أبوظبي : احمد عنانى وسط حضور كبير جدا أتى من مختلف إمارات الدوله، قل أن نرى مثيلا له في الأمسيات الثقافية، استعرض الفنان مرسيل خليفة تجربته مع الشاعر الراحل محمود درويش التي كانت بداية انتقال للأغنية العربية من عالم الإنفعال السلبي إلى مجال العقل الإيجابي، لتتردد في الأفق البعيد، وتولد بألحان جديدة مثل تنهيده مثل همسة، لتتشابك الإرادة والحرية والفكر في ومضة تشع لحظة "سقوط القمر" على حد تعبير الفنان مرسيل خليفة. جاء ذلك مساء أمس الإثنين الموافق 11 مارس 2013م في أمسية نظمها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بمقره في أبوظبي بالتعاون مع جمعية البيارة الثقافية التي تشكلت نواتها عام 2002م في أبوظبي، لتكون الأمسية باكورة التعاون بين الجهتين كما قال الشاعر محمد المزروعي رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات فرع أبوظبي في تقديمه للفنان مرسيل خليفة. قرأ الشاعر محمد المزروعي كلمة كتبها الشاعر محمود درويش بعد سماعه إسطوانة مرسيل خليفة الأولى 1976م التي تضمنت أربع أغنيات من شعره، قال فيها (لعل أغنية مرسيل خليفة هي إحدى الإشارات القليلة إلى قدرة الروح فينا الآن على النهوض، فعندما كنا نستثني التعبير الثقافي من شمولية ما تعرض له الموقف العربي من انهيار عام كنا ندافع عن أمل شخصي في حماية منطقة من الروح يصعب اجتياحها بالدبابة أو بالعزلة، لقد أغلق القلب حتى صرنا ندهش من تحمل عصفور سماء، وسط هذا الخراب كانت أغنية مرسيل خليفة تنتشل القلب والأجنحة من الركام، كانت قوتها الهشة هي قوة الحياة في حصار السؤال والجواب، فيها وجدنا قوة المأخوذين إلى الموت على الغناء وعلى إبداع مستوى للواقع نمتلك فيه حرية افتقدناها فيما سبق من كلام وإيقاع. وأضاف في كلمة درويش كنت على سبيل المثال أعلن لأمي الحب من زنزانة ولكن لم تدرك هي ولا أنا أدركت فعالية هذا الإعتراف إلى أن فضحته أغنية مرسيل خليفة، الذي ردم الهوة التي وسعها الشعراء بين القصيدة والأغنية وأعاد إلى العاطفة المغيبة حضورها المنقذ للمصالحة بين الشعر الذي مجد ابتعاده عن الناس وانصرفوا عنه وهكذا طور الشعر أغنية مرسيل خليفة كما طورت أغنية مرسيل خليفة علاقة الشعر بالناس ومعه صار الشارع يغني ولم يعد الكلام بحاجة إلى منبر كما لا يحتاج الخبز إلى مكبر صوت). وقال الفنان مرسيل خليفة بمناسبة صدور رائعته "سقوط القمر" التي تضمنت على ثمانية عشر أغنية : لا سبيل لدي إلى المعنى إلا أن أغمره في الأغنية أكثر فأكثر أدخل في الأغنية إلى مالا ينتهي لأدافع عن الغامض السحري في القصيدة، لا بد من الرغبة والحسرة والقسوه والثورة والنداء والشعر والصمت والتذكر والنسيان والحب، أصابعي يا محمود علقتها على مشارف الوتر في "سقوط القمر" وكتبت لك جهرا بيان الأغنيات هذه، أبحث عنك في الأغنية وفي كل ما لدي من الموسيقى المعدة لتطرية الأيام الصعبة بعد جرعتين من جرار نبيذ الحب. وحول وداعه للشاعر الكبير محمود درويش أضاف الفنان مرسيل خليفة (لم أقل له الوداع لأنني كلما هممت بنطقها في آخر مكالمة تلفونية كان يشدني بصوته الواثق كي نتابع الحديث، كان في صوته شهية كلام وكان في وداعي شهية صمت، كان تلفونا قصيرا كتحية بحاره، رافقتك السلامة كانت هذه عبارته الأخيرة، تصبحون على وطن. كما تحدث الفنان مرسيل خليفة عن بداية علاقته بالقضية الفلسطينية، وعلاقته مع العود ورحلته في تلقي دروس الموسيقى حيث كان في السادسة عشرة من عمره يأتي من ضيعته (عمشيت) إلى بيروت مرتين في الأسبوع ليدرس الموسيقى بجانب الدروس العادية، وأثناء هذه الرحلة كان يرى المخيمات الفلسطينية وبيوت التنك على مداخل بيروت وفي ضواحيها وفي ذلك العمر الفتيّ لم يكن يعرف شيئا عن فلسطين، ثم بعد ال 67 بدأ يعي هذه القضية ويوليها كل اهتمامه حيث دخل في معترك النضال مع الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية. وحول بداية تلحينه لقصائد محمود درويش قال ذهبت إلى باريس هاربا من الظروف السياسية والتقيت كوكبة من الأصدقاء والشباب الوافدين حديثا أو المقيمن بداعي الدراسة أو بداعي السياسة ورحت بخجل وتردد أعرض بعضا من تجاربي الموسيقية الشعرية الأولى، شاب متحمس أخرق يريد أن يجعل الموسيقى