أسماء المرشحين على مقاعد الفردي بدوائر محافظة الجيزة لانتخابات مجلس النواب 2025    محافظ أسوان يقرر تعديل تعريفة الأجرة للمواصلات الداخلية والخارجية    حماس: أي تأخير في تسليم الجثامين تتحمل مسئوليته الكاملة حكومة نتنياهو    رويترز: الجيش الأمريكي ينفذ ضربة جديدة في منطقة الكاريبي ضد سفينة يشتبه بأنها تحمل مخدرات    بعد إعلان حماس .. نتنياهو: إسرائيل ستعرف كيف تتصرف    ضبط قائد «توك توك» صوّر فتاتين بملابس خادشة ونشر الصور لزيادة المشاهدات    حسن الرداد: مهرجان الجونة ليس ريد كاربت فقط.. وبدء تصوير فيلم طائر غريب نهاية الشهر    سعر الدولار اليوم الجمعة 17102025 بمحافظة الشرقية    قبل تطبيق زيادة أسعار البنزين والسولار رسميًا اليوم الجمعة.. طريقة تحويل السيارة إلى الغاز الطبيعي    عاجل- أمن المقاومة يحذر من الشائعات حول مصير أبو عبيدة وسط اتفاق جديد لوقف إطلاق النار في غزة    فاروق جعفر يتغزل في نجم الزمالك.. ويؤكد: «قدراته الفنية كبيرة»    ستاد المحور: الكوكي يدرس الدفع ب صلاح محسن في التشكيل الأساسي أمام الاتحاد الليبي وموقف الشامي    سعر الأسمنت اليوم الجمعة 17 أكتوبر 2025 فى الشرقية    طقس حار نهارًا وشبورة صباحية خفيفة.. الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الطقس الجمعة 17 أكتوبر 2025    «زي النهارده».. وفاة شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود 17 أكتوبر 1978    انطلاق الدورة 33 من مهرجان الموسيقى العربية احتفاءً بكوكب الشرق أم كلثوم (صور)    عاجل - حريق أمام المتحف المصري الكبير قبل افتتاحه    أطعمة طبيعية تساعد على خفض الكوليسترول في 3 أشهر    حيلة لتنظيف الفوط والحفاظ على رائحتها دائمًا منعشة    لو عايز تركز أكتر.. 5 أطعمة هتساعدك بدل القهوة    جوتيريش يدعو للعودة إلى النظام الدستورى وسيادة القانون فى مدغشقر    أسماء المترشحين بنظام الفردي عن دوائر بمحافظة الغربية لانتخابات النواب    حبس متهم بقتل شقيقه فى قنا    السعودية والولايات المتحدة تبحثان المستجدات الإقليمية والأفريقية    أوقاف الفيوم تعقد فعاليات البرنامج التثقيفي للطفل لغرس القيم الإيمانية والوطنية.. صور    روسيا توسع أسواق نفطها وتستهدف إنتاج 510 ملايين طن    الصحف المصرية: إسرائيل تماطل فى فتح معبر رفح    حمزة نمرة ل معكم: وفاة والدتى وأنا طفل أورثتنى القلق وجعلتنى أعبّر بالفن بدل الكلام    هشام عنانى: حزب المستقلين الجدد يخوض انتخابات النواب على مقاعد فردية    كريم نيدفيد: رمضان صبحي ليس صديقى ولا أعتقد أن هناك فرصة لعودته للأهلى    إبراهيم محمد حكما لمباراة الإسماعيلى والحرس ومحجوب للجونة والبنك    فلسطين.. قوات الاحتلال تطلق قنابل الغاز خلال اقتحام بلدة بيت ريما قضاء رام الله    السيطرة على حريق داخل مخزن لقطع غيار السيارات بميت حلفا    رفضت إصلاح التلفيات وقبول العوض.. القصة الكاملة لحادث تصادم سيارة هالة صدقي    نجم الأهلي السابق يطلب من الجماهير دعم بيراميدز في السوبر الإفريقي    فاروق جعفر: الأهلي أفضل من الزمالك.. ولكن الأبيض مازال في المنافسة    يونس المنقاري: بيراميدز فريق جيد.. سعيد ب أداء الشيبي والكرتي.. ومواجهة السوبر الإفريقي صعبة    الحفني يشهد توقيع بروتوكول تعاون بين سلطة الطيران المدني وإدارة الحوادث    أسعار