بكلمات ساطعة وبموقف سيخلده التاريخ قالت مصر كلمتها على لسان رئيسها: «إن الحديث عن التوصل إلى السلام فى الشرق الأوسط، دون تسوية الصراع الإسرائيلى الفلسطينى.. هو لغو غير قابل للتحقق»، ولا يزال صوت مصر يتردد وزعيمها يؤكد: «لن يكون هناك سلام حقيقي، دون إقامة الدولة الفلسطينية.. و«أن السلام لن يتأتى بالقوة.. ولا يمكن فرضه عنوة». فى توقيت بالغ الدقة، انعقدت قمة القاهرة الطارئة للتباحث حول ما يجرى فى الأراضى الفلسطينية وما يُراد لها من أفكار خطيرة تقود إلى اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وتصفية قضيتهم، وحفلت القمة برسائل بالغة الأهمية لا ينبغى أن تضيع فى زحام التفاصيل وتطورات الأحداث. القمة بحد ذاتها كانت رسالة، التئام الصف العربى فى هذا التوقيت، وفى ظل تحولات إقليمية ودولية كبيرة كان عنوانًا مهمًا يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب الأولى والمركزية، وأن تعدد الجراح العربية فى السنوات الأخيرة لا يمكن أن ينسينا الجرح الفلسطينى النازف منذ أكثر من سبعة عقود. ■ ■ ■ القمة الطارئة جاءت فى ظل محاولات ومساعٍ خبيثة، تتجاوز كل ما عرفته القضية الفلسطينية من منعطفات، فالتحدى اليوم لا يتعلق بالتهام الاحتلال الإسرائيلى لبعض الأراضى الفلسطينية أو مساعيه المستمرة لاستهداف أبناء الشعب المناضل الصامد، والنيل من دمائهم ومقدراتهم، لكن المؤامرة اليوم أخطر وأعمق وأشمل، فالهدف هو تصفية القضية برمتها، وطى صفحة فلسطين مرة واحدة وإلى الأبد عبر تهجير شعبها، وإفناء أصحاب القضية بالموت تارة والحكم عليهم بالشتات تارة أخرى. وعلى طاولة القمة طرحت مصر رؤيتها انطلاقًا من ثوابت راسخة، باتت تمثل سبيكة متماسكة صهرتها الخبرات والتجارب والتاريخ المشرف فى دعم القضية الفلسطينية على المستويات كافة وطيلة عقود، وأول تلك الثوابت انحياز مصر رسميًا وشعبيًا للحق الفلسطيني، ففلسطين «مسألة عقيدة» بالنسبة لكل مصري، فضلًا عن أنها واحدة من أبرز مكونات منظومة الأمن القومي. الرؤية المصرية التى جرى طرحها خلال القمة اعتمدت أيضاً على إحاطة شاملة بكل أبعاد تلك القضية المعقدة، فمصر التى حاربت وقدمت آلاف الشهداء حماية لأرضها ودفاعًا عن قضايا أمتها، وفتحت طريق السلام فى الشرق الأوسط، وكانت المركز والقلب فى كل جهود بناء الدولة الفلسطينية، تدرك أكثر من أى طرف آخر فى المنطقة وخارجها، حجم التعقيدات التى يعانيها هذا الملف، ومن ثم فهى الأقدر دائمًا على التعامل مع كل خيوطه وفض تشابكاته، والخروج برؤية شاملة وموضوعية تراعى المصالح المتعارضة غالبًا بين القوى الفاعلة فيه. ولم يكن طلب فلسطين أن يكون الرئيس عبد الفتاح السيسى رئيسًا للقمة العربية غير العادية سوى تأكيد متجدد على حجم الثقة الفلسطينية والعربية فى قيادة مصر وإدارتها للعمل المشترك، ومساعيها التى لا تكل ولا تمل من أجل حماية الأمن القومى العربي، الذى تمثل تطورات المشهد الراهن فى المنطقة «تبديدًا لما تبقى من مرتكزاته»، وفق ما قال الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تشخيص بليغ لخطورة ما يواجهه عالمنا العربي. ■ ■ ■ القمة خرجت بالعديد من الرسائل والمكتسبات المهمة التى سيتم البناء عليها، وأول تلك المكتسبات التبنى العربى الإجماعى للخطة المصرية التى باتت الآن خطة عربية، فمشروع التهجير لم يعد هو الطرح الوحيد على الطاولة، بل أثبتت الخطة المصرية أن طرحًا بديلًا وواقعيًا قابلًا للتنفيذ يمكن تبنيه دوليًا بعد اعتماده عربيًا، وهو ما يملأ فراغًا كبيرًا أراد البعض استغلاله لتمرير مخطط التهجير الذى لا يمثل حلًا بل إشعالًا متعمدًا للأزمات وتفجيرًا مخططًا لحاضر المنطقة ومستقبلها. المكسب الثانى الذى حققته القمة يكمن فى أن الطرح المصرى لا يركز على لحظة الأزمة الراهنة، بل ينطلق منها إلى أفق أوسع يتعاطى مع أسباب الصراع ويلفت الانتباه إلى ضرورة التعامل مع جذور الأزمة إن أردنا حلًا شاملًا وبما يضمن ألا تضيع جهود إعادة الإعمار هباءً. بكلمات ساطعة وبموقف سيخلده التاريخ قالت مصر كلمتها على لسان رئيسها: «إن الحديث عن التوصل إلى السلام فى الشرق الأوسط، دون تسوية الصراع الإسرائيلى الفلسطينى.. هو لغو غير قابل للتحقق»، ولا يزال صوت مصر يتردد وزعيمها يؤكد: «لن يكون هناك