فى لحظة مشحونة بالعواصف والارتباكات انعقدت قمة الدوحة قبل أيام لتعيد طرح الأسئلة أكثر مما تقدم إجابات، قمة بدت كأنها مرآة لخرائط التصدع العربى أكثر منها مساحة لصياغة موقف جامع أو رؤية موحدة. الجميع كان يتحدث لكن قليلا من الكلمات استقرت فى الذاكرة لأن المشهد من الأصل لم يكن مرهونا بالتصريحات والبيانات بل بمن يملك القدرة على ترجمة موازين القوة وتحويلها إلى حقائق على الأرض، وسط هذا الضجيج برزت مصر كعادتها فى موقع مختلف، لا لأنها حضرت القمة بخطاب تقليدى بل لأنها غادرت الدوحة وهى أكثر ثباتا ووضوحا فى رسم صورة ما بعد القمة، صورة تؤكد أن القاهرة هى الصخرة التى يقف عندها ميزان الإقليم حين يترنح. القضية ليست فى ما قيل داخل القاعة بل فى ما أظهرته القمة من أن الفجوة بين العواصم العربية والإقليمية أوسع بكثير من أن يسدها اجتماع ليوم واحد. بعض الأطراف جاء يبحث عن تسجيل نقاط سياسية سريعة وآخرون أرادوا تلميع صورتهم فى لحظة انكشاف داخلى بينما اختارت مصر أن تكون شاهدة على أن المشهد يحتاج ما هو أبعد من المزايدات والمراوغات. فقد خرجت القاهرة من القمة لا لتعود إلى مربع الانتظار بل لتتحرك فى اتجاهات عدة ، تثبت أن وزنها الحقيقى لا يُقاس بالتصفيق داخل القاعات ، بل بقدرتها على إدارة الملفات الأكثر اشتعالا من غزة إلى السودان ومن ليبيا إلى البحر الأحمر. مصر لم تدخل القمة وهى تبحث عن دور بل دخلتها وهى تحمل رصيدا من خطوات سبقت الحدث. فمنذ شهور تتحرك القاهرة بثبات فى الملفات التى تمس الأمن الإقليمي: وقف الانهيار السودانى عبر التواصل مع جميع الأطراف ضبط الحدود الغربية رغم محاولات الانفلات الليبى ، إدارة معركة غزة باعتبارها الطرف الوحيد القادر على الجمع بين لغة المقاومة ومقتضيات التهدئة وحتى فى ملف المياه واللاجئين ظهرت مصر كلاعب يملك رؤية متكاملة لا تُختزل فى رد فعل عابر. لذلك لم يكن غريبا أن تبدو مشاركتها فى القمة وكأنها حضور رمزى أكثر من كونه انتظارا لقرارات. القاهرة تدرك أن المستقبل يصنع فى الميدان وفى الغرف الخلفية للدبلوماسية ، لا فى نصوص البيانات. ومن يتأمل ما بعد الدوحة يدرك أن مصر لم تخرج من الاجتماع مثقلة بالخيبات كما حدث مع آخرين بل خرجت وفى يدها ما هو أثمن: إثبات أن ما تطرحه هو الأجدى والأكثر واقعية. فهى الدولة الوحيدة التى ما زالت قادرة على الحديث مع كل الأطراف دون أن تخسر ثقة أى منهم؛ تتحدث مع واشنطن دون أن تقطع مع بكين أو موسكو ، تفتح خطوطا مع الخليج من دون أن تنغلق على نفسها أمام طهران تضع أمنها القومى فى الصدارة لكنها تدرك أن استقرار المنطقة شرط لبقائها قوية وراسخة. هذا التوازن المعقد ليس شعارا بل معادلة تتحقق فى السياسات اليومية من الاقتصاد إلى الأمن إلى الثقافة. الأهم أن لغة مصر فى هذه المرحلة ابتعدت عن خطاب الشجب الذى ظل يطغى على القمم العربية لعقود ، واتجهت إلى خطاب الفعل. فهى تترجم مواقفها إلى خطوات: من التوسع فى التبادل التجارى باليوان مع الصين لكسر احتكار الدولار إلى تعزيز قدراتها على الحدود الجنوبية