من السودان جاءوا محملين بعبء الحرب. مشوا علي طول النيل حتي استقروا في القاهرة. يطوفون الشوارع، يذهبون إلي الندوات الثقافية، علهم يلتقون بوجوه تشبهم؛ كي يلقون عليهم السلام.. والشعر. منهم من بدأ مسيرته هُنا، ومنهم الذي يواصل. لا يتشابهون في قصائدهم، لكل منهم لغته، وأسلوبه. متنوعون كما وطنهم. لكن جمعهم هاجس واحد، هو الإنسان. كغيرهم من شعراء السودان، مشتتون في البلاد، يحملون علي عاتقهم هم القصائد التي لم تري النور. فضلوا الغربة عن البقاء بلا صوت. لكنهم لم ينسوا يوماً الأرض التي نبتوا منها، وظلت الهوية حاضرة لديهم، وطغي الانتماء إلي السودان علي أي شعور آخر. ما جعل كثيرين يتحفظون علي تصنيف شعرهم، إلي عربي أو أفريقي. يرون أنه شعر سوداني، وإن أراد أن ينضم إلي خارطة، ستكون خارطة أفريقيا. الأمر الذي قد يُعيدنا إلي جدل ستينيات القرن الماضي، حين تشكل في السودان تيار ثقافي باسم (الغابة والصحراء)؛ الغابة ترمز إلي أفريقيا والصحراء إلي المنطقة العربية، وذلك للتوحيد بين الاتجاهين. في 2011 تغيرت الجغرافيا، حين انفصل الجنوب عن الشمال. لم يعد هُناك غابة في السودان. واختلف بالطبع أمر الشعر. مزيد من التشتت جعل الشعراء، خصوصاً المغتربين منهم، يشدون بالهوية وبأفريقيا، بل حاولوا أن يستعيدوا كل ما هو مندثر من التراث، ومن اللهجات التي تميزهم عن باقي الشعوب. فعندما تقرأ لأي شاعر سوداني تجد بين يديك قاموسا غزيرا، ممتلئا بالمفردات والعبارات المأخوذة من البيئة ومن العامية الدارجة. نلقي الضوء هنا علي ثلاثة شعراء سودانيين يعيشون في مصر، يشكل كل منهم حالة مختلفة، نظراً لتنوع قضاياهم، وأسلوبهم، واستخدامهم للغة. لكن المفارقة التي قد تبدو غريبة، أنه بالرغم من اختلاف بداياتهم في الكتابة، وإنتاجهم، وخبراتهم، إلا أن كل منهم لم يملك سوي ديوان واحد مطبوع. فما واجهوه من صعوبة لطبع قصائدهم جعلهم زاهدون في مسألة الكم. ثمة شعر يُعريك بدلاً من صاحبه. يُشعرك كم أنت غريباً، وغائباً، عن البلاد التي آتي منها. أثناء قراءتي لديوان "الطُندُبه" للشاعر السوداني محمد الفاضلابي، أحسست بوحدة هائلة، واعتقدت أن المُشكلة تكمن في أني لست سودانية، لكن عندما التقيت بالشاعر طمأنني أن ما واجهته طبيعي، "حتي السودانيون يشعرون أن قصائدي عصية علي الفهم"، خمنت للتو أنه يرغب في أن يصرخ بلغة تخصه، وأن يشدو كما عصفور صعد إلي السموات العليا، وهو علي يقين تام بأن أحدا لن يلاحقه. سطعت أسنانه البيضاء، حين أخبرته عدم معرفتي لمفردات كثيرة حتي المُعجم الذي وضعه في نهاية الديوان لم ينقذني من التعثرات التي واجهتها. قال الفاضلابي وهو يتصفح عمله بهدوء شديد: "هذا ما قصدته، أن يُفكر القارئ، ويكتشف الهوية السودانية الكامنة في كل كلمة.. أنا انتمي للسودان كله، لا أفصح عن اسم قبيلتي، أو عن اللهجة التي أتحدثها، لأنني أهدف من خلال الشعر، أن يكون وطني بلا عنصرية.. ففي ديواني كتابة ضد العنف والاضطهاد، الذي لا يواجهه الإنسان فقط، بل والأشياء أيضاً". أراد الفاضلابي أن يدلل علي كلامه، فاتجهت أنامله صوب قصيدة (قيام الحُب) التي وجه فيها دعوة للمرء أن يقف بدلاً من الشجر، الذي لم يرتح ولو لمرة واحدة، يتلو: "نقيف نحن/ ويرتاح الشجر.. مره/ ونرسم للطبيعة عيون/ تشوفنا مَخدرين.. روحنا/ أكان من جوه.. أو بره". وبخفة انتقل إلي الحديث عن المرأة كونها لا تفرق شيئا عن الشجر، فكلاهما يرمزان - لديه - إلي استمرارية الحياة: "وما نكتب عن الأنثي/ في قيمة/ قيام الحب/ نكتب عن إرادة حواء/ في حِسها/ ما قيمة تفاصيل الجسد/ في رغبة بِنِحِسها/ نكتب عن جمال البت/ في أخلاقها/ وعن كِيف!