سبيلا لتغير العالم، أن يخفف الألم والبؤس والفقر والحروب، أن يشعل ثورة مدعوما بوتر العود والقصيدة الجديدة، كان الأصدقاء يسمعونني ويهزون برؤوسهم ربما لم يدركوا يومها تماما ما هو مشروعي، وكان داخلي مشحونا بالتمرد، وفي سنة 1976م سجلت في إحدى استديوهات باريس (وعود من العاصفة) أولى أغنياتي لقصائد محمود درويش قبل أن أتعرف عليه شخصيا وقد تضمنت هذه الأسطوانه أربع أغنيات من شعر درويش ولم يخطر في بالي أبدا أن هذا اللعب سيصبح جديا إلى هذا الحد، وبعد عودتي من باريس كان اللقاء الأول مع درويش لقاء حميميا في حديث الموسيقى والشعر أو حديث للموسيقى وللشعر، كان محمود نبيلا ومفعما بقلب كبير اقتربت منه ومن روحه واتسعت موسيقتي لشعره، تأتي قصيدته بكامل سطوتها للتحرك مع إيقاعي وتملا الفضاءات. وأضاف مرسيل خليفة بعد الخروج الفلسطيني من بيروت سنة 82 م في ذكرى التضامن مع الشعب الفلسطيني التقيت ومحمود درويش في قاعة الأونيسكو في باريس حفلة ثنائية بين الشعر والموسيقى، تلا يومها قصيدة "سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح" وتابعت بعده "أحن إلى خبز صوتك، أحن إليك يا أمي". وعن أمسية قرطاج في تونس قال مرسيل خليفة كان ألوف المستمعين ينشدون صامتين وكان حاضرا محمود درويش في الأمسية مع خمسة عشر ألف متفرج، وفي اليوم التالي لتلك الحفلة الشهيرة حضرت أمسيته الشعرية وكنت في الصف الأمامي فرحب بي معلقا (نرحب بشاعر الأغنية مرسيل خليفة) وعلا التصفيق في الصالة، وعقب الأمسية تجولنا في أسواق العاصمة القديمة، وفي المساء دعانا أبوعمار لمائدته. وأضاف مرسيل خليفة لقد توالت لقاءاتنا الباريسية وكان حماس درويش لتلحين غنائية أحمد الزعتر ولقد أطلقت على العمل لاحقا اسم أحمد العربي، وهكذا صدرت الاسطوانه وحقق العمل انتشارا كبيرا وكان نقلة نوعية في علاقتي مع قصيدة محمود درويش. وعن تجربتهما في أغنية (أنا يوسف يا أبي) قال مرسيل خليفة كان الحكم بدعوى تحقير الشعائر الدينية بسبب هذه الأغنية وبقدر ما كنت مسرورا باصطفاف المحبين بمختلف شرائحهم حولي كنت حزينا لإجباري على تغير موقعي من مدافع عن كرامة الشهداء إلى مدافع عن أغنية تمثل الذين تركونا نموت تحت ضرب الطيران، وتساءلت آنذاك كيف يمكن لقوى أن تأخذ فنانا إلى المحكمة بوصفه متهما بينما هو يغني للحب وللحرية ويسعى صادقا إلى التعبير عن مجتمعه وحاضره، ولم أكن أعرف ما إذا كان قوس المحكمة الذي وقفت أمامه هو قوس انتصار للحرية أو قوس هزيمة للمستقبل، وعلى أثر هذه المحاكمة شارك درويش في أمسية تضامنية في مركز سكاكيني وألقى كلمة تدعم الموسيقى والشعر وأعلن باسم وزارة الثقافة الفلسطينية تقديم جائزة القدس لي. وفي الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين جاء محمود إلى بيروت وقدمنا أمسية مشتركة في قاعة الأونيسكو، ألقى جداريته وقدمت تقاسيم، وفي اليوم التالي ذهبت معه إلى مخيم صبرا وشاتيلا لوضع باقة من الورد على أضرح الشهداء. سنة 2002م كان الحدث بتكريم محمود درويش كأهم شاعر معاصر في العالم العربي بجائزة لينون الأمريكية في جامعة فيلادلفيا وقد دعيت للمشاركة في هذا الاحتفال بناء على دوري في إيصال شعر محمود درويش للعامه وجعله بمتناوله، وقدم الاحتفال المفكر الفلسطيني العربي إدوارد سعيد، وفي عام 2005م منحت لقب فنان الأونيسكو للسلام وكان محمود بجانبي فرحا بهذا اللقب. وفي عام 2007 م حصلت على جائزة أكاديمية (شارل كروس) لعمل تقاسيم المهدي لمحمود درويش المستوحى لأشعاره ولقد تم الاحتفال على مسرح راديو فرانس حيث تسلمت الجائزة وكانت تحية عارمة أيضا للشاعرمحمود درويش. وفي ختام الأمسية في مقر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات فرع أبوظبي وقع الفنان مرسيل خليفة لجموع غفيره من الحضور على إصداره (سقوط القمر) الذي أهداه إلى صديقه ورفيق رحلته الجميلة بكل ما فيها من أمل وألم الشاعر محمود درويش، ليذهب ريع هذا الإصدار لدعم ومساندة أطفال فلسطين، وتنتهي تلك الأمسية الاستثنائية الرائعة بصوت الفنان مرسيل خليفة يشدو لمحبيه (أحن إلى خبز أمي)، ويذكرهم معا بيوم الثقافة الفلسطيني الذي يصادف في 13-مارس وهو تاريخ ميلاد الشاعر الكبير الحاضر الغائب محمود درويش.