- أربع عشرة قصة قصيرة لا يمكن أن نعتبرها قطعا منفصلة.. ولا يمكن أن تغفلَ عينٌ عن رمزية الحارة فما هى إلا إشارة إلى مصر - بحكم تخصص المفكر المصرى تيسر له النبش فى مخزون الذاكرة الإنسانية وإعادة تدوير مدروسة قدمها وما زال ملتزمًا بها للمعارف - كيف تتحول حيوات من البشر مفعمة بالبراءة الأولى والتمنى البسيط فى حياة أفضل إلى تصادمات مرعبة؟ وكيف بدأت الديكتاتورية فى السيطرة على أهل الحى؟ - يتجلى جوهر الصراع فى مجتمع الحى فى الاستقطابات العنيفة من أجل تحقيق مصالح صغيرة وغياب حرية الاختيار والتفكير والتحقق - سطوع الخرافة كعنصر فعال فى القصص وتداخلها فى طقوس التدين الظاهرى من الممكن أن تجنح بنا إلى تأويلها بثورة لا واعية ضد مفردات الهزيمة والانكسار الإنسان مغرم بالذاكرة، فهى حتمية تماثل الفعل المضاد الذى نشأ مع صدمة الوعى الإنسانى الأول أمام مفهوم الفناء، الذاكرة هى الصندوق الأسود للجماعة والارتقاء إلى طموحات فى خلود ضد صيرورة طاحنة.. الإبداع الإنسانى بفروعه أحد أشكال الذاكرة، فورة من الوعى تمتص العالم ثم تعيد بعثه فى نصوص عن طريق اللغة التى تقولب العالم ومفاهيمه فى قوالب جمالية تصون الذات الفانية من غياهب النسيان. يعد الدكتور يوسف زيدان المفكر المصرى، من أحد المهمومين بالذاكرة الجمعية، وبحكم تخصصه المميز فى مجال المخطوطات والتراث العربى، فقد تيسر له النبش فى مخزون الذاكرة الإنسانية وإعادة تدوير مدروسة قدمها وما زال ملتزما بها للمعارف، من ثم التنقيح وفتح أبواب لكثير من الباحثين لبعث الذاكرة، وتكاد تكون مهمة إعادة بناء المفاهيم هى هدفه الأساسى وشغله الشاغل، تلك المفاهيم التى شوهت عبر الزمن وضُلِلت، فانزوت الحكمة أمام صخب المفاهيم المغلوطة المسمومة التى كانت أهم أسباب تدهور الوعى العربى حتى شارف على الضياع التام. يطل علينا د. زيدان بمجموعة قصصية جديدة، القصة القصيرة التى يفضل أن يدعوها مسار من مسارات الوصول بالمعرفة إلى المتلقى، زيدان ليس مجرد روائى حكاء على الرغم من جماليات وإبداعات نصوصه الروائية بل الكتابة القصصية بالنسبة له أداة للوصول إلى شريحة أوسع من القراء، لا يجب أن نغفل إنتاجه الأكاديمى فى فلسفة العلوم ومثابرته المثيرة للإعجاب فى تحقيق المجهول من التراث الإسلامى حتى لا يطمر، أنا عن نفسى أجدنى أكثر انحيازا لإبداعاته الأكاديمية، لكن للأسف فى مجتمع يستثقل المعرفة، فإن الكتابة المتخصصة لا تخاطب السواد الأعظم، وهذا لا يرضى طموح المشروع الزيدانى فى التغيير، كان لابد من مسالك أخرى أكثر تقبلا وانتشارا فأثرى المكتبة العربية بمساهمة بارزة لها خصوصية فى المجال الروائى (عزازيل / النبطى / ثلاثية محال) وأيضا مسلك القصة القصيرة بخطابها المكثف. عراقة حى بين هواجس أهله وأحلامهم أربع عشرة قصة قصيرة هى المكون للمجموعة، لا يمكن أن نفصل بينها كقطع منفصلة كعادة المجموعات القصصية، فالقصص جميعها مرتبطة مكانيا وزمانيا ويحدها جميعا نطاق جغرافى واحد واجتماعى متباين، المحرك الرئيسى هنا هو المكان، ككل القصص المغرقة فى المحلية المصرية تشتعل الدراما فى تفاعلات الشخوص مع حارتهم بتراكم تراثها القيمى وسرديتها الكبرى المنقسمة بين الواقعية الصادمة والميتافيزيقا والإحالات الرمزية لمفاهيم الأحلام والأمانى والهواجس. مع القراءة لا يمكن أن تغفل عين عن رمزية الحارة، عموما الحارة فى الأدب المصرى ما هى إلا إشارة إلى مصر وهذه الرمزية على سبيل المثال ركيزة أدب نجيب محفوظ، الحارة فى المجموعة هنا هى القصة الكبرى التى تتراكم فى وعى القارئ مع كل قصة فتتولد مجموعة من الأسئلة الكبرى. كيف تتحول حيوات من البشر مفعمة بالبراءة الأولى والتمنى البسيط فى حياة أفضل إلى تصادمات مرعبة؟ كيف بدأت الديكتاتورية فى السيطرة على أهل الحى؟ ما هى العلاقة بين السلطة الدينية وتدجين العقل الجمعى أمام التغيب بالترهيب؟ كيف تنشأ الأفكار كالتوسع الرأسمالى والتحكم فى أهل الحى وأصحاب البيوت؟ كيف تتحكم الخرافة وكيف تصبح ملاذا نفسيا وسط التهميش؟ العلاقة بين الغزو الثقافى / المادى الخارجى وبين ضياع الهوية؟ أسئلة تمثل معادل مطلق صالح لكل الأزمنة ولا تمثل معادلا موضوعيا لظرف آنى بعينه، تجبر القارئ على إعادة البحث وراء أصول الأشياء، مع ترابط عوالم الحى نتعلم إننا مترابطين فى المصير والمآل على الرغم من الفردانية وضغوط الحى والبحث عن خلاص شخصى أو الإغراق فى العزلة الانسحابية، يتجلى جوهر الصراع فى مجتمع الحى فى الاستقطابات العنيفة من أجل تحقيق مصالح صغيرة وغياب حرية الاختيار والتفكير والتحقق، لينعكس كل هذا فى التشتت والتخوين وعدم تقبل الآخر وغياب مفهوم التعددية كى تطل الأحادية عليهم فيغيب الحلو الأمل. هنا أقتبس من افتتاحية القصة الأولى (بطش البرطوشى): «أهل المنطقة التى نسكنها مختلفون، كعادتهم، فيما يحدث أخيرا بالبيت الكبير الذى يتوسط الزقاق، وآراؤهم شتى متنافرة فى رئيس اتحاد الملاك (مسكين البرطوشى) فالبعض منهم يراه نعمة من إنعامات السماء علينا، وعلى النقيض يراه بعضهم الآخر نقمة لحقت بسكان البيت قد تمتد لاحقا إلى بقية البيوت». سطوع الخرافة كعنصر فعال فى القصص وتداخلها فى طقوس التدين الظاهرى، من الممكن أن تجنح بنا إلى تأويلها بثورة لا واعية ضد مفردات الهزيمة والانكسار، أو كمتنفس لأهل الحى المهمشين.. إعلاء ذاتى مرتّق من خيوط الأوهام بأن حيهم مبارك أو محمى بقوة إلهية تصونه وتصونهم بالتبعية من مصائب التحولات، استعصامهم بوهم الأصالة وأن أحجار البيوت متينة تليدة العناصر تقيهم الزلازل، وتحوير المنطق العقلى إلى كرامات شيخ مات يوم الفزع وهو يصرخ «يا ستار» الخرافة مع توغلها أصبحت قانونا ممنطقا لتفسير كل شىء وهذا بالضروروة يفرز خرافة مضادة متواكلة، رفضا لانتهاج أساليب أكثر عقلانية وسط علم يكفر أصحابه. يلمح زيدان فى النصوص إلى فكرة تقديس الحكام، رمزية تأليه الحاكم المتسلط المستبد من أهم روافد التغييب، وتعد فكرة المخلص أو المستبد العادل من أخطر ألاعيب الانحطاط الفكرى فى المجتمع العربى عموما والمصرى خصوصا من قديم الزمان، فأهل الحى لا يريدون الاقتناع بأن خلاصهم لا يأتى إلا منهم. يستحضر زيدان لقبا ذا دلالة مملوكية (الجاشنكير) ليعيدنا إلى أصل الحى المبنى بلا اتساق نتيجة مداهنة الحاشية للمملوك الذى صار ملكا لأنه تغلب على أعدائه، فلا يغفل الكاتب عن وضع الدلالات فى تراتبية بديعة، الحارة ضاقت لأن الحاكم يكره الاتساع والتنوع بما فيه إشارة إلى الحرية وبراح التطور الإنسانى لأن ذلك يقوض مكانته الواهية وما كان من الناس بعد أن قاسوا نيره أن عرضوا به فى أهازيج شعبية تَصِمه بكل قبيح بعد موته غير المأسوف عليه.. زيدان هنا يعول على الوعى الشعبى الذكى، على الرغم من تمسكهم الطبيعى بثوابت كوابت تؤصل للعبودية. أحب أن أقول إن العمل فى مجمله لا يخرج عن مدرسة إعادة بناء المفاهيم.. والنسق الزيدانى ممتع سرديا لتنوع استخدام مذاهب السرد بين التقليدى الكلاسيكى من تطور سببى للقصة وبين الحداثى وتعدد أصوات السرد من الراوى العليم إلى الترجمة الشخصية للأحداث مع استخدامات أنيقة للغة المنسابة فى الوصف وهى أداة يعكس من خلالها عمق الرؤية وفلسفته فى تحليل التطورات ودراستها وعرضها، أهل الحى فى رأيى الشخصى تفتح الأبواب لعوالم من التأويلات والأسئلة وتستحق القراءة المتأنية. ختاما أضع بين أيديكم اقتباسا لافتا يلخص فلسفة الكاتب: «الناس يسبحون فى بحر الأوهام، ثم يظنون أنهم اختاروا طريقهم فى الحياة، مع أنهم لم يختاروا أسماءهم ولا الأسر التى ينتسبون إليها ولا البيت الذى يولدون فيه وينشئون ويسكونون.... السكن والسكون والسكينة والمسكنة، كلها كلمات مشتقة من (الكين) الذى هو باطن حيا المرأة، لكن معظم العوام والخواص لا يعلمون ولا يتعلمون».