/ تبقي هي الحُره/ نشيل تعب/ السفر والليل". يحلم أن يكون مجتمعه في هذه القصيدة، حقيقيا، بلا كذب أو غش، مجتمع لا يسمو فيه سوي العلم، لذلك استخدم مفردات تكاد تندثر من اللهجات السودانية، حتي يعيد تعليم السودانيين، يقول: "أنا أعيد تعليم نفسي أيضاً، فعندما بدأت كتابة الشعر، وجدت أن كثيرا من الشعراء يكتبون الفصحي الخالصة، واخترت التفرد، أن أكتب الشعر بالعامية الدارجة؛ فتشت عن المصطلحات في اللهجات السودانية المتنوعة التي صار لا يستخدمها متحدثوها، ووجدت أن اللغة غنية جداً، خصوصاً أن المجتمع السوداني عبارة عن مجموعة من الأمم، ما أجج بداخلي رغبة في بعث الروح للهجات من جديد، كي تكون إرثا للأجيال القادمة". "هل أردت أن توحد السودان بتناول لهجاته المختلفة؟" سألته، لكن ابتسامته اختزلت الكثير من الكلمات، وأردف: "لو أردنا وحدة ستكون في ظل التنوع، لأن السودان لا يمكن أن يتكلم لهجة واحدة، والشعر لا يوحد الأوطان، العلم وحده القادر علي فعل ذلك. أحاول فقط أن أعالج قضايا مجتمعي، لذلك تجدِ أن ديواني محلي جداً.. ما مكتوب لشخص غير سوداني، وأتمني أن أصل إلي العالم من خلال لهجتي وأدواتي وثقافتي ومخيلتي للسودان التي أريد. فما أكتبه شعر سوداني، لا أصنفه كشعر عربي، أو أفريقي". تعتبر الهوية لدي الفاضلابي هاجسه الأكبر، فهو شاعر يؤمن بالحدود الجغرافية، وبالوطن الذي لم يغادره، رغم وجوده في مصر منذ عدة سنوات. يقول: "السودان تمثل لي الكرامة.. الأرض التي نلتقي فيها بأحبابنا، فهي روحنا المادية. لذلك لم أكتب عن الغربة، لأن أفكاري أكبر منها وأكثر من العودة إلي الوطن". ما جعله يفكر في رمز للسودان، حين كان يختار اسم ديوانه، الذي كتبه ما بين الأعوام 1991 2013، ونشره في بداية العام الجاري، فالطٌندُبه شجر صحراوي ينمو في بلاده، وتُحكي عنه الأساطير أنه منازل للجن أحياناً، وله ثمرة الحمبك التي لها مذاق حلو يشوبه بعض المرارة. كمذاق الوطن. وفي قصيدة الطٌندُبه يقول: (محكومة بالإعدام شنق/ قاضيها من نسج الخيال/ شناقه.. من ناقه وحصان/ الطٌندُبه الموزونه من قوس الفنون/ الشاتيه صيف/ الناصحه في دعو النبات). يتحدث هنا عن أفعال المجتمع الرديئة، فهي قصيدة اجتماعية سياسية، تثور ضد الظلم.. جاء فيها أيضاً: (سألونا وين المحكمة/ وشنو القضية المؤلمة/ المرفوعة ضد المتهم؟/ النيل/ رفض مِرِقِة مياهُو/ علي الأرض/ أبت السحابات النزول/ نقصت فصول العام فصل/ اتلمت الجَهَلَة/ وبكت عين البهائم/ وسربت فينا الحنين/ جلينا من حُكما قديم/ ووقعنا في حُكما أليم). تغلب علي قصائد الفاضلابي النزعة الوطنية، وبدا ذلك واضحاً، في قصيدة (قنابات تل العمارنة) التي أهداها إلي السودان، وإلي المفكر السياسي السوداني محمود محمد طه (1909-1985)، الذي تم إعدامه بعد اتهامه بالردة عن الإسلام حين ظل يدعو إلي استقلال السودان والنظام الجمهوري. جاء فيها: (تجي تباشرنا/ هادِي الأرض/ مالا حُدُود/ إن دُرَتَ الصَلاة.. بِنَصلي/ وإن دُرَتَ الخَلاَ.. بِنَخلي/ وإن دُرَتَ النَعيز.. نَاعزِيَنَ/ وإن دُرَتَ الدواس.. دايسين/ بَلاك.. مَحَقَةَ مُباشِر جُود/ هادِي الأرض مالا حدود). ولهذه القصيدة حكاية، فعندما كتبها الفاضلابي ذهب بها إلي زوجة الأستاذ محمود، آمنة لطفي، وقال لها إن القصيدة ملكها هي، وهو لا يد له فيها، وإذا فكر في نشرها فلن يتم ذلك إلا بعد أخذ إذنها، وقد كان. يتذكر ذلك وعيناه تلمعان، حتي أخذ يردد: "محمود يمثل لي الوطن".