الخصومة التى افتعلها بعض العراقيين مع فكرة "بعث - بغداد"، أجهزت بشكل أو بآخر على فكرة القومية العربية المتصدعة أصلاً.. إما من باب نبذ النظام السابق، واجتثاث كل ما يؤول إليه، من قبل الشريحة الأوسع فى الجنوب، والتى قدمت نفسها ضحية (الديكتاتورية)، ذهابا إلى ذريعة شمولية الحزب، واستحواذه على السلطة.. أو من باب الاعتراف بالإثنيات والأعراق والطوائف تأسيسا لدستور جامع يحاول رأب الصدع مع الحركة الكردية فى الشمال، ورفضها المطلق لتغليب العمق العربى على الهوية العراقية، فى تواز غريب مع مشروعها الانفصالى. القنبلة التى فجرها بعض العراقيين الشيعة القادمين من الخارج، والأكراد من جهة ثانية فى الهوية العربية فى العراق، كانت رصاصة الرحمة التى أجهزت على فكرة القومية العربية، وأنهت فرصها كمشروع نهضوى. وتكتمل المفارقة بتجلياتها الدرامية، فى الانحياز الأعمى لفكرة "بعث - دمشق" من قبل خصوم الأمس، وأعداء فكرته، على أساس طائفى مرة أخرى.. فمن سنّوا قانون اجتثاث "بعث - بغداد"، ينحازون ل"بعث - دمشق"، من باب ذرائع الدفاع عن سيادة الدولة، ورفض التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية لدولة عربية شقيقة..!!، وما كان مستهجنا ولا يزال هنا، يعد مستباحا هناك فى تناقض واضح للنظرة العراقية تجاه أزمة قديمة جديدة، تحيلنا إلى فرضيتين: فإما أن الحكومة العراقية قد تصالحت أخيرا مع فكرة البعث (القومى العربى الاشتراكى) خارج حدودها الجغرافية، مع الاحتفاظ بحقها فى خصومتها لفكرته فى الداخل العراقى، وفى هذا الطرح تناقض يثير الضحك.. أو أن الذرائع التى تسند "بعث - دمشق"، تتفق مع المصالح الطائفية الإقليمية، وتجيّر الأفكار وتحورها بصورة تلغى (بعث بغداد) من جهة، وتستحضره من جهة ثانية، نموذجا يمكن استثماره فى سوريا بغض النظر عن المترادفات بين الحالتين. وفى المقابل، نلاحظ أن النظام السورى، فى معركة المصطلحات، يخوض حرب خلاصه ضد من يسميها "الجماعات المسلحة" التسمية الفضفاضة التى تحتمل شبهات بحق ما بات يعرف تقليديا ب"التطرف الإسلامى السنى"، رافعا فى الوقت نفسه راية العداء ضد أمريكا باعتبارها رأس حربة فى المؤامرة الغربية ضده. ونرى أن النظام السورى يشى بتماهيه مع الغرب، واتفاقه الضمنى معه فى حربه "النبيلة" على الإرهاب، مقدما نفسه دولة علمانية معاصرة، تناهض الأفكار المتطرفة، وتطرح البديل المعتدل، فيما يروج لنفسه باعتباره ضحية حرب كونية تستهدف إسقاط آخر قلاع "المقاومة"، التى تشمل فى اصطلاحها ما يمكن أيضا تسميته بالحركات الدينية المسلحة..!، فى معادلة شائكة ومعقدة لا يمكن التمييز بين خصومها، أو إيجاد الفوارق الحادة والواضحة بين الخير والشر فيها..!!. واللافت أن موافقة ائتلاف المعارضة السورية على التحاور مع أفراد حزب البعث للوصول إلى تسوية سياسية، تتناقض بشدة مع تعاطى الدولة العراقية مع الحزب نفسه، فى إقصائها العشوائى والعام للبعث وقياداته وكوادره وقاعدته الجماهيرية وفكرته المؤسسة، الأمر الذى أسفر إلى تقويض السنة لديها، والتسبب بحركتهم الجماهيرية الحالية. وما من شك أن تجريم جماعات دينية مقاتلة فى سوريا، ووصمها بشبهة الإرهاب - الفزاعة التى تستفز الغرب - قد استلهمت فكرتها من تصفية القومية العربية على مذبح الديمقراطية فى العراق فى عام 2003، فكلاهما يخطب ود الغرب، ويتفق مع أهدافه، لنصل إلى نتيجة مفادها أن الهدف فى الحالتين "العراقية والسورية" كان دائما العمق العربى السنى مع اختلاف المستهدف. ففى الحالة العراقية كان النظام قمعيا، وفى الحالة السورية يعد الشعب إرهابيا، والنتيجة- سيّان- تمهد الطريق للبدء فى مشروع إسقاط كيانات عربية كبيرة تشكل قوام العمق العربى السنى، لينتهى بتنحيتها من المشهد السياسى، ويخلق حالة من التغوّل الشيعى أمام عجز الجبهة السنية، تتم تغطيته بتواجد غربى مكثف لرفدها وتعضيدها، مع الإبقاء على اتفاقيات سفلية مع ما يظهر للعيان أنهم خصوم الشيطان الأكبر، وسدنة المقاومة فى المنطقة.