عبر رسائل عسكرية واضحة ، إلى حضور ثقيل فى المحافل الدولية جعل العالم يتعامل معها كرقم أساسى فى كل ملفات المنطقة. هذه اللغة العملية هى التى تجعلها بعد الدوحة أكثر ثباتًا من كثيرين ممن اكتفوا بالشعارات. قد يحاول البعض أن يقلل من أثر القمة ويعتبرها مجرد مناسبة بروتوكولية لكن القراءة الأعمق تكشف أن الدوحة كانت كاشفة لا صانعة. فهى أبرزت التناقضات الحادة وكشفت أن العواصم التى ترفع الصوت لا تملك على الأرض ما يؤهلها لقيادة المشهد بينما بدت القاهرة صامتة نسبيا لكنها ممتلئة بأوراق القوة. ومن هنا يجيء التمايز بين دولة تدرك أن اللحظة تحتاج إلى عقل بارد وحسابات دقيقة، ودول تبحث عن صخب إعلامى يغطى فراغ المضمون. إن ما بعد الدوحة هو لحظة اختبار حقيقى للمنطقة كلها. فالملفات المشتعلة لا تحتمل رفاهية الخطب بل تحتاج إلى من يملك صبر التفاوض وصلابة الموقف. وهنا تظهر القاهرة كالمعادلة التى لا يمكن تجاوزها ليس فقط لأنها الأكبر عددا أو الأوسع جغرافيا، بل لأنها الحاجز الأخير أمام انزلاق المنطقة إلى فوضى شاملة. فأمن الملاحة يمر عبر قناة السويس وملف اللاجئين لا يحسم إلا عبر مواقفها وأمن الطاقة والغذاء يظل مرهونا بقدرتها على إبقاء خطوط التجارة مفتوحة ومستقرة. كل ذلك يجعلها حجر الزاوية الذى لا غنى عنه. وحين ننظر إلى المشهد بعين أبعد نكتشف أن مصر لا تراهن على قمة هنا أو هناك بل تراهن على استراتيجية أعمق: أن تكون نقطة التوازن فى إقليم يتفتت تحت ضغط القوى الدولية والإقليمية. وهذا الرهان يقتضى منها أن تبقى ثابتة مهما ارتفعت الأصوات أو تبدلت التحالفات. فهى تعرف أن التاريخ لا يذكر من رفعوا شعارات زاعقة فى لحظة ضجيج بل يذكر من صنعوا الفعل وقت الانهيار. إن القاهرة بعد الدوحة تبدو أكثر رسوخا لأنها لم تدخل سباق الاستعراض ولم تنزلق إلى خطابات التهديد الجوفاء بل ظلت على مسافة واحدة من كل الأطراف ، مدركة أن دورها ليس أن تكون جزءا من العاصفة بل أن تكون الصخرة التى تصطدم بها العاصفة فتنكسر. وهنا يكمن الفارق بين دولة تدير الإقليم بعقل الدولة الكبرى ، وآخرين ما زالوا أسرى حسابات اللحظة وضغط الجماهير. قد يكتب البعض أن قمة الدوحة لم تقدم شيئا جديدا وهذا صحيح إذا نظرنا إليها بمعيار الإنجاز المباشر. لكنها قدمت الكثير إذا قرأناها بعيون السياسة: فقد منحت القاهرة فرصة لإعادة إثبات دورها ليس بالكلمات بل بالفعل الذى يسبق القمم ويتجاوزها. ولذلك يمكن القول إن مصر بعد الدوحة ليست كما قبلها؛ فهى خرجت أكثر وضوحا فى صورتها أمام العالم وأكثر قدرة على رسم المسار وسط دخان العواصف. وفى النهاية يبقى السؤال الذى طرحته القمة ولم تجب عنه: من يملك أن يقود الإقليم وسط هذا الاشتعال؟ الإجابة جاءت بلا بيانات ولا خطب ، بل بحقيقة ساطعة: أن القاهرة هى وحدها التى تستطيع أن تظل واقفة حين يهتز الجميع وهى وحدها التى تحمى الثوابت وسط المتغيرات. وبعد الدوحة ترسخت هذه الحقيقة أكثر من أى وقت مضى لتبقى مصر الصخرة الصلبة فى زمن السيولة والميزان العاقل فى إقليم تحكمه العواصف.