لم يعد المشهد الدولي كما كان ولم تعد التحالفات تُبنى على أساس العناوين القديمة التي صمدت لعقود. اليوم يبدو العالم وكأنه يعيد تعريف كل شيء: معنى الحليف، ومعنى العدو، ومعنى المصلحة ذاتها. تتبدل الموازين بسرعة وتتغير الخرائط ببطء لكن المؤكد أن الكرة الأرضية دخلت مرحلة جديدة عنوانها إعادة التموضع حيث لا أحد يثق في أحد ولا أحد يملك رفاهية البقاء في مكانه القديم. في خضم هذا الضباب الكثيف تبرز القاهرة كحالة مختلفة كأنها مركز ثقل يوازن بين الأضداد وصوت عقل يحاول أن يمنح السياسة معنى وسط ضجيج القوة والمصالح. فبينما تتخبّط العواصم الكبرى في مراجعة مواقفها وتحالفاتها ، ما زالت مصر تمارس سياستها بثبات نادر لا تلهث وراء اللحظة ولا تُباع مواقفها في المزاد الدولي. إنها تملك ما هو أثمن من المكاسب المؤقتة: المصداقية والتاريخ والموقع الذي لا يمكن تجاوزه. منذ سنوات والعالم يعيش حالة سيولة سياسية غير مسبوقة. الولاياتالمتحدة تحاول أن تُعيد ترميم زعامتها المتآكلة لكنها تفقد الكثير من أوراق التأثير كلما حاولت فرض رؤيتها بالقوة. أوروبا تائهة بين مصالحها الاقتصادية مع الشرق ومخاوفها الأمنية من الغرب. روسيا تعود إلى الساحة بثقل السلاح والطموح التاريخي بينما تمدّ الصين أذرعها الاقتصادية بهدوء محسوب كمن ينسج شبكة طويلة الأمد بلا ضجيج. وفي هذا الزحام المزدحم بالمصالح المتقاطعة تقف المنطقة العربية كمنطقة اختبار كبرى للضمير العالمي بين صراع فلسطين المستمر وتداعيات الحرب في السودان وتوازنات البحر الأحمر وسباق النفوذ في الخليج. وسط هذا كله تُطل مصر من موقعها الجغرافي والتاريخي كصمام أمان. فهي لا تسعى إلى الهيمنة لكنها ترفض أن تكون مجرد متفرج. ولا تنحاز إلى محور على حساب آخر لكنها تمتلك القدرة على الحوار مع الجميع بلغة واحدة: لغة الاتزان والاحترام. هذه السياسة التي بدت للبعض بطيئة في زمن السرعة أثبتت مع مرور الوقت أنها الأكثر استدامة والأكثر حكمة. فحين يسقط الآخرون في فخ التسرع تظل القاهرة واقفة عند نقطة الاتزان التي تحفظ للمنطقة حدّا أدنى من العقل. لقد أعادت الحرب في غزة تعريف كثير من المفاهيم. فالدول التي رفعت شعارات العدالة سكتت أمام المجازر والدول التي ادّعت الحياد كشفت انحيازها تحت ضغط المصالح أما مصر فقد ظلت على موقفها الثابت: لا للتهجير ولا لتصفية القضية ولا لحلول مفروضة على حساب الإنسان الفلسطيني. ومن هذا الموقف الأخلاقي قبل أن يكون السياسي ، استعاد العالم احترامه لمصر. لأنها الدولة التي لا تتحدث فقط بل تتحرك وتفتح معابرها للجرحى وتدير التوازنات بين الخصوم بحكمة نادرة. إن العالم اليوم يعيش أزمة هوية سياسية. الحروب لم تعد بين جيوش ودول فقط بل بين أفكار وروايات ومصالح عابرة للحدود. لم يعد العدو واضح الملامح ولا الصديق مضمون الولاء. في هذا العالم المتشابك يصبح البقاء للأكثر تماسكا لا للأكثر صخبا. وهنا تتجلى القيمة الحقيقية لمصر فهي لم تخضع يوما لابتزاز سياسي ولم تنجرّ وراء اصطفافات مؤقتة. حافظت على ثوابتها كما حافظت على مكانتها لأنها تدرك أن من يفقد اتزانه مرة يفقد احترام العالم إلى الأبد. تعيش المنطقة اليوم لحظة إعادة رسم كبرى للخريطة السياسية. من الهند إلى البحر المتوسط ومن البحر الأحمر إلى المتوسط الشمالي تُعاد صياغة الممرات الاقتصادية والتحالفات الأمنية وموازين القوة. الجميع يسعى لأن يكون في قلب الخريطة لكن القليل فقط من يملك مؤهلات البقاء فيها. ومصر — بتاريخها وموقعها وقدرتها على قراءة المتغيرات — تظل الرقم الثابت في معادلة متحركة. ربما لم تعد القوة تُقاس بعدد الطائرات أو حجم الجيوش فقط بل بقدرة الدولة على الصمود أمام العواصف دون أن تفقد بوصلتها. وهذا بالضبط ما فعلته القاهرة. في زمن تهاوت فيه الشعارات الكبرى استطاعت أن تحافظ على دورها الإقليمي والدولي وأن تفرض احترامها على الجميع دون أن ترفع صوتها. فحين تتحدث مصر ينصت العالم لا لأن صوتها أعلى بل لأن كلماتها تأتي من عمق التاريخ. إننا أمام عالم يعيد تعريف نفسه كل يوم لكن مصر لا تحتاج إلى إعادة تعريف. فهي التي كانت — وستظل — ميزان المنطقة وبوصلة التوازن في زمن الارتباك. ومع كل جولة جديدة من الصراعات تتأكد الحقيقة القديمة: أن القاهرة لا تقف على الهامش بل في القلب دائما حيث تتقاطع خطوط النار والمصالح وتبقى هي النقطة التي تمنح الخريطة معناها واتزانها.