الخضار والفاكهة في أسواق أسوان اليوم الجمعة    بحضور رئيس مجلس الوزراء.. وزير الشؤون النيابية يشهد ختام أسبوع القاهرة الثامن للمياه    4 أبراج «مبيخافوش من المواجهة».. صرحاء يفضلون التعامل مع المشكلات ويقدّرون الشفافية    تركي آل الشيخ: «بدأنا الحلم في 2016.. واليوم نحصد ثمار رؤية 2030»    فضل يوم الجمعة وأعماله المستحبة للمسلمين وعظمة هذا اليوم    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ووقتها المستحب    أدعية يوم الجمعة المستحبة للمتوفى والمهموم والأبناء    مدير مكتب زيلينسكي: نأمل في صدور قرار من ترامب بشأن صواريخ توماهوك    الداخلية تكشف ملابسات واقعة فيديو «التوك توك» بملابس خادشة للحياء    السيطرة على حريق سيارة ملاكي بميدان الرماية في الهرم    تفاصيل لا يعرفها كثيرون.. علاقة فرشاة الأسنان بنزلات البرد    مصطفى شلبي يتنازل عن 50%؜ من مستحقاته لنادي الزمالك    ارتفاع أسعار البنزين..جنيهين للتر الواحد    استبعاد هيثم الحريري من انتخابات البرلمان بالإسكندرية وتحرك عاجل من المرشح    سعر السكر والأرز والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الجمعة 17 أكتوبر 2025    الرعاية الصحية: المواطن يدفع 480 جنيه ونتحمل تكلفة عملياته حتى لو مليون جنيه    هل يجوز المزاح بلفظ «أنت طالق» مع الزوجة؟.. أمين الفتوى يجيب    بالأسماء والأسباب .. تعرف علي قائمة المستبعدين من خوض انتخابات النواب بالقليوبية    هل الصلوات الخمس تحفظ الإنسان من الحسد؟.. أمين الفتوى يوضح    جامعة قناة السويس تطلق فعاليات«منحة أدوات النجاح»لتأهيل طلابها وتنمية مهاراتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محفوظ حافظ (قصة قصيرة)
نشر في المصري اليوم يوم 10 - 01 - 2017

منذ ظهور هذا الرجل والناس هنا مختلفون فيه، فلا يكاد جماعة منهم يتفقون على قول، حتى يبدلوه بعد حين. وقد جنح ببعض الجيران الخيال الخلاق، فاعتقدوا فيه ما لا يمكن تصديقه.. بدأ أمره فى صبيحة شتوية دافئة، بدا فيها الزقاق والحارتان مثل غابة غناء عامرة بصنوف الكائنات، ومفعمة بالحياة، وفى غمرة الصخب الصباحى المعتاد، جاء مرتدياً ملابس خشنة، لا هى بالرخيصة الرثة ولا هى بالفخمة المتفاخرة. عوان بين هذين. لم يلتفت يميناً أو يساراً وهو يقطع بأقدامه، واثقة الوقع، الزقاق بطوله، ثم يميل وقوراً كنمر شبعان إلى الحارة البحرية حتى يصل إلى قطعة الأرض الخالية بآخرها، التى كنا نسميها، الخرابة. خلال سيره المتأنى، كان كأنه لا يرى ما حوله أو لا يهتم به، بل إنه مر بمجلس الرجل المهيب مسكين البرطوشى المسترخى على الدكة التى أمام منزله، كالفهد، ولم ينظر نحوه أو يرمى التحية المعتادة.
مقالات متعلقة
* تمام التاسعة صباحاً «قصة قصيرة»
* التسليةُ بالتعزية (قصة قصيرة)
* مينو بوز (قصة قصيرة)
وبعدما وصل الرجل الغريب إلى «الخرابة»، توغل فيها حتى وقف على أعلى تلالها، وببطء الفيلة أجال عينيه بين أكوام القمامة وتلال الخردة وبقايا الجدران المهدمة من زمن. ثم رفع ناظريه إلى أسطح البيوت الثلاثة المحيطة بالأرض اليباب، وانزلق ببصره على جوانبها المحددة للخرابة من الجهات الثلاثة.. بدا أثناء وقوفه فوق الطلول، كالنسور، أو مثل ناسك هندى يتأمل امتداد سطح المحيط، ويرى ما تحته من حيتان وأحياء دقيقة الحجم، ويصلى صلاة غير معهودة.