سلام حقيقي، دون إقامة الدولة الفلسطينية.. و»أن السلام لن يتأتى بالقوة.. ولا يمكن فرضه عنوة». هذه مصر .. وهذا صوتها القوى المستند إلى الحق وإلى الضمير الإنسانى والقومى والأخلاقى الذى طالما كانت مواقفها عنوانًا له وسندًا حقيقيًا لدعمه، وهذه رؤيتها التى لم تتخل يومًا عن مساندة الحق الفلسطينى واحترام التزاماتها وثوابتها، وحماية إرادتها فى تحقيق السلام العادل والشامل، الرافض للمشاركة فى ظلم الشعب الفلسطيني، وكانت القاهرة دائمًا وستظل أبدًا الصخرة التى تتحطم عليها محاولات اختراق المنطقة والنيل من مقدساتها. ■ ■ ■ كلمات الرئيس السيسى القوية وهو يتحدث عن القدس بكل وضوح قائلًا: «إن القدس ليست مجرد مدينة.. بل هى رمز لهويتنا وقضيتنا»، جسدت موقفاً حاسماً من زعيم وطنى يدرك التزاماته التاريخية وثوابت بلاده الصلبة تجاه المقدسات العربية إسلامية ومسيحية، فمصر كانت عبر التاريخ حائط الصد الأول عن مدينة القدس ذات القيمة الروحية الكبيرة لأتباع الديانات السماوية كلها، وحرص الرئيس السيسى على الإشارة إلى القدس أمام القمة رسالة واضحة بأن ما يجرى فى غزة يجب ألا ينسينا أن القضية أكبر وأخطر، وأن محاولات طمس الحق الفلسطينى وتغيير هوية القدس هو اعتداء مرفوض على قضية أمة وانتهاك لهويتها. الإعلان المصرى عن استضافة قمة للمانحين من أجل إعادة إعمار قطاع غزة، رسالة أخرى بالغة الأهمية، فالتحرك المصرى لا يقتصر فقط على طرح الخطة أو حشد الدعم العربى لتبنيها، ولكن التحرك أوسع وأبعد مدى، ويستهدف وضع المجتمع الدولى أمام مسئولياته والقيام بواجباته الإنسانية والقانونية تجاه شعب أعزل خاضع للاحتلال، فضلًا عن الإعلان عن التنسيق المصرى الفلسطينى لتشكيل لجنة إدارية من الفلسطينيين المهنيين والتكنوقراط المستقلين، وكذلك تدريب مصر للكوادر الأمنية الفلسطينية، التى يتعين أن تتولى مهام حفظ الأمن داخل القطاع، خلال المرحلة المقبلة، كلها خطوات تجهض وتفند مزاعم وجود فراغ فى إدارة القطاع بعد انتهاء الحرب، وتجعل من خطة إعادة الإعمار وبقاء سكان القطاع فى أراضيهم طرحًا عمليًا قابل للتنفيذ، بل بدأ تنفيذه بالفعل. ■ ■ ■ وإذا كنا نتحدث عن قيام المجتمع الدولى بمسئولياته، فمن باب أولى أن يتم إلزام إسرائيل بمسئولياتها، ليس فقط بوصفها سلطة الاحتلال فى الأراضى الفلسطينية، بل باعتبارها الجانى والفاعل الأول فى جريمة الإبادة الجماعية لسكان القطاع والتدمير المتعمد لمرافقه. وهنا تأتى مسئولية الولاياتالمتحدة التى تمتلك أوراق الضغط الأهم والأقوى على الاحتلال الإسرائيلي، فلا ينبغى أن تضحى واشنطن بعلاقاتها مع المنطقة العربية والإسلامية بل وتعرض مصالحها مع كثير من شعوب العالم الرافضة للتعنت والإجرام الإسرائيلى بغية استرضاء حكومة متطرفة فى تل أبيب تدفع المنطقة كلها إلى مصير مظلم، بسبب انسياقها وراء مصالح حفنة من الشخصيات المتطرفة سياسيًا ودينيًا، ممن يسعون وراء أهواء شخصية وأوهام سياسية لا سبيل لتحقيقها إلا وسط بحر من الدماء!! على الولاياتالمتحدة أن تدرك وتقتنع بأن التسوية الشاملة وفتح أفق جاد وحقيقى لسلام عادل وشامل يقود إلى بناء دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، هو السبيل الآمن والمستدام لإنقاذ المنطقة من الفوضى التى تقود إليها حكومة التطرف فى إسرائيل، والتى تمثل سياستها وقودًا لإشعال المنطقة. هذا فضلا عن أن فتح الطريق لمسار سياسى حقيقى هو الإجابة الصحيحة على سؤال «اليوم التالي»، فلا التهجير ولا إشعال الصراعات الدينية ولا تغيير خرائط المنطقة هو الإجابة التى ستقود إلى الاستقرار، بل السلام الحقيقى القائم على احترام الحقوق المشروعة لشعب اغتصبت أرضه وأريقت دماؤه، ومراعاة مصالح نحو 500 مليون عربى ومن ورائهم مليارات من الداعمين للحق الفلسطينى هو ما يمكن أن يكون الإجابة الوحيدة القادرة على وقف الجنون الذى يجتاح المنطقة. أمام الجميع وعبر القمة الطارئة، قالت مصر كلمتها بوضوح وثبات وقوة سيخلدها التاريخ، وعلى العالم الآن أن يقول كلمته، أملًا فى أن يمحو بعضًا من العار الذى يلاحقه جراء صمته المخزى وتواطئه المهين مع جريمة ذبح شعب كل جريمته أنه يريد التحرر من احتلال بغيض، ويُراد اليوم لمن نجا من الذبح أن يُطرد خارج أرضه مكافأة للقاتل وترضية للجناة!!