقول: كنت معه في أول مرة نزور فيها الأماكن المقدسة، حججنا معا، وكانت هذه الحجة بمثابة نقلة كبري في حياة وفكر أنيس، وكتب عنها واحدا من أروع مؤلفاته »طلع البدر علينا« ومنه هذه الفقرة: »تغير الكثير في داخلي وأعتقدأنني كنت مثل سفن الفضاء التي تعرضت بطاريتها لأشعة الشمس، فامتلأت، لقد امتلأت، بكل ما هو مريح ومضيء وأنني اغتسلت من أشياء كثيرة، وأن رواسبي قد أزيلت، وأن هوائي الملوث قد نقي تماما، وان دمي قد نقل خارجي، وأن دما جديدا يجري في عروقي، كأنني ولدت، أو تولدت من شيء آخر أو من كائن آخر، وأنني عدت طفلا في كعبة المعرفة الانسانية، وجنينا في بطن الدين، وإنني في حاجة الي »حبل سري« أتغذي منه..«. هنا أتذكر ما قاله أنيس منصور عن زوجته:كانت زوجتي أبسط إيمانا وأعمق إحساسا بكل الحقائق المعقدة التي عجزت عن الإيمان بها، وكان القليل من المعرفة الدينية يريحها، فهي اختارت الإيمان، لأنها اختارت الدين، أو اختارت الدين وأكملته بالإيمان به، ولا أعرف حقيقة من أين أتاها هذا الصفاء الروحي والشفافية الدينية؟ إنها تعتمد علي وجدانها، علي ما تحسه مباشرة علي صلتها بالله، ووجوده الدائم معها ولها.. كيف؟ لا أعرف، ولكنها مؤمنة بذلك مستريحة الي ذلك، وطالت مناقشاتها وحيرتي. 05 عاما معه.. أعيد علي مسامع حرم أنيس منصور ما قاله عنها، وتسرح هي قليلا، وتومئ إيجابا:»كان لزوجتي دور في ثورة يوليو2591 هي نفسها لا تعرفه، اخوال زوجي، زكريا توفيق وتوفيق عبدالفتاح، من الضباط الاحرار، وكانوا بحاجة للتخفي، فكانوا يملونها المنشورات لتكتبها هي بخط يدها، وهي لا تدري ماذا تفعل، فقد كانت تلميذة صغيرة، لا هي ثورية ولا عندها فكرة انما كانوا يتخفون من خلالها«. ويقول أيضا: أنا وزوجتي مختلفان في أشياء كثيرة، هي مليئة بالحيوية، ولكن طاقتها ضعيفة، أنا قليل الحيوية، ولكن طاقتي كبيرة، فأنا من الممكن ان أجلس إلي مكتبي عشر ساعات، ولا أتحرك إلا قليلا، أضع كتابا، وأحضر قلما وأكتب، ولكن زوجتي تتحرك وتخرج وتذهب إلي الجمعية النسائية التي ترأس مجلس إدارتها، وتعمل خارج البيت عشر ساعات، ولكنها بعد ذلك ترقد من شدة التعب، أو من شدة الحيوية، وزوجتي اجتماعية، ولست كذلك، ومن الممكن أن اجلس وحدي أياما في البيت لا أري ولا أكلم أحدا ولا أشعر بالوحدة، ولكن زوجتي اجتماعية تقابل وتستقبل. وأنا أتجاهل الواجبات الاجتماعية، وهي اجتماعية جدا، هي صح وأنا غلط، ولكن تعودت أن أجامل في الافراح والمآتم وأن أبعث البرقيات، وأن احمل الهدايا، وأن اشتري للأصدقاء ما يطلبون من الخارج، وكل ذلك لم أكن أعرفه، فالحياة الاجتماعية عندي هي التي عرفتها قبل الزواج، وأمي لم تكن اجتماعية، وتري في الحياة الاجتماعية مضيعة للوقت وانتقاصا للحرية، ثم إن أمي خائفة بتكوينها وسيئة الظن بالناس وبالدنيا، وكانت كل مخاوفها تنصب علي وحدي، وتري أنني مختلف عن إخوتي، وأن لديها شعورا قويا بأنني وحيد ولم أسأل أمي يوما عن معني هذا الشعور، ومن أين جاء لها وكيف تري أنني الإبن الوحيد أو كأنني الابن الوحيد، ومن هذا الخوف رفضت أن يكون لي أولاد اتعذب بهم كما تعذب أبي وأمي بكل إخوتي، بعض هذه المخاوف قد توارت في الحياة الزوجية، ولكن ليست كل المخاوف، لكن بقي سوء الظن، ولا أزال أفضل الوحدة علي أي نشاط اجتماعي. 