إذا أجرينا استطلاع رأى لنعرف من خلاله نسبة العاملين فى مجال التربية والتعليم، الذين اختاروا الدخول فى تلك المهنة بمحض إرادتهم عن اقتناع وإيمان بقدسيتها، ونسبة من عملوا بها بعد أن أجبرتهم نتيجة تنسيق درجات الالتحاق بكليات وجامعات مصر، سيتبين لنا حينها واحدة من أهم أزمات التعليم المصرى ، وهى المعلم غير المؤهل: نفسيا أو علميا، وإذا وضعنا تلك النقطة بالغة الأهمية بجانب نقاط أخرى عديدة تسئ لأعداد معلمى مصر وإلى مكانتهم فى المجتمع وطريقة تعامل الدولة معهم، فلن نتعجب من المستوى المزرى الذى تدهور إليه النشئ وتدهورت معه البلاد كلها. بين مهنة التعليم وحبى للكتابة، تساءلت بينى وبين نفسى مرات عديدة، أيهما أقرب لقلبى. ووجدتنى أعشقهما جميعا، ولا يمكننى العيش بدون أحدهما، فالأول بالنسبة لى ليس فقط مسمى وظيفى، أو شهادة أجبرت على الحصول عليها، بل هو حلم وغاية، وهدف ومبدأ، وعمل أعشقه وأؤمن بقيمته، ولطالما آمنت بأنى قد خلقت لأكون معلمة، أتعامل مع عقول غضة وقلوب بريئة، أبثها من مشاعر أمومتى وأمنحها ما لدى من علم وما أملكه من معرفة، فأنا أحب العلم وأهوى غرسه فى عقول الأبناء، أعشق دينى وأراه نعمة كبرى، وأريد أن أشرك الكون كله فى التنعم بها، وأرى اللغة العربية هى وعاء هذا الدين والحافظة له، كما أجدها أعظم وأمتع اللغات على الإطلاق، وأتشوق لأن يعرف أبنائى قيمة تلك اللغة ويستشعرون لذتها التى أشعر أنا بها، فتعليم اللغة العربية وتربية الأبناء على الآداب الإسلامية، هى متعة أعيش بها وفن طالما احترفت أداءه، كما أننى أتعامل معها بصفتها نوعا آخر من الكتابة، ففيها أصوغ أحرف وكلمات فوق صفحات بيضاء تتعطش لمن يغمرها بالعلم والآداب، وتتشوق لاكتساب خبرات تعينها فى تخطى صعوبات الحياة وولوج مسالكها، وهؤلاء هم أبناؤنا الطلاب.. زهور حياتنا ومستودع آمالنا، وغدنا الذى نتطلع إليه. بين مهن عديدة يعمل بها البشر لكى تدور عجلة الحياة وتستمر البشرية.. تبقى المهن التى تتعامل بشكل مباشر مع أرقى مخلوقات الله ومن كرمه (الإنسان) هى أرقى المهن وأكثرها احتراما ومنها مهنة الطب ومهنة التربية والتعليم، وبينما يتعامل الطبيب مع جسد الإنسان يتعامل المعلم مع أرقى ما فى هذا الجسد مع أعظم نعمة أنعم بها الله علينا.. وهى العقل فيظل المعلم بلا تحيز أو منازع صاحب أعظم مهنة عرفتها الإنسانية. فمهنة التعليم هى مهنة ربانية فقد قال الله تعالى عن نفسه: (اقرأ وربك الأكرم* الذى علم بالقلم* علم الإنسان مالم يعلم) صدق الله العظيم". "سورة العلق". كما أن المعلم هو وريث الأنبياء، والسائر على خطاهم، فقد بعث الله الأنبياء والرسل معلمين للناس يعلمونهم الكتاب والحكمة ويزكونهم، عن أبى الدرداء (رضى الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). ومهنة التعليم هى المهنة الأم كما صنفها (ألفرد شاندلر) المؤرخ الأمريكى الشهير فى قطاع الأعمال وعالم الإدارة الأشهر.. فالمعلم هو الصانع للطبيب وللمهندس والمحاسب والتاجر والقاضى والمحامى والضابط والغفير. وهى المهنة الوحيدة التى يمكن أن نطلق صفة الأب أو الأم على العاملين بها. ولعظم تلك المهنة مع مشقتها وعنائها، يتأكد لنا مدى أهمية تبصير المعلم بمكانته عند الله، وتوعية المجتمع بمكانته داخله، لكى ينال ما يستحقه من تقدير، فيكون ذلك عونا له على أداء مهمته، ويبقى لنا أن نبصر المعلم ذاته بخطورة عمله، وأنه يتوجب عليه الحذر فى كل حركاته وسكناته لئلا يقع فى أخطاء لن تضر فقط بفرد أو منشأة، بل سيمتد تأثيرها على المجتمع كله فأخطاء المعلمين قد تهدم جيلا وتؤخر الدولة عشرات السنين.