وكما هو متوقع، انسرب نحوه صغار الجيران وأحاطوا به، ثم لحق بهم بعض الكبار المشغوفين بما لا يخصهم، فصاروا من حوله كالدائرة. تقدم إليه جارنا المشهور بالبرود «نظمى الودنان» وسأله، خير يا حاج! فلم يرد عليه، ولا حتى التفت نحوه.. ساد الصمت برهة، ثم انسحب من لسانه الولد الصغير ابن فتحى الفران وقال للوافد المريب بلسان برىء: يا عم، أنا اسمى «رامى» وكان فى البيت ده، انت مين بقى؟ ابتسم الرجل مثلما يبتسم المجهدون وبرفق قال بصوت خفيض، عميق: أنا مقاول، اسمى محفوظ حافظ، اشتريت الأرض دى وناوى أبنى فيها عمارة.
■ ■ ■
وبالهدوء الذى به جاء ذهب، وكاد يُنسى.. لولا اعتياد الجيران على الفتيا تطوعاً، ومن دون احتياج إلى داع، لأن الوقت هنا لا يمر إلا بالتحدث أو الاستماع.. بائع البطاطا الواقف بعربته الصغيرة عند افتراق الحارتين عن الزقاق، قال إن هذا الزائر وجهه مألوف بالنسبة إليه، وبعد سويعة أضاف أنه لمحه مرة فى الشارع الهادئ المهيب الذى بآخره مبنى المخابرات. هذا هو، إذن الرجل كان هنا للتحقق من أمر خطير خاف، وسوف يختفى فى الأيام القادمة أحد السكان. عقب عليه «سلامة القهوجى» بقوله إنه يشك فى أن «حمدى الحيران» جاسوس، بدليل أنه اشترى الشهر الماضى لزوجته فستانين ويلبس منذ أسبوع «بدلة» جديدة ويخفى عينيه خلف نظارة معتمة.. كاد الجميع يعتقدون صحة ذلك، لكن الحقيقة انكشفت ساعة العصر حين اكتشف حكماء الحارة أن هذا الرجل وكيل معتمد لشركة كبيرة تعمل فى التجارة التى راجت مؤخراً، وهى تهجير الشباب المتعلمين إلى الغرب، ليبقى الجهلة فى البلد فيخربوها، وقد استتر خلف ما قاله لئلا ينكشف هذا «الملعوب» لكنه كان يرصد ما بقى هنا من شباب مهرة ومتعلمين.
ساعة المغرب اكتشف الجميع أن الحقيقة التى ظهرت عصراً، غير حقيقية، وما حكماء الحارة إلا ثلة من المخرفين. فالرجل فعلاً مقاول ولكن اسمه ليس محفوظ حافظ، وإنما حافظ محفوظ! وهو يريد أن يشترى البيوت المجاورة للخرابة التى اشتراها فعلاً، لينشئ هنا فندقاً كبيراً لراغبى الفرجة علينا من الأجانب، لأن هؤلاء لديهم اهتمام برؤية عجائب المخلوقات وغرائب البشر.. لكن ذلك التفسير انهار من أساسه حين صاحت «أم زغلول» بالحكمة الخالدة: ما غريب إلا الشيطان! فأبطلت بذلك ذلك التفسير غير المنطقى.
فى موعد المباراة، حيث يتنافس الفريق الكروى الخائب والفريق الأخيب منه، للفوز بالكأس، نسى الجيران أمر الزائر المريب وكل الأمور التى تجرى فى الكون، وتكوموا أمام شاشات التليفزيون، جميعاً عدا الولد المهووس «معتز السيوى» المعروف بأنه يكره كرة القدم، ويقول ما لا يقوله إلا مجنون: الكرة لعبة سياسية!.. ولد مجنون رسمى.
وكما هو متوقع، سكن الليل ساعتى المباراة وفى قلب السكون تختبئ الأحلام والأمل فى الفوز، وتنطلق كل برهة صيحات المشجعين. كان «معتز» المجنون، يجلس وحده فى الفراغ الذى بأول الزقاق يستمع إلى أغنية قديمة، وعلى ملامحه علامات الانسجام. المجانين فى نعيم. ومع الدقائق الأخيرة للمباراة، وبعد الوقت الإضافى، حدث ما لم يكن متوقعاً وفاز الفريق الأخيب على الفريق الخائب، بضربات الجزاء الترجيحية، فجرى الهرج فى أنحاء الحى ما بين بهجة مشجعين وحسرة المشجعين الآخرين، وتخاصم كثيرون، وكثير من الأصدقاء خسروا الصداقة التى كانت بينهم.. ونام الجميع وهم منهكون.