05 عاما معه.. من شواهد الحب الصافي والمحبة الخالصة ما كتبه أنيس منصور الزوج قبل الكاتب، عن المحنة الصحية العنيفة التي تعرضت لها زوجته قبل سنوات، وما كتبه يعد قطعة من الأدب الرفيع المحمل بالمشاعر التي تؤكد توقير أنيس منصور للمرأة »كنت اتصور انه بعد البكاء المستمر علي امي لن ابكي علي احد بعدها، فهي التي كانت تساوي ولا تزال، ولما مات الاستاذ العقاد بكيت كثيرا، ولما رأيت السادات آخر لحظات حياته واحسان عبدالقدوس وتوفيق الحكيم تحولت كل عين إلي نبع يتدفق دموعا وكنت اظن انها جفت، وهذه الايام فإنني ابكي اضعاف ما بكيت طوال عمري، ادعو بطول العمر والعافية، واتوسل واركع واسجد لله، وكل دموعي حروف تكتب علي الارض رحمتك ياربي انها زوجتي. فقد حدث خطأ كبير في ترجمة امالي، فعندما انتقلت الامال إلي السماء تعرضت للكثير من التحريف، فقد كنت احلم بابنة صغيرة أعلمها جميل الكلام املا في ان تكون اقوي واجمل واعظم، واليوم اجدني امام زوجتي هي الاخري تتعلم الكلام كأنها طفلة.. اذا غضبت تبكي، واذا فرحت تبكي، وما اتفه الاشياء التي تغضبها وما اكثر حيرتي وتعاستي وعذابي، وانا احاول ان اعرف ما الذي اغضبها أو ضايقها أو احزنها. أو حتي ما الذي يفرحها، انها طفلتي ابنتي وامي وزوجتي واختي ومصدر الحياة والحيوية والامل والشجاعة والنور في حياتي.. ولكني الآن امام زوجتي لا اعرف والآسي يقطعني ألف قطعة: اين ذهب لمعان العينين والاظافر والاسنان في هذا العزيز الغالي المسجي في سريره، اين العظمة.. اين الذكاء.. اين الموهبة.. اين القرار.. اين الحكمة.. اين بعد النظر.. اين العقل الكبير الذي يري في لمحة ما يراه الناس في شهور.. اين الكنز الذي لا مثيل له ولا بديل عنه.. اين ذهب النور هنا.. وكيف انطفأ البريق هناك.. واين توارت الكبرياء وظهر الضعف والاستسلام، من سرق منا كل هذه الابهة الكريمة والعظمة العقلية والمثل العليا، انني اعرف كيف كانت ولا اعرف اين ذهبت؟ نسألك المد والمدد والعافية وطول العمر لأعز الناس، يارب، لقد تعبنا حتي صرنا عاجزين عن الدعاء والأمل في رحمتك.. استغفر الله. و.. هي أيضا تستغفر الله استغفارا، ليرسل الله من رحمته عليها مدرارا، سكينة وسكونا، وصبرا وتصبرا، وشفاء لما في صدرها من تداعيات الفراق الأليم ، وتحولات المرض المؤلم. 05 عاما معه.. و»رجاء« إلي »أنيس« أن يؤنسها، وأن يزورها طيفه..!. وتردد الثناء الإلهي والتجلي القرآني: » كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام«. صدق الله العظيم.