في عصر الرأسمالية، وما سببته من تفكك في القيم والمعنى، وازدياد اغتراب الفرد عن ذاته ومجتمعه، وتحوله إلى مجرد مستهلك، تراجعت الروابط الاجتماعية التقليدية، وبرز انهيار واضح في مركزية القيم الأخلاقية والروحية والجماعية أمام طغيان الربح والفردانية. كل ذلك أسهم في خلق شعور عميق بالضياع وعدم الانتماء داخل عالم يتسم بالسرعة والتشظي؛ عالم انهارت فيه الروابط وانصهرت الهويات تحت ضغط الاغتراب، حتى فقد الإنسان علاقاته بمحيطه، بل ومع أقرب الناس إليه، شيئًا فشيئًا، إلى أن بات يشعر وكأنه «لا شيء» وسط هذا الركام المتجدد من الأحداث اليومية، وهكذا بدا أن الحلم الذي بشّرت به الرأسمالية الليبرالية قد تحول، في واقع الأمر، إلى كابوس إنساني خانق. ومن هذا المنطلق يمكننا النظر إلى الفيلم الإسباني «زنقة مالقة»، تأليف وإخراج مريم التوازني، والمشارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي، ويدور حول امرأة مسنّة إسبانية تبلغ من العمر 79 عامًا، تعيش بمفردها في طنجة بالمغرب وتستمتع بإيقاع حياتها اليومية البسيط. إلا أن حياتها تنقلب رأسًا على عقب حين تصل ابنتها من مدريد بهدف بيع الشقة التي عاشت فيها طويلًا. وبينما تصرّ الأم على البقاء، تبذل أقصى ما تستطيع لاستعادة منزلها وممتلكاتها، لتجد نفسها بشكل مفاجئ وغير متوقع تكتشف الحب والإثارة من جديد. منذ اللحظة الأولى يضع الفيلم طنجة في مقابل مدريد – بشكل رمزي- بوصفهما عالمين متناقضين، الأولى تمثل الجذور، الهدوء، الموروث، وصوت البحر الذي يشبه ذاكرة الأم. أما الثانية فتمثل الحركة السريعة، والضغط المالي، والاغتراب، والصراع اليومي من أجل البقاء، وتمثله الأبنة. منذ البداية يدخلنا الفيلم مباشرة إلى عالمه دون مقدمات أو استطرادات، امرأة عجوز تعيش بمفردها في مدينة طنجة المغربية؛ تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي تزاوج بين عمق التاريخ وأصالة المكان، تسعدها أبسط التفاصيل، ميلادها، ذكرياتها أصدقائها وزوجها حتى لو رحل كل هؤلاء، المدينة بالنسبة إليها هي الحياة التي لم تعرف ولا لم ترى غيرها. إلى أن تأتي ابنتها من مدريد في زيارة مفاجئة—لا للاطمئنان عليها هذه المرة—بل لإجبارها على ترك منزلها وبيعه للخروج من ضائقتها المالية. هكذا يجد المتلقي نفسه في قلب عالم «التوزاني»، متعايشًا معه ومتماسًا مع توتراته، الابنة هنا تمثل جيلًا عاش الهجرة والاغتراب تحت ضغط الاقتصاد وصرامة الحياة اليومية، بينما الأم تمثل الأصالة والهوية التي تتعرض للتآكل أمام موجات الفردانية وانسلاخ الإنسان عن مجتمعه، جفاء الابنة وقراراتها القاسية—من إجبار الأم على دار للمسنين إلى التعامل مع المنزل باعتباره عبئًا ماليًا—يعكس رؤية لزمن جديد يرى "الأم" -وما تحمله من رمزية الهوية والجذور-، عبئًا اقتصاديًا لا ذاكرة حيّة. وكأن الفيلم يسأل: هل ارتباط الإنسان بالمكان مجرد قيمة مادية تُمحى بالعقود والقوانين؟ كما ترى الابنة، أم أنه ملكية معنوية وروحية لا تزول إلا برحيل الإنسان نفسه؟ كما يجسد حضور الأم. هنا ينتقل الفيلم إلى ضفته الأكثر شاعرية، حين تتحايل الأم على دار المسنين، وتعود إلى بيتها وتحاول استرداد أثاثها القديم، شيئًا فشيئًا، وأمام احتياجها للمال، تبدأ في مشروعها الصغير، من خلال تحويل البيت إلى مقهي لمشاهدة مباريات الدوري الإسباني، وكانت كان المفارقة التي حملها الفيلم، فالمكان الذي أرادت الابنة إفراغه من الحياة يتحول فجأة إلى مساحة تنبض بالناس والضحكات والأصوات، وإلى مركز لمشاهدة مباريات إسبانية تربط طنجةبمدريد بخيط اجتماعي وثقافي غير مباشر، البيت يعود إلى التنفس من جديد. في هذه الأثناء، تنشأ علاقة متدرجة بين الأم وبائع الروبابيكيا الذي اشترى أثاثها بثمن بخس، وساومها لاحقًا على استعادته بمبالغ باهظة، قبل أن يتحول على نحو مفاجئ وإنساني إلى مساعد لها في استرجاعه، فتأتي كخط إنساني دافئ يُظهر الجانب الخفي في الفيلم، فالرجل، الذي يعمل في مهنة تُعيد تدوير ما يعتبره الناس قديمًا، يتحول إلى شريك في استعادة ذاكرة البيت، وهو أيضًا مرآة لطبقة شعبية تحترم القديم وتحيا به، هو شخص يحترم الماضي ويعبره مرآة لحاضره، يقدر قيمة الأشياء، على عكس تفكير الابنة الحداثي، والتي تنتمي لزمن سريع لا يمسح الدموع، بل يقيس كل شيء بالأرقام. إلى أن تأتي ذروة الصراع الدرامي حين تكتشف الابنة ما قامت به الأم، فتتهمها بالجنون، في إعلان صريح بفشل منطقها واعتراف ضمني بأن صلابة الأم — الأصالة والهوية — لا يمكن هزيمتها بالقوانين أو بعقود البيع. إنه انتصار للجذور في مواجهة الاستلاب الاقتصادي. ويأتي بكاء الابنة كاعتراف مرير بأن الحداثة التي عاشت داخلها سرقت منها الدفء والذاكرة، بينما بقاء الأم إلى منزلها هو تأكيدًا لعودة الروح إلى المدينة، وسطوة التاريخ أمام الحداثة، وإن كانت من بعيد. ربما كان الرهان الأكبر لدى مؤلفة ومخرجة العمل هو تفكيك هذا التناقض الحاد بين الرأسمالية من جهة، وبين الأصالة والهوية من جهة أخرى، فالرأسمالية – بوصفها منظومة إنتاج واستهلاك – دفعت نحو سيادة نمط ثقافي معولم، يبتلع الخصوصيات بالتدريج، ويعيد تشكيل العالم وفق نموذج واحد مهيمن، لا يعترف إلا بما يخدم سرعته ومنطقه النفعي. في هذا السياق تتبدّى أهمية اختيار طنجةومدريد؛ فالأولى مدينة مشبعة برائحة التاريخ، بحمولتها الروحية ومزاجها المتوسطي، بينما الثانية تمثل الحداثة السريعة التي تسير فيها عجلات العولمة بلا توقف، فتسحق تحتها العلاقات الإنسانية، وتُحوِّل الروابط العائلية إلى عبء أو معادلة اقتصادية يجب حلّها، ومن هنا تنفتح حساسية الصراع، «أم» تتشبث ببيت يمثل ذاكرتها وهويتها، في مقابل «ابنة» ترى العالم من داخل معادلة اقتصادية ضاغطة تُعيد تعريف معنى الاستقرار والانتماء. بهذا الطرح، لا يصبح النزاع بين الأم والابنة مجرد خلاف عائلي، بل تجلّيًا لصدام أعمق بين عالمين، عالم يحاول الحفاظ على جذوره، وآخر يسعى إلى التكيّف مع منطق يُعيد هندسة الإنسان وعلاقته بمحيطه وحتى بأقرب الناس إليه. بشكل عام، نجحت مريم التوزاني في صياغة معادل بصري يربط بين عراقة طنجة وأناقة الأم، ليصبح الاثنان امتدادًا دلاليًا لحالة واحدة تستند إلى الجذور والصفاء الداخلي، وقد استطاعت المخرجة توظيف لغة الصورة بما يكفي لتخفيف وطأة السرد وزخم الشاعرية، إذ جعلت من العناصر البصرية رافدًا أساسيًا في تشكيل المشهد، وشحن القدرة التعبيرية، وتعميق مستوى الدلالة. كما كان لعنصر الصوت – من مؤثرات صوتية وموسيقى تصويرية – دور بالغ الحيوية؛ لم يكتف بتعزيز البعد الشعري للنص، بل أضفى على الصورة طبقة عاطفية إضافية، تُقرب المتلقي من صراعات الشخصيات وتوتراتها الداخلية، وتنمي مسارات الشخصيات في فضاء محكوم بدرجة عالية من الحساسية والشفافية، بحيث يتداخل البعد النفسي مع ما تحمله الصورة من رموز وطبقات شعرية. وبفضل هذا التكامل بين الأدوات الإخراجية، تمكنت التوزاني من تعزيز الدفقة الشعورية التي يحملها الفيلم، ومن وضع المتلقي داخل فضاء الدراما عبر بوابة الاتصال الحسي والنفسي، لا عبر الحكاية وحدها، بهذا المعنى، تغدو الصورة والصوت ليسا مجرد أدوات تقنية، بل جسرًا يرتقي عليه السرد، وتنساب عبره التفاصيل الصغرى للمحنة الإنسانية التي يصوغها العمل. تمثيليًا، نجحت كارمن مورا في تقديم شخصية الأم الأنيقة بحساسية عالية وشاعرية شديدة الرهافة؛ امرأة محبة للحياة تواجه قسوة ابنتها بالمحبة ذاتها، وكأن شيئًا لا يمكنه تعطيل صفائها الداخلي أو إطفاء عاطفتها المتقدة، جاءت انفعالاتها محسوبة وهادئة، منسجمة مع إيقاع الحدث الدرامي، دون أي افتعال أو مبالغة، ما منح الأداء صدقًا واقعيًا جذب تعاطف المتلقي منذ اللحظة الأولى. في المقابل، قدّمت مارتا إيتورا معادلاً تمثيليًا للمشاعر الجافة التي يعكسها هذا العصر؛ أداء يتسم بالحدة وبرود الانفعال، لكنه يحمل في العمق ومضة خافتة من تأنيبٍ داخلي لا يطفو إلا نادرًا على السطح، مما أضفى على الشخصية طبقة نفسية أكثر تعقيدًا. أما أحمد بولان، فقدّم شخصية بائع الروبابيكيا بمهارة ملحوظة، متعاملًا مع المشاهد الحسية والعاطفية برهافة تؤكد انحيازه لكل ما هو صادق وبسيط، اتسم أداؤه بهدوء وتواضع إنساني يمنح الشخصية حضورًا ووقارًا مؤثرًا، ويكمّل التكوين الدرامي للعمل دون ضجيج. في النهاية، قدّم الفيلم صورة شاعرية دقيقة لصراع ممتد بين الآباء والأبناء؛ صراع بين جيل يرى الحياة محكومة بالأرقام والمعادلات، ويختزل العالم في ذاته— حين تكون تلك الذات ضئيلة ومتوترة— وبين جيل آخر ما زال يؤمن بالعاطفة والجذور والذاكرة، ويلتقط العمل هذا التوتّر ليعكس واقع الإنسان في عصر رأسمالي قاسٍ لا تحكمه سوى المادة، حيث تُختزل العلاقات إلى وظائف، وتُقاس المشاعر بميزان المنفعة. وعلى مستوى أكثر عمقًا، جسد الفيلم صدامًا بين الهوية والأصالة وعبق المكان، وبين نمط استهلاكي موحّد لا يرحم، ولا يبالي إلا باستمرار دورته، حتى لو سحقت الإنسان الذي بشّرته يومًا بالرفاهية، هكذا تتحول الوعود الحداثية بالسعادة والراحة إلى سبب مباشر للنكبة الإنسانية ذاتها، في مفارقة تلامس جوهر التجربة البشرية في زمن العولمة.