■ ■ ■
فى اليوم التالى تتالت الأحداث وتلاحقت على نحو لم يترك الفرصة متاحة أمام لذة التأويلات والاستمتاع بالشائعات، ولا أتاح المجال لأى أقوال. فالجيران الذين استيقظوا فجراً رأوا فى الخرابة مجموعة من العمال يضعون شيئاً مريباً بين أكوام القمامة وفى تجاويف الكراكيب. وبدا أن المؤامرة الكبرى قد بدأت، ولابد أن تنكشف عما قريب أسرارها. سألتهم «أم رامى» من شرفتها المطلة من الطابق الأول للمنزل المجاور للخرابة، عما يفعلون فى هذا الوقت «العفاريتى» فأجابها أحدهم بما لم تتوقع، قائلاً إنهم يضعون سُماً للفئران.. فوجمت.
أوان الضحى جاء المقاول مجدداً، بالطريقة التى جاء بها فى اليوم السابق، فاقترب منه «معتز» وسأله عن سر السم، فأجابه بأن هذا المكان معقل لتناسل الفئران منذ زمن، وإذا بدأ فى إزالة الركام منه استعداداً لوضع الأساسات، فسوف تنتشر الفئران فى كل مكان.. كانت «أم التيتى» بالقرب منهما، تلتقط ما يقولان، ولما سمعت كلام «محفوظ حافظ» أو «حافظ محفوظ» أخبرته بأن بيوت الحارتين ترتع فيها الفئران، وكذلك معظم مبانى الزقاق. هز المقاول رأسه ببطء، وببطء قال إنه سيرسل عمال «شركة المكافحة» مجدداً، بعد صلاة الظهر، ومن أراد تطهير بيته من هذه القوارض، فعليه أن يتعاون معهم ويُفسح لهم المجال:
- وده هيبقى على حساب مين يا أخويا؟
- الحساب يوم الحساب يا ست الحاجة؟ أنا هادفع لهم.
- يا سلام!.. وعليك من ده بإيه؟
- أنا باحب أشتغل صح، وعلى نضافة.
- طيب، وماله. ربنا يبارك لك يا بيه، ويزيدك من نعيمه بحق جاه النبى. فى تمام الواحدة ظهراً، جاء عمال مكافحة القوارض ومعهم ما يحتاجونه من معدات، فتتالت بل انهالت عليهم الدعوات من الجيران لتطهير بيوتهم. كانوا سبعة، ولم يرفضوا طلباً وطلبوا الصعود إلى أسطح البيوت والدخول إلى الحنايا والمناور، ولما علا أذان المغرب كانوا قد انتهوا من عملهم.. وكان الثلاثة الكبار يراقبون ما يجرى، بقلق.
الصغار من أهل الحارة كانوا سابقاً يظنون أن الفئران من الموجودات فى البيوت بالضرورة، وكان الأكبر سناً منهم يتوهمون أن القضاء على هذه القوارض هو المستحيل الرابع، وربما الأول. الاعتياد يولد هذه البلاهة. فلما ندر وجود الفئران فى اليوم التالى، وانقطع تماماً بعد مرور يومين اندهش الجميع، وأفاقوا من أوهامهم القديمة. والدهشة والإفاقة، كلاهما، يؤدى إلى التفكير وهو أمر فى الزقاق والحارتين، خطير. فقد تفاوتت الرؤى وتنوعت كالمعتاد المواقف، وكان كل قوم بما لديهم يقتنعون. ربات البيوت فرحن بالخلاص من إزعاج الفئران، خصوصاً صغار الحجم الذين كانوا يمرحون فى الأنحاء، ويثيرون الهرج عند مطاردتهم. ومائلات العيون من نسوة الجيران انشغلن بالمخلص عن الخلاص من الخسائر التى كانت تسببها الفئران، خصوصاً أنهن لاحظن أن المقاول ليس فى إصبعه «دبلة» تدل على الزواج، فهو إما مطلق أو أرمل أو أعزب، يعنى فى جميع الأحوال مرشح لتحقيق الأمنيات. والرجال امتعضوا من كثرة كلام النساء عن المقاول، ونفوا أنهم غيرانون منه لأنه فعل ما لم يفعلوه وحظى بالتقدير الأنثوى. وشباب الدليفرى المتبرمون دوماً، خالفوا معهودهم فى الحط من كل حدث يجرى، وأعربوا بعبارات قصيرة عن رضاهم بما فعل المقاول تطوعاً.. وكان الثلاثة الكبار يراقبون الأمور الجارية، بقلق.
