فى خضم عاصفة الدم التى لم تهدأ منذ عامين على أرض غزة، وبينما يواصل الاحتلال الإسرائيلى عدوانه الأعمى على شعب أعزل اختارت القاهرة أن تقول كلمتها بوضوح: ما يحدث جريمة ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عليها. كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسى التى دوّت فى القمة الأخيرة لم تكن خطابا عابرا أو جملة دبلوماسية باردة بل جاءت كرصاصة وعى فى وجه آلة التضليل الإسرائيلية ورسالة ردع سياسى تجاوزت جدران القاعة إلى كل العواصم المؤثرة فى العالم. مصر، بتاريخها ومكانتها لم تعد مجرد طرف يتابع أو يعبّر عن قلقه بل باتت بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء صمام الأمان الوحيد الذى يملك الشرعية والقدرة على ترجمة غضب الشارع العربى إلى موقف دولى متزن يحفظ للقضية الفلسطينية مكانتها ويمنع تحويلها إلى ورقة ابتزاز فى لعبة المصالح. هذا ما جسّدته كلمات الرئيس حين خاطب الضمير العالمى قائلاً إن الجرائم لا يمكن أن تمر بلا حساب وإن الأمن الإقليمى لن يستقر طالما بقيت غزة تنزف. اللافت أن خطاب القاهرة هذه المرة لم يكن تقليديا. فبدل أن يقتصر على لغة التنديد أو الدعوة إلى التهدئة، وضع الرئيس محددات جديدة للمرحلة: لا تهجير، لا تصفية للقضية، لا تجاوز للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ثلاث لاءات بدت كجدار صلب فى وجه مخططات تُحاك فى الغرف المغلقة. وبهذا الموقف رسمت مصر "حدود الردع" السياسية ليس فقط مع إسرائيل بل مع كل من يراهن على إنهاك الفلسطينيين وتفكيك الإجماع العربي. هذه الرسائل لم تتوقف عند القاعة بل حملت أبعادا أعمق فى الإقليم. فمنذ سنوات تحاول بعض العواصم أن تملأ فراغ القيادة العربية عبر مبادرات شكلية أو وساطات موسمية. لكن التجربة أثبتت أن لا أحد يمتلك الوزن الذى تمتلكه مصر ولا أحد قادر على الجمع بين التاريخ والجغرافيا والسياسة مثلما تفعل القاهرة. حين يتحدث السيسى عن القضية الفلسطينية فهو لا يتحدث باسم دولة جوار فحسب بل بلسان أمة كاملة ترى فى مصر مرجعا وميزانا. وهنا تبرز المقارنة التى لا يمكن تجاهلها. ففى الوقت الذى انشغلت فيه بعض العواصم بتوظيف المأساة الفلسطينية لتسجيل نقاط على طاولة السياسة أو لتعزيز نفوذها الإعلامى جاءت كلمات الرئيس لتعيد التوازن إلى الخطاب العربي. لم يكن الحديث موجّهًا إلى إسرائيل وحدها بل إلى كل من يحاول المتاجرة بدماء الفلسطينيين. ومن هنا كانت الرسالة "تتجاوز الدوحة" وغيرها من المنابر التى تحاول احتكار الميكروفون لتقول إن الصوت الحقيقى يخرج من القاهرة لا من أى مكان آخر. القيمة الكبرى لهذا الخطاب أنه لم يكتف بالوصف أو التشخيص بل قدّم رؤية شاملة لمستقبل الصراع. فمصر لا ترى أن الحل يمر عبر المسكنات أو وقف مؤقت لإطلاق النار بل عبر العودة إلى أصل القضية: دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية. هذه ليست رفاهية سياسية أو مطلبًا تفاوضيا بل هى القاعدة الوحيدة لأى استقرار دائم. وكل ما عدا ذلك مجرد مضيعة للوقت وشراء للدماء. ولعل الأثر الأهم لرسالة القاهرة هو أنها عرّت زيف الخطاب الإسرائيلى أمام المجتمع الدولي. فحين تتحدث مصر عن الجرائم فإنها تستند إلى تاريخ طويل من الالتزام بالقانون الدولى وميثاق الأممالمتحدة. وبالتالى يصبح من الصعب على أى طرف أن يشيطن الموقف المصرى أو يتهمه بالانحياز. لقد حوّلت القاهرة كلماتها إلى مرجع أخلاقى يضع العالم أمام مسئوليته: إما أن يختار حماية المدنيين وحقوق الإنسان، أو أن يكشف عن وجهه الحقيقى ويمنح الاحتلال ضوءًا أخضر لمزيد من الجرائم. هذه القوة فى الخطاب لم تأت من فراغ. فهى ثمرة مسار متكامل تبنته مصر خلال السنوات الماضية من فتح معابرها للإغاثة إلى قيادتها وساطات ناجحة بين الفصائل، ومن دفاعها فى المحافل الدولية إلى تحذيرها المستمر من خطورة التهجير. كل ذلك جعل صوتها مسموعا لا باعتباره خطابا إنشائيا بل باعتباره امتدادا لسياسة عملية على الأرض. وهذه المصداقية هى ما يمنح كلمات الرئيس وزنها الحقيقى، ويجعلها محل متابعة واحترام. قد يقول البعض إن العالم اعتاد بيانات الشجب والاستنكار وإن كلماته قد لا تغيّر فى ميزان القوة الميداني. لكن الحقيقة أن السياسة لا تُقاس بالمدافع وحدها. أحيانا تكون الكلمة أقوى من الرصاصة لأنها تعيد صياغة الوعى وتحدد الإطار الذى تُقرأ فيه الأحداث. وهذا بالضبط ما فعلته القاهرة، رسمت حدودا جديدة للخطاب، وحددت معايير لا يمكن تجاوزها دون ثمن. وفى عمق المشهد يبقى البعد الإنسانى هو الأهم. فحين يتحدث الرئيس عن رفض التهجير فهو لا يدافع فقط عن الأرض الفلسطينية بل عن فكرة العدالة ذاتها. لأن القبول بتهجير الفلسطينيين يعنى فتح الباب لموجات تهجير أخرى فى المنطقة، ويعنى نسف قواعد القانون الدولى من أساسها. لهذا كان الموقف المصرى حاسمًا: لا قبول بأى عبث بالمصير لا اليوم ولا غدا. إنها لحظة فارقة فى تاريخ الصراع لحظة تعود فيها القاهرة إلى موقعها الطبيعى كقلب الأمة وصوتها. وما بين الضجيج الإعلامى فى بعض العواصم، والخذلان المتكرر من قوى دولية يبقى صوت مصر هو الأصدق والأقوى. لأنه يستند إلى مبدأ لا يتغير: أن الحق لا يسقط بالتقادم وأن الدم لا يمكن أن يصبح ماءً. لهذا فإن كلمات الرئيس لم تكن مجرد رد فعل على جريمة بل كانت تأسيسا لمرحلة جديدة تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية وتضع الجميع أمام مسئولياتهم. إنها ليست معركة شعارات بل معركة وعى ومبادئ. ومصر بلسان قائدها، قالت للعالم: نحن هنا، نحمل الأمانة، ونرسم حدود الردع، ونعرف تماما أن صوت القاهرة حين ينطق يتجاوز القاعات والدوحات إلى الضمائر الحية فى كل مكان.