حين يُذكَر مارسيل خليفة يتداعى إلى الذاكرة صوت عودٍ وحيد يقاوم صخب المدافع، صوت رجلٍ أعاد إلى الموسيقى العربية طهارتها الأولى، وجعل من الغناء طريقًا نحو الحرية. لم يأتِ من قاعات القصور ولا من أبراج النخبة، جاء من بيتٍ على شاطئ «عمشيت»، حيث البحر يتحاور مع الصخور، وحيث تنسج الريح قصائدها الخفية فوق شرفات البيوت القديمة. في تلك البيئة البسيطة نما صوته، كما تنمو شجرةٌ في تربةٍ مشبعةٍ بملح البحر، ليصبح لاحقًا ظلًا وارِفًا يلتقي تحت أغصانه جيلٌ كاملٌ من المستمعين العرب. مارسيل خليفة ليس فنانًا تقليديًا يُغني للترفيه، إنه مشروع إنساني طويل النفس، حمل العود كما يحمل المقاتل بندقيته، واختار أن تكون الأغنية معركة جمالية في مواجهة الخراب. لم ينشد للحب كغناء عابر، ولا للوطن ككلمة فارغة، لكنه جعل الحب والحرية والوطن نسيجًا واحدًا يُغني به من أجل الإنسان. في زمنٍ ملوثٍ بالشعارات المعلبة والأنغام السريعة، قدّم أغنيةً مختلفة، أغنيةً تعيد الاعتبار للكلمة، وتمنح المستمع لحظةَ شجن فيما وراء الواقع المباشر. لقد كان صوته استجابة لحاجة جماعية لم تُعلَن لكنها كانت تعيش في وجدان الناس: حاجة إلى فنانٍ يترجم آلامهم وأحلامهم، ويربطهم بخطاب شعري متجدد، ويرفع رءوسهم من تحت ركام الهزائم. مارسيل هو ذلك الصوت الذي يتسرب إلى المسام كالماء العذب، ثم يشتعل في القلب كشرارةٍ لا تنطفئ. عبر ألحانه صارت قصائد محمود درويش جزءًا من الذاكرة اليومية للناس، وصار صوت العود شريكًا في المظاهرات والساحات، شاهدًا على أن الفن يمكن أن يكون معادلًا للمقاومة. ومع ذلك، لم يحبس نفسه في إطار الأناشيد وحدها، بل تجاوز إلى آفاق إنسانية أوسع: غنّى للطفل وللعاشق وللمنفى، وجعل من موسيقاه لغةً كونية تتجاوز الجغرافيا. ولعل سرّ فرادته يكمن في هذا التوازن الدقيق: أن يظل فنانًا ملتزمًا بقضايا شعبه، وفي الوقت نفسه مبدعًا يبحث عن الجمال الخالص، عن الموسيقى بوصفها فضاءً رحبًا يَسعُ العالم كلّه. من هنا يمكن القول إن تجربة مارسيل خليفة ليست مجرد مسار موسيقي، إنها سيرة أمةٍ في لحظة بحثها عن صوتٍ يجمع بين الجرح والأمل، بين الحلم والانكسار. إننا أمام موسيقيّ لم يكتفِ بأن يُرضي الأذن، لكنه فتح نافذةً على معنى أن يكون الفن طريقًا إلى الكرامة الإنسانية. البدايات والطفولة الموسيقية تبدأ الحكايات الكبيرة غالبًا من تفاصيل صغيرة لا يلتفت إليها أحد. هكذا كانت بداية مارسيل خليفة. وُلد في "عمشيت"، تلك البلدة البحرية التي لا تفصلها عن البحر سوى خطوات قليلة. هناك، حيث الأمواج تصفق كأنها أوركسترا الطبيعة، وحيث رائحة الملح تندمج مع أصوات الباعة في الأسواق، تشكّلت ذاكرته الأولى. لم يكن الغناء في تلك البيئة ترفًا، بل كان جزءًا من حياة يومية تُنسج بالخيط الرفيع بين العادات والطقوس الشعبية. الأم تغني لطفلها لينام، الفلاحون يرددون مواويلهم في مواسم الحصاد، والبحارة يطلقون أصواتهم العميقة ليواجهوا صمت البحر اللامتناهي. في هذا الجو الشعبي الغني بالإيقاع، اكتشف الصبي