ظهر يوم الخميس، فوجئ الجيران برجال أربعة من الأشداء، يأتون بصندوق معدنى كبير الحجم ويضعونه عند حافة الخرابة، وأخبروا من اجتمع حولهم بأن «محفوظ بيه حافظ» أرسل هذا الصندوق ليضع فيه الناس القمامة، وكلف زبالاً بتفريغه فى كل يوم مرتين.. وصباح يوم السبت، فوجئ الجيران بعمال لا حصر لهم راحوا يزيحون الركام عن الخرابة حتى خلت واستوت أرضها، وما عادت تصلح لاسمها السابق. يوم الاثنين، أوان الظهيرة، انتابت الولد المهووس «معتز» نوبة جنون فصاح بصوت عال عند التقاء الزقاق بالحارتين، قائلاً ما ملخصه إن المنطقة نظفت من دون تحمل السكان لأية نفقات، فلأى سبب يأخذ «البرطوشى» كل شهر من كل الناس أموالاً بزعم العناية بالمكان، ولا يعتنى إلا بنفسه، فجاء به المتهورون من شباب الدليفرى، المعروفون باندفاعهم، وانحازوا لما يقول وزادوا عليه بعبارات عامية من مثل: العيب مُش عليه، العيب على الخوافين اللى بيدفعوله.. يا عم صل، ما هى معروف إنها فردة.. شغل فرد الدراع جايب نتيجة مع البقر.. الفتونة بتاكل صاحبها الشهد، مادام الناس نسوان.. النظام ده لازم نفوق منه، الحكاية مُش عافية.
وهكذا اصطخب الزقاق والحارتان، وكان الثلاثة الكبار يراقبون ما يُقال ويتابعون الموقف عن كثب، بقلق.
■ ■ ■
يوم الأربعاء، عصراً، جاء «محفوظ حافظ» يحوطه جماعة من العمال والمهندسين، ورسموا على الأرض الفضاء الفسيحة التى كان اسمها «الخرابة» خطوطاً متقاطعة، بالجير، وعدلوا فيها مرات حتى ظهر الرضا على وجه المقاول، وأعلن بصوت مسموع أنه سيبدأ الحفر لوضع الأساس، السبت المقبل.. وفى طريق خروجه من الزقاق، استوقفه «البرطوشى» بقوله، بنبرة سخرية:
- إيه الحكاية يا عم الشباب، انت مُش واخد بالك إن الحتة ليها صحاب، ولا يعنى سكتنا له دخل بحماره!
- معلش، مُش واخد بالى لا مؤاخذة. تطلع مين حضرتك؟
- البرطوشى.. عارف يعنى إيه البرطوشى..
- لأ فى الحقيقة، مُش عارف، ولا عايز أعرف.
بدأ حُراس «البرطوشى» المحيطون به فى الزمجرة، المتوعدة، فانصرف من جوار المقاول المهندسون واقترب منه الضخام من العمال، فتوقع الجميع الصدام الدامى، لاسيما أن اثنين من أعوان «البرطوشى» جلبا من خلف باب بيته بعض عصى الشوم وطوال السكاكين، وكادا يتقدمان نحو المقاول ومن معه، لكنهما ارتدعا وتراجعا عندما أزاح «محفوظ حافظ» طرف قميصه كاشفاً عن مسدس كبير معلق فى حزامه، وممسكاً به من دون أن يخرجه من موضعه.
«يا جماعة صلوا ع النبى» قال ذلك قائل، فانسحب رجال «البرطوشى» خطوات ولحق بهم كبيرهم. ولما وجد المقاول أن معترضيه جنحوا إلى السلم، جنح إليه وانصرف بخطوه المتباطئ.. وعلى أثر هذه المواجهة التى لم تجر، جرت همهمات كثيرة بين الجيران على اختلاف أعمارهم، وبطبيعة الحال كانت همهمات شباب الدليفرى وتعليقاتهم هى الأعلى والأشد جرأة: البرطوشى اتبرطش يا جدعان.. خدت بالك بلع ريقه إزاى لما شاف المسدس.. المقاول ده شكله جبار.. البرطوشى كان ناوى يعمل عليه فِردة كبيرة، نقبه طلع على شونة.. كان نفسى من زمان أشوف فى البرطوشى يوم ذى ده.. الحكاية شكلها هتولع، وتحلو.
