وكالعادة الموت وحده يذكرنا بمبدعينا وأعمالهم وقيمتهم، ولكن للأسف بعد فوات الأوان. بخبر رحيله، انطوت صفحة من أجمل وأعمق صفحات السينما العربية، لكن الحكاية التي بدأها داود عبد السيد لن تنتهي أبداً، فالمبدعون الحقيقيون لا يرحلون إلا ليتجذروا أكثر في وجدان الذاكرة. في هدوء يشبه سكون البحر قبل العاصفة، وبخطوات واثقة لا تعرف الصخب، صنع داود عالماً سينمائياً فريداً، لم يكن فيه مجرد مخرج يمر عابراً، بل كان "فيلسوف الصورة" الذي اختار أن يفتش في الروح البشرية بدلاً من أن يكتفي بحكي الحواديت التقليدية. هو صاحب السينما التي لا تنتهي بكلمة "النهاية"، بل تبدأ فعلياً في ذهن المشاهد بمجرد خروجه من قاعة العرض، حيث كل كادر يمثّل تساؤلاً وجودياً، وكل شخصية هي مرآة لنا جميعاً في لحظات ضعفنا، وانكساراتنا، وتوقنا الدائم نحو التحرر من قيود الواقع والبحث عن خلاص ذاتي. بدأت رحلة داود بالانحياز التام للهامش وصعاليك المدينة، ففي فيلمه "الصعاليك"، لم يقدم مجرد قصة صعود وهبوط نمطية، بل قدم تشريحاً لشهوة المال وكيف تبتلع الروابط الإنسانية الصادقة، ومن هنا تبلورت رؤيته بأن السينما ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل هي رحلة استكشافية لما يكمن تحت جلد المجتمع من صراعات وتناقضات وجودية. وتجلت هذه الرؤية في أبهى صورها عبر رائعة "الكيت كات"، حيث تحول "الشيخ حسني" بعبقرية مدهشة إلى رمز للتمرد على الواقع بالخيال والمرح، ليثبت لنا داود أن العجز الحقيقي ليس في فقدان البصر، بل في فقدان البصيرة والقدرة على الحلم وسط الركام، محولاً الحي الشعبي من مجرد مكان جغرافي إلى حالة ذهنية تخص كل إنسان يبحث عن ذاته الضائعة. استمر داود في الغوص عميقاً في مناطق الروح المعتمة والأسئلة الشائكة حول الجدوى والمصير، فأخذنا في "أرض الخوف" إلى رحلة ضياع الهوية في المسافة الملتبسة بين الحق والباطل، والواجب والرغبة، ثم عاد ليصالحنا مع جراحنا في "رسائل البحر"، حيث جعل من مدينة الإسكندرية بطلاً يداوي الروح المثقلة، وصار الحوار في كادراته يمتد ليشمل الموج والوقت والذكريات المنسية. وحين قرر داود عبد السيد الابتعاد والاعتزال قبل رحيله بفترة، لم يكن ذلك لقلة في الموهبة، بل لشدة في النزاهة الفنية؛ فهو فنان رفض أن يساوم على رؤيته أو يبيع "التسلية" في سوق تراجع فيه الفن لصالح الصخب اللحظي، فكان صمته صرخة فنية ورسالة مفادها أن السينما التي لا تحترم عقل المشاهد لا تستحق أن تُصنع. وداعاً يا من علمتنا أن نرى بالقلب ما تعجز عنه العيون، وداعاً يا صانع الدهشة الهادئة. لقد تركتنا لتبحث عن إجاباتك الكبرى في عالم أكثر اتساعاً ونقاءً، لكنك ستبقى حياً في كل "رسالة بحر" يلقيها غريب، وفي كل ضحكة متمردة يطلقها محروم، وفي كل كادر سينمائي علّمنا أن الفن هو الأبقى والأسمى. سلاماً لروحك التي لم تنحنِ يوماً إلا لجمال الحقيقة، وسلاماً لإرثك الذي سيظل منارة لكل التائهين في "أرض الخوف" والباحثين عن شطآن الأمان.