الصغير أن للأصوات حياة، وأن النغمة ليست مجرد متعة، بل وسيلة للبقاء. كان يتأمل كيف يتحول الموال إلى عزاء جماعي في الأوقات الصعبة، وكيف تصبح الأغنية فرحًا جماعيًا في الأعراس. شيئًا فشيئًا، صار يسمع في هذه الأصوات أكثر مما يسمعه غيره، كأنه يمتلك أذنًا ثالثة قادرة على التقاط ما وراء الصوت: الإحساس، الحنين، الشوق. حين التقى بالعود للمرة الأولى، بدا وكأنه يعثر على صديقه الذي كان يبحث عنه منذ زمن. تلك الآلة التي تشبه جسرًا خشبيًا صغيرًا، استطاعت أن تفتح أمامه أبواب عوالم جديدة. لم يتعامل معه بوصفه أداة موسيقية عادية، فهو تعامل معه كجسد حيّ يتنفس ويشكو ويحلم. بدأ يعزف عليه بتواضع المتعلم، ثم شيئًا فشيئًا صار العود بين يديه كائنًا آخر يردّ على أسئلته. وفي اللحظات الأولى التي انطلقت فيها الأوتار بنغمة خجولة، شعر مارسيل أن الموسيقى ليست اختيارًا بل قدرًا. في معهد الموسيقى في بيروت، وجد نفسه أمام عالم آخر، عالم الأكاديمية والانضباط الموسيقي. لكنه لم يفقد أبدًا ذلك الطفل الذي كان يستمع إلى البحر في "عمشيت". ظل البحر يسكن عزفه، وظل صدى المواويل الشعبية يتخفى وراء تدريباته الصارمة. لقد جمع بين التراث الحيّ والتقنيات الحديثة، بين الحس الفطري والدرس الأكاديمي. وهذا الجمع المبكر هو ما سيمنحه لاحقًا فرادته، إذ لم يكن أسير المناهج وحدها، ولا سجين العفوية وحدها، بل كان يزاوج بين الاثنين في تناغم نادر. كان محيطه الاجتماعي فقيرًا بالمال، لكنه ثريّ بالحكايات. وفي مثل هذه البيئات تنمو المواهب الكبرى. فالفقر الذي يضيّق الخيارات يفتح الخيال على احتمالات واسعة، والشحّ المادي يجعل من اللحن ملاذًا روحيًا. مارسيل الطفل كان يراقب الناس من حوله: وجوه الكادحين في الحقول، أيدي النساء المتعبة، وجوه الصيادين الذين يواجهون البحر كأنه خصم أبدي. كل ذلك كان يدخل في ذاكرته ويجد طريقه إلى أوتار عوده. لم يكن يدري حينها أنه يعدّ نفسه لمسار سيجعل منه واحدًا من أبرز الأصوات الموسيقية في العالم العربي. لكنه كان يشعر أن شيئًا ما يدفعه دفعًا نحو هذا الطريق. كان كمن يتتبع خيطًا خفيًا يقوده من طفولة "عمشيت" إلى مسارح العالم. وهذا الخيط لم يكن سوى إيمانه الداخلي بأن الموسيقى قادرة على أن تكون أكثر من صوتٍ جميل، قادرة على أن تكون حياة كاملة. هكذا وُلدت البدايات: من بيت صغير على البحر، من أغنية أم، من موال فلاح، من صدى الريح في المرفأ. تلك العناصر التي تبدو بسيطة هي التي شكّلت الأساس العميق لمشروع فني سيكبر ويتمدّد حتى يغدو جزءًا من ذاكرة أمة كاملة. لقد كان الطفل الذي حمل العود في قريته الصغيرة لا يدرك أنه سيحمل لاحقًا همّ الملايين، لكنه كان يعرف، بالفطرة، أن اللحن الذي يخرج من قلبٍ صادق لا بد أن يجد مكانه في قلوب الآخرين. الشعر شريك الموسيقى منذ اللحظة التي التقى فيها مارسيل خليفة بالشعر العربي الحديث، وجد نفسه أمام مرآة تكشف عمق روحه، وتمنحه اللغة التي كان يبحث عنها ليوازي بها صوته الموسيقي. لم يكن الشعر عنده مجرد كلمات تُضاف إلى