فى الطريق من مطار القاهرة إلى الهرم، والذى استغرقت رحلته ما يزيد على الثلاث ساعات وقصص سائق التاكسى المصاحبة لم تمنعنى من محاولة تعويض مافاتنى من غياب، فتوجهت بنظرى أرقب كل شئ مع منحى للسائق آذانا صاغية وتعقيب على قصصه بالمعروف من عبارات (ياسلام وماشاء الله وتصور يا أخى وهل هذا معقول وياساتر يارب ومش ممكن...ألخ) ولم يكن يعنى للسائق كثيرًا وهو القادم من المطار وأعتقد بأنه قد تعود على ذلك، فأخذ بتسمية بعض الشوارع والأحياء للغريب ابن الإسكندرية زيادة للمعرفة وفى جمل اعتراضية لم تمنعه من تكملته للسير الذاتية والمحادثات التليفونية. وكان المنظر يتبدل متواترًا من شوارع عريضة سهلة المرور إلى أخرى ذات لعبكة خفيفة تصل إلى شلل كامل مصحوب بتواجد أمنى واضح لم يكن موجودًا حتى خلال فترة التسعينيات العنيفة. أما عن شرطى المرور البائس الهيئة فبدا وكأنه شىء واجب ومفروض ناهيك عن دوره الفعلى فهذا شئ آخر فهو يشير إلى السيارات التى يرى فيها المخالفة بكراس صغير فى يده إما بالانذار أو الوعيد أو بشئ آخر غير مفهوم وبدا أن المشاه هم آخر مايفكر بهم، فهو فى مكانه المميز لتنظيم السير أى للسيارات وعلى المترجلين مراعاة الفروق وسرعة التفكير وتحمل المسئولية فى إيجاد ثغرات بين السيارات للعبور للجهة الأخرى وعلى حلقات طبقًا للأوزان المحمولة أو لاصطحاب أطفال مثلاً. وبعد قطع السيارة لمصر الجديدة بدأ الرصيف فى التقلص ثم الاختفاء تدريجيا ليصبح مجرى الطريق للسيارات والمترجلين على السواء، وهنا تذكرت مشهدا من رواية للمبدع صنع الله ابراهيم (أمرى كان لى أو أمريكانلي) والتى صور فيها بعثته لإحدى الجامعات الأمريكية وكيف كان (يتبختر) راقصا فخورا معتزا بحصوله وأخيرًا على حق من حقوقه الأساسية وهو عبور الطريق وقتما شاء لا ما شاءت الأقدار، وبوقوف كل هذا الكم من السيارات على المفرق ذى الشوارع الأربعة البالغة العرض له وحده فقط وكم فرحت له. وقد كان هذا واحدًا من الموضوعات التى كنا نتناولها بالحديث التلقائى لا المنظم بين شاعر وصحفى ورجال أعمال ومن العامة الذين لم تتح لهم الفرصة يوما للإقامة فى أوروبا حين كنا نجلس فى الهرم على فنجان شاى أو قهوة ليأتى الحديث حول رغبة الأصدقاء فى معرفة أوروبا المجهولة والقريبة فى نفس الوقت.. والحقيقة أن معرفة العالم ومايدور فيه مقصورة فى بلادنا والشرق عمومًا على قلة مثقفة مطلعة ليست بالضرورة غنية ولاحاكمة متنفذة، وهؤلاء يغمضون العيون ويصمون الآذان على ماتقدمه برامج التليفزيون العربية الأرضية منها والفضائيات من صور هوليودية مختلقة ومزورة عن الغرب يمكن مقارنتها بالصور الاستشراقية المتصهينة التى يقدمها بعض علماء الغرب عن حياة وتاريخ العرب والإسلام والمسيحية الشرقية أيضًا. ولكن أرجو من القارئ أن يعذر الضيوف الأوروبيين والعرب حين يشككون فى قدرتنا على التخطيط أو التنطيم، ولا أقول فى قدرتنا العقلية حين يرون بنايات شاهقة قائمة على مساحات هزيلة وتحتل شكل الجزيرة فى وسط الطريق، كما هو الحال فى شارع فيصل وغيره من كل شوارع جمهورية مصر العربية أو حين نرى مساحات خضراء تتحول وبقدرة قادر متمكن وفاسد إلى بنايات سردينية قبيحة الشكل والذوق أو عندما نرى تحول المجارى المائية الكثيرة وهى شريان الحياة فى وقت ندرت فيه المصادر إلى شوارع وعشوائيات ومقالب للقمامة كما هو الحال فى كل مصر ... إنه الفساد الإدارى الصغير المتشيطن المتسرطن لا لقدرتنا على التنظيم والإدارة. ومن شرفة شقة الشاعر الأديب الحساس فى شارع الهرم والتى كان لى شرف الإقامة بها والتقاء الأصدقاء كان منظر الأهرامات الكبرى وأهرامات الملكات الصغرى وأبى الهول لا يمكن وصفه إلا بالخيالى أو بنصف الكوب الملىء وبأنه مواساة وإعلان لبراءة الإنسان المصرى العربى البسيط من حداثة سريعة لاتَمُتُّ لأى نظرية من نظريات التحديث الغربية أو الشرقية على حد سواء، فتخيل أن هذا الصرح الحضارى الضارب فى قلب التاريخ مجاورا لعشوائية نزلة السمان ومقالب القمامة بين القصور والأكواخ والخيول العربية الأصيلة تأنف من عشوائية التصحر العقلى يليها حزام من طرق تلف المنطقة السياحية تمر عليه حسب ماقدرته أنا شخصيا لها بمليون سيارة أو يزيد.. فإذا كان كل هذا بنا فكيف نكون؟ وقبل أن أختم وددت أن أنقل الانطباع عن اختلاف النظرة الرسمية إلى السياحة الغربية عن مثيلتها الداخلية أو الوطنية، فلقد رأيت بأم عينى كيف يسمح للمركبات التى تقل الأوربيين بدخول منطقة الأهرامات المغلقة بينما مثيلتها المقلة للأطفال تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات المصريين أو العمال وغيرهم لايسمح لها بذلك، حيث تضطر باصاتهم للوقوف على مسافات تتعدى الكيلومترين تبدأ بعدها رحلة العذاب سيرا على الأقدام من شارع أبى الهول السياحى وشارع ترعة المنصورية إلى المنطقة السياحية وهذا غبن ليس بعده غبن. فالفكرة من السياحة الغربية هى الدخل العائد بينما بناء الإنسان هو وظيفة السياحة الداخلية، فاعرف أن وطنك وتاريخك مثل أعلى يجب أن نشجعه وننميه مثلما يجرى الحض على القراءة فى إعلانات تليفزيونية، ولكن أين هو المناخ المناسب لذلك؟