سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مارسيل خليفة: لا أدرى إلى أين سيقودنى ولعى بلعبة الموسيقى والكلمات.. لدى إيمان كامل بالذوق العام والموسيقى فعل تلقائى لا يقبل الخداع والتدليس.. محمود درويش حى يتحدى الموت وصوته يوحى لى متحدثا من العالم الآخر
في أكتوبر 2014، تلقى الفنان مارسيل خليفة مفتاح مؤسسة جريدة الأهرام، احتشد حوله المحبون والإعلام، فغصت في بحرٍ من البشر، حاملا في قلبي مفردات أغانيه، ونغمات عوده، طامحا في لقاء أو كلمة، لكن شعبية الرجل الجارفة حالت دون ذلك. شيء داخلي، إصرار لا أعرف مصدره، دفعني لأتسلل بهدوء إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة، كطائر يحط على غصن بعيد عن الضجيج، وجلست أنتظر، وما إن دخل مارسيل رفقة أحمد السيد النجار رئيس مجلس الإدارة حتى أُغلق الباب على عالمنا الثلاثي، في مفاجأة رسمت الدهشة على وجهيهما، عرفتهما بنفسي، وطلبت حوارا صحفيا ل جريدة وموقع اليوم السابع، نظر إلى مارسيل بتقدير، منحني صورة معه، ووعدني بلقاء حينما يكون هناك متسع للكلام، وعد من رجل يعرف وزن الكلمة. بعد 11 عاما، ساقتني الصدفة وتقابلنا في هولندا بمدينة لاهاي عاصمة السلام والعدالة، اتفقنا على موعد للحوار، وقد كان، في بهو فندق عتيق، يقيم به على هامش حضوره مهرجان هولندا لأفلام الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ذكرته بوعده، وأريته الصورة القديمة التي جمعتنا قبل سنوات، ضحك بتودد، وتذكر ذلك الشاب الذي تسلل يوما بين الحشود، تعجب من تغير ملامحي، بينما بقي هو وكأن الزمن وقف احتراما لعوده وأغانيه. كانت ليلة هولندية قارصة بالمعنى الحرفي، السماء صافية لكن البرد قارص، ارتديت ثيابا ثقيلة، وتلحفت كوفية حاكتها زوجتي بحب، شعرت بالبرد، لكن دفء كلمات مارسيل كان كافيا لتبديد كل برودة العالم. وجدته طائرا حرا طليقا.. حديثه شعر، وصمته موسيقى، كل كلمة تخرج منه مرتبة واضحة، كأنه يكتب قصيدة، أسأله، فأسمع إجابة تشبه العزف المنفرد على عوده الخشبي.. عميقا، مؤثرا، يلامس الروح. في البداية سألته كيف يحتفظ بروح الطفل رغم سنوات عمره الطويلة، كيف يقف شامخا على المسرح كالمحاربين، وفي الكواليس طفل يلهو ويلعب. لم يفاجئني رده، فهو يرى أن الطفولة جزء أصيل من موسيقاه، يلبسها جمالية ربما لا وجود لها على أرض الواقع، واصفا إياها بأنها حلم يبتكره ليتغلب على الأوضاع الراهنة الثقيلة. حملني مارسيل في رحلة إلى عالمه، واصفا إياه بالبيت البسيط الصغير، الواسع رغم ضيقه، متذكرا أول عمل قام بتأليفه على ورقة بيضاء مسطرة بالمدرج الموسيقي، ومستعيدا ذكريات الممحاة التي لم تسلم من كتابة النوتات الموسيقية عليها. وعن الاختلاف بين ما يعيشه الآن وما عاشه في طفولته، قال إنه اليوم يبحث عن موطئ قدم في زحام العالم والتاريخ، معتبرا ذلك التحدي الأصعب، وهو كيف يحقق ذاته بشكل مميز وسط هذا الزحام، متذكرا أيام الصغر عندما كان يجرؤ على الكتابة دون معرفة بكل ما يتعلق بالصوت والإيقاع. واختتم حديثه عن الطفولة، مقتبسا من هوامشه التي يكتبها: "كنت أحب الموسيقى وكان جدي يحبها أيضا، وكنت أسمع منه وأشاطره نفس الحب، ما جعلني أقلد ما أسمعه منه وأكتب على منواله، وقد لاقى ذلك تشجيعا من والدتي، لم أكن أعرف أنني في يوم من الأيام سأصل إلى مرحلة الاحتراف، إذ كنت أظن أنها ستبقى هواية، لكني كما أحب أن أقول دوما، ما زلت أتردد بين الهواية والحرفة، لأكون هاويا ومحترفا في وقت واحد". وعن اكتشاف موهبته وكيف بدأ في التعرف على نفسه، قال خليفة: "كنت على وعي بالحس الموسيقي، أنجذب للأصوات وتحديداً صوت جدي في جلسات الطرب، فهو صاحب صوت عذب ويجيد العزف على الشبابة". يعيد خليفة الفضل في كونه موسيقيا إلى والدته ماتيلدا، قائلاً إنه لولاها لما وصل إلى ما هو عليه، فهي من اكتشفت رغبته في تعلم الموسيقى ودعمته في ذلك. تذكر، كيف كان صوت والدته عذبا، ترنم له ترنيمة ممتلئة بالحب العظيم كل ليلة لينام في مهده. يصف الموسيقار صوت والدته بالغامض الممزوج بصوت الريح القادم من ناحية البحر، متذكرا رحلته بين المطارات والمدن البعيدة، ورحيلها قبل أن تشهد على مسيرته المليئة بالنجاحات وتعيش حصاد دعمها وإيمانها به وبموهبته. تأثر الفنان اللبناني في طفولته بصوت الغجر في خيامهم مع البزق والغناء والرقص الغجري الذي يصفه بالساحر، وبالأغاني البدوية وهو أمر لا يخفيه بل يشكل جزءاً من وجدانه، يعجز الزمن الطويل عن إسكات تلك الأصوات في داخله، كما لا يزال يحتفظ بصوت غناء أولاد الحي على إيقاع "التنك" والعلب الفارغة في قرية عمشيت، حيث حفظ أصوات الفلاحين والبحارة. وعن رؤيته لعالم الموسيقى اليوم وكيف يرى الذوق العام في ظل ما نسمعه من ألوان موسيقية يختلف عليها البعض، قال مارسيل خليفة إن الموسيقى فن للجماعة وليس للقلة، وعلى صانع الموسيقى أن يجد لغة متجددة مع تجدد الزمن، فلا بد أن يجد معادلة تستطيع أن تجد طريقا إلى الناس، وإذا لم تصل فلا يجد غضاضة في أن يذهب إليهم ويعتذر. وأضاف: "الناس بداية الموسيقى ونهايتها، البوصلة التي تحدد لي الاتجاه، والموسيقي الذي لا جمهور لموسيقاه فهو موسيقي ضاع منه عنوان الجمهور"، مشيرا إلى إيمانه الكامل بالذوق العام، الذي يقبل على العمل الفني أو يهمله. ويرفض مارسيل تصنيف الفنان، ورغم إطلاق العديد من التصنيفات عليه وعلى فنه، إلا أنه يرفضها جميعاً، قائلاً إنه لا يحب تصنيف الفنان إلى فنان ثوري أو فنان غزل أو فنان فخر أو فنان حماسة، يرفض أن يحدد له الآخرون صفته وهويته مسبقاً، مضيفاً: "إني لا أؤمن بشيء كإيماني بالحرية، ولا أكره شيئاً ككراهيتي لكل ما من شأنه الحد من حريتي، ولو كان نابعاً من المحبة، فما قيمة الفنان عندما يريده الناس كما يريدون هم، لا كما يريد هو أن يكون، وإلى أي مدى يستطيع الفنان تلبية رغبات الناس دون أن يتجرد من لغته وحريته". مارسيل فنان ثائر حقا، ولكن هل يمكن اختزال مشواره في كونه ثائرا فقط؟ يجيب الموسيقي اللبناني: "بالطبع لا"، موضحا أنه يثور ويهدأ، ويحب ويكره، ويصرخ في أعماله كالمجنون ويهمس كالطيف. ويضيف أنه لا يتملق الجمهور ولا يستجدي التصفيق، ويفضل حريته على إعجاب الناس به، فهو يعيش في أرق دائم ولا يخضع لأي مساومة تخص فنه أو أي شيء آخر. كثير من الفنانين يدعون مصدر إلهام معين، وعن مصدر إلهامه وما إذا كان شيئا ملموسا، قال مارسيل خليفة مكررا مقولته الشهيرة: إنه لا يعرف كيف يكتب الموسيقى، مثلما لا تعرف السمكة كيف تسبح. يشرح وجهة نظره قائلا: "الموسيقى عملية تلقائية، تنبع من داخل الموسيقي، مثلما تنبع المياه من قلب الصحاري"، مؤكداً أن رصيده الشعبي يعود إلى كونه لا يقبل الخداع والتدليس الفني. يكمل: "العالم بحاجة للموسيقي الحقيقي الذي لا يشبه أحد سوى نفسه، المبتكر للغة تخصه وفقط، وقتها يكون قادر على الوصول لوجدان الجمهور، وعندما يصل إلى ذلك يكون قد نجح". يخشى كثير من الفنانين انحسار الأضواء، لكن مارسيل خليفة كان له رأي آخر، فهو يخشى الوقت، يقول إنه ينتبه اليوم إلى الوقت أكثر من أي زمن مضى، ويشعر بإحباط شديد إذا مر يوم دون عمل، وهو ما يجعله في بحث دائم عن العمق والجوهر والموسيقى المستحيلة. تحدث مارسيل خليفة عن الأرق، وعندما سألته عن السبب، ذكر بوضوح "القلق"، وفسره بكونه الجانب الأهم في الفعل الوجودي، قائلاً: "القلق الفردي ناجم عن ضرورة حرية الإرادة عند الإنسان، ذلك الأرق المتأجج في معظم الحالات بأحاسيس دينية أو غربة أو مرض أو ربما فقر، القلق صلب الإبداع، والتمرد على الظلم والعنف من أجل تحقيق الغاية الإنسانية التي تؤكد كرامة الفرد". حرص مارسيل خليفة على انتقاد الحياة السياسية دون تسمية أين وكيف ولماذا، قائلا: نحن في أمسّ الحاجة إلى سلامة الفكر وإلى الصفاء في الوقت الذي شكلت السياسة طغيان على كل مناحي الحياة. ويضيف: "الفنان اليوم يعيش فترة صعبة، ناقمة على تاريخه، والسبيل الوحيد للنجاة هو التمرد وعدم ترك نفسه وفنه يقع فريسة سهلة للمذاهب". ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعي بكافة أشكالها هي وسائل طاحنة، واصفاً من يحاول أن يقف على رجليه وسط كل هذا الابتذال بأنه يجب أن يكون شجاعاً ليتمكن من رؤية مصير الإنسان رؤية نافذة وخلاقة. عن المشهد الموسيقي في الوطن العربي، قال إننا لا نزال نعاني شحا في الإبداع رغم كثرة في الإنتاج، ومن المفترض أن نمهد الطريق للمبدعين ثم نتفق أو نختلف على ما يقدمه. دفعني فضولي لمعرفة قواعد الكتابة الموسيقية لمارسيل خليفة، كيف يستعد وكيف يجهز نفسه، ليكشف مارسيل أنه يفضل العفوية، فهو لا يتعب روحه في التمسك بالقواعد، يؤلف الموسيقى ويعد لها من الأفق المزين ما استطاع، ويكتب الموسيقى على ورقة النوتة بحبر سري، يكتب ما يسمعه على حد قوله. جمهور الشاعر الفلسطيني محمود درويش يفتقده ويفتقد جديده، فما هو الحال بالنسبة لمارسيل الذي شاركه المجد؟ يقول مارسيل عن صديق عمره محمود درويش إن صوته يوحي له وكأنه يتحدث من العالم الآخر، كأنه حي يتحدى الموت. يكمل حديثه عن صديق عمره "درويش" فيقول: "أنه منذ 49 عاما وحتى الآن يقرأ ويردد شعر درويش، حيث يقرأ شعر درويش بلا حد أو عد، يقرأ حتى النوم ولكنه وجد في قصيدة جدارية الكثير من الأسرار ما جعلها هدفا لتحويلها بالكامل لعمل موسيقي. وعن صعوبة تحويل قصيدة محمود درويش "جدارية" المكونة من 53 صفحة إلى عمل موسيقي، قال مارسيل: "لازمت العمل على القصيدة، لم يثنيني عن ذلك شيء، أتأمل قصيدة جدارية وأسجل في سكينة ما يتجلى على من معان، لا أدير وجهي عن العمل على الجدارية بالساعات، انعزل تماما وأغلق أذني عن مشتتات هذا العالم ومتجردا من الزمان والمكان، أقرأ وأعيد القراءة ولو ضل بيت طريقه للتلحين المبدئي أعيد صياغته من جديد. وحول المدة التي استغرقها مارسيل في "الجدارية" وتحويلها إلى عمل موسيقي، قال: مضت سنة، ومع أنني أنجزت كثيراً من العمل، لا أدري إلى أين سيقودني ولعي بلعبة الكلمات وإيقاع الموسيقى. وعن وصف تحويل "الجدارية" إلى عمل موسيقي بأنه ضرب من الجنون، قال مارسيل: "لقد استولت علي حالة من الوله، غرقت في التأمل: أليست الكلمة مرافقة للنغمة إلا بمنطق الفلسفة؟ ألا ينتج من اتحادهما إلا الديمومة والتحول والوجود والحركة والتغير؟ الوردة والأسى، المرأة والجمرة، المرج والموج، الريح والشمس والمطر والحصاد، الحياة والموت؟ لقد أنهكتني الجدارية وأمعنت في تعذيبي وأنهكت قواي وحرمت جفني من النوم". يكمل مارسيل: "قرأت في الجدارية اسمي، قرأت لوحة الحياة والموت لأقود شمعة في ظلمة فراغ مرهق، ولأمنح الأشياء معناها، ولأقهر خوفي المكنون كي لا يضيع الليل مني وتنطبق الجفون، وحتى لا يطوقني الحصار طويلاً فتتبدد أنا ومحيطي وتطاردني الشكوك. حين أعيى، أعود لأقرأ ثم لأكتب، أستمع إلى دقات موسيقى الجدارية كمن يستمع إلى دقات قلب جنين، أرى معالمها وحركاتها ومقاماتها". مارسيل خليفة وعلي الكشوطي
مارسيل خليفة
مارسيل خليفة
مارسيل خليفة: لا أدري إلى أين سيقودني ولعي بلعبة الموسيقى والكلمات