اللحن لتصير أغنية، بل كان نصًا يُعطي للموسيقى معنى أبعد من حدود التطريب. هنا بدأ ذلك الحوار السري بين الكلمة والوتر، بين القلم والعود، بين الشعر والموسيقى، الذي سيشكل لاحقًا أحد أعمدة مشروعه الفني. لقد أدرك مارسيل أن الموسيقى وحدها، مهما كانت بليغة، تظل في حاجة إلى الكلمة كي تنفذ إلى الضمير الجمعي. كما أدرك أن الكلمة وحدها، مهما كانت قوية، تحتاج إلى جناحين كي تطير إلى قلوب الناس. ومن هنا جاءت شراكته مع الشعر، لا كشراكة تقنية، بل كزواج روحي بين نصٍ يبحث عن صدى ولحنٍ يبحث عن معنى. في هذا السياق، كانت مصادفته لمحمود درويش نقطة تحول فاصلة. ففي قصائد درويش وجد ذلك المزيج الذي كان يحلم به: لغة مشبعة بالمجاز، لكنها أيضًا تنبض بالواقع اليومي؛ شعر يكتب عن الحب لكنه لا يغفل الوطن، يكتب عن الفقد لكنه يستحضر الأمل. وحين التقى صوت مارسيل بأشعار درويش، بدا كأن القدر قد خطط لهذا اللقاء منذ زمن طويل. لم يكن مارسيل يضع قصيدة درويش على اللحن كما يفعل ملحنون آخرون، بل كان يدخل إلى عمق النص، يستمع إلى إيقاعه الداخلي، يحاور كلماته كما لو كانت ألحانًا مخفية، ثم يخرج منها بلحن يعكس روحها الحقيقية. لذلك حين غنى الناس قصائد درويش بصوته، لم يكونوا يشعرون أنهم يرددون شعرًا مجردًا، بل كانوا يعيشون تجربة كاملة، تتحد فيها الكلمة باللحن في جسد واحد. لقد حول مارسيل قصائد درويش إلى جزء من الذاكرة العربية المشتركة. صار الأطفال يرددون أبياتها في الساحات، وصار العمال يسمعونها في المصانع، وصارت الأغنية وسيلة لتداول الشعر في حياة الناس اليومية. وبذلك حقق ما لم يحققه النقد أو التعليم: جعل الشعر مادة شعبية، متاحة للجميع، لا حكرًا على النخبة. لكن علاقته بالشعر لم تتوقف عند درويش وحده، بل امتدت إلى نصوص شعراء آخرين، ليؤكد أن مشروعه ليس مشروع شاعر واحد، بل مشروع الشعر نفسه حين يلتقي بالموسيقى. غير أن حضور درويش ظل الأكثر عمقًا، لأنه كان يختصر في قصائده الجرح الفلسطيني والضمير الإنساني معًا، وهو ما ينسجم مع رؤية مارسيل للفن كجسر بين الوجع والأمل. ومن هنا نفهم أن مارسيل خليفة لم يكن ملحنًا للشعراء فقط، بل كان صديقًا لهم، رفيقًا في رحلة الكشف عن معنى الحرية والجمال. لقد التقى بهم عند النقطة التي يتقاطع فيها الفن بالحياة، حيث يصبح الشعر موسيقى، وتصبح الموسيقى شعرًا. وبفضل هذه الرؤية، ارتقت الأغنية الملتزمة من خطاب سياسي مباشر إلى خطاب إنساني شامل، يكتب عن الوطن كما يكتب عن العاشق، وعن الفقد كما يكتب عن الحلم. الأغنية الملتزمة كهوية لم يكن مارسيل خليفة مجرد ملحّن يرافق الشعر، ولا مغنٍ يبحث عن شهرة عابرة. لقد كان يعي منذ خطواته الأولى أن الفن موقف، وأن الأغنية ليست أداة للتسلية فقط، بل وسيلة لكشف الحقيقة، وصوتًا للذين لا صوت لهم. ومن هنا اتخذ طريقًا وعرًا، طريق الأغنية الملتزمة، الذي جعله في قلب صراع ثقافي وفكري ظل ممتدًا على مدى عقود. الأغنية الملتزمة، في جوهرها، ليست مجرد نص يتحدث عن الوطن أو الحرية، بل هي فعل مقاومة ضد