بعد صلاة العشاء بساعتين، اجتمع الثلاثة الكبار: البرطوشى، والحلتيتى، وشيخ الحارة.. وامتد بينهم النقاش وتبادل الآراء حتى ساعة متأخرة، بعد منتصف الليل. ولأن أحداً لم يحضر اجتماع القمة هذا، مع أن الجميع علموا بانعقاده، فقد تفاوتت توقعات الجيران وكثرت بينهم التكهنات، واختلفوا كالمعتاد. جماعة قالوا، لن يحدث شىء! وقال جماعة إن الصدام حتمى، لأنه يتعلق بأكل العيش! والأكثرية من سكان الزقاق قالوا إنهم فى حالة اندلاع المواجهة، سوف يبقون على الحياد. وقالت «أم التيتى» لمن حولها من النسوة، بأسلوبها الحاسم المعهود، كفاية كلام ووجع دماغ، والخبر انهارده بفلوس وبكرة ببلاش.. فأبطلت بذلك قول كل اللواتى حولها.
قبل الفجر بقليل، أرسل «البرطوشى» أعوانه الثلاثة المعروفين هنا عند بعض الجيران باسم الشمبانزى، وعند شباب الدليفرى بأسماء: دوبرمان، بيتبول، روت فايلر.. فقاموا بسكب جالون كيروسين فى صندوق القمامة الكبير، وأوقدوا فيه ناراً كالسعير أكلت كل ما فيه وألهبت جوانبه، فانهالوا عليه بالمطارق حتى تكسرت جوانبه وصار من بعد صندوق القمامة، قمامة.
ويوم الجمعة، جعل «الحلتيتى» الخطبة المملة فى موضوع: فراسة المؤمن! وأكد خلالها أن أهل الإيمان لا ينخدعون لأنهم ينظرون بنور الله، ولا يصدقون كل أفاك أثيم يضحك عليهم ببعض الخدمات المجانية.. وختم الخطبة بزعيق ملتاع فقال ثلاث مرات، بصوت مدو: وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
■ ■ ■
معظم الجيران، وربما جميعهم، استهانوا بحمق إحراق صندوق القمامة، وخطبة الحلتيتى ذات السخائم، وأجمعوا على أن ذلك كله بحسب وصفهم «لعب عيال» ولن يوقف المقاول المحترم عن استكمال مساره. وبالغ بعضهم فى التفاؤل واقترح أن يقترح على «محفوظ حافظ» أن يتولى طلاء واجهات البيوت التى فى الحارة، وربما الزقاق أيضاً، لتكون متناسبة مع «العمارة» التى سيقوم ببنائها. فوافق على ذلك كثيرون، وتطوَّع «نظمى الودنان» بطرح الاقتراح لكن الجميع رفض ذلك، وندبوا له «فتحى الفران» لأنه بشوش وفى وجهه القبول.. وقال كثير من الجيران إنهم لن يدفعوا بعد ذلك أى إتاوات للبرطوشى، وليذهب بأعوانه إلى الجحيم. وأقسموا أن يقفوا فى مواجهته، وقفة رجلٍ واحد، على اعتبار أن الكثرة تغلب الشجاعة.
مرت أعوام، ولم يقف أحد فى وجه البرطوشى وظل الجميع يدفعون له «رسوم الصيانة» المسماة سابقاً: الإتاوة.. ولم يعرض «فتحى الفران» أية اقتراحات، لأن المقاول لم يعد من بعدها إلى الحارة. فقد قدم شيخ الحارة بلاغاً إلى الجهات المختصة، يقول إن قطعة الأرض هذه مدفون تحتها آثار، فصدر قرار بإيقاف العمل فيها لحين عمل الحفائر المطلوبة، بمعرفة الخبراء. ولم يأت هؤلاء الخبراء، ولم تتم الحفائر، ولم يظهر محفوظ حافظ، وصارت الأرض مثلما كانت دوماً مزبلة.. واستعادت اسم الخرابة.
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.