التهميش والنسيان. مارسيل فهم هذا العمق، وأعطى للأغنية بُعدًا يتجاوز المباشرة والخطابية، فجعلها مساحة للكرامة الإنسانية. لقد كان يؤمن أن الفن حين ينفصل عن قضايا الناس يفقد روحه، وحين يقتصر على الترفيه يفرّغ نفسه من معناه. لذلك جاءت أغنياته كنداءات جماعية، تحرك الضمير وتعيد بناء الانتماء. في السبعينيات والثمانينيات، حين كان المزاج العام العربي مثقلًا بالهزائم، وحين كان الصوت السياسي المباشر عاجزًا عن إقناع الناس، ظهر مارسيل كمن يجدّد الثقة في الأغنية بوصفها شكلًا من أشكال النضال. غنّى في الساحات، في الجامعات، في المعتقلات، وجعل من صوته جزءًا من حناجر الجماهير. لم يكن حضوره على المسرح حضور نجم، بل حضور شاهد على عصره، يشارك الناس آلامهم بدل أن ينفصل عنهم. واجه بسبب هذا الخيار ضغوطًا كثيرة. فقد اتُّهم بالتسييس المفرط، وجرى التضييق عليه في أكثر من بلد عربي، بل ووقف مرات عدة أمام المحاكم بسبب مضامين أغنياته. لكنه ظل ثابتًا على قناعته أن الأغنية الملتزمة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية، وأن الفنان إذا لم ينحز إلى الحرية فإنه ينحاز ضمنًا إلى القمع. وهنا يتجلى البعد الأخلاقي في مشروعه: أن الغناء ليس حياديًا، لكنه ما أن يكون مع الإنسان أو ضده. لكن ما يميز مارسيل أنه لم يحوّل الالتزام إلى خطابية جافة، بل جعله التزامًا جماليًا أيضًا. كانت أغنياته مشبعة بالشعر، محمولة على لحن عميق، تُصاغ بوعي موسيقي يزاوج بين الأصالة والتجديد. بهذا الشكل، لم يكن المستمع يشعر أنه أمام نشيد سياسي فحسب، بل أمام عمل فني متكامل، فيه جاذبية الجمال بقدر ما فيه من قوة المعنى. وهكذا استطاع أن يجعل من الأغنية الملتزمة فنًا مقبولًا عند النخبة والجماهير معًا. حين ننظر إلى تجربة مارسيل خليفة ككل، لا نرى مجرد فنان صنع ألحانًا وغنّى نصوصًا شعرية، بل نرى مشروعًا إنسانيًا متكاملًا عاش في قلب العواصف العربية، واستطاع أن يجعل من الفن مساحة للحرية، ومن الغناء فعلًا من أفعال المقاومة. لقد بدأ مساره من الجنوب اللبناني، من بيئة مثقلة بالفقر والاغتراب والاحتلال، لكنه لم يرضَ أن يكون مجرد شاهد على الألم. كان يرى في العود وسيلة لتغيير العالم، وفي الأغنية نافذةً يُطلّ منها الناس على ما هو أوسع من قهرهم اليومي. ومع الزمن، صار صوته يشبه خيطًا ممتدًا بين قلوب الملايين، يجمعها حول فكرة أن الفن قادر على أن يردّ الكرامة المسلوبة. إن إرث مارسيل خليفة ليس إرثًا فنيًا فحسب، فهو إرث أخلاقي أيضًا. لقد أصرّ على أن الفنان لا يمكن أن يقف على الهامش، وأن الحياد في زمن الظلم خيانة. ومع ذلك، لم يختزل الأغنية في السياسة وحدها، بل وسّعها لتشمل أفق الإنسان كله: وجعه، فرحه، حبه، غربته، حلمه. لذلك لم يُحبَّه الناس فقط لأنه غنّى للوطن، بل أيضًا لأنه غنّى لقلوبهم وأوجاعهم الصغيرة، التي لا تقل أهمية عن جراح الأمة الكبرى. وإذا كان الفن يُقاس بقدرته على البقاء، فإن أغاني مارسيل أثبتت خلودها. فما زالت ترددها الأجيال الجديدة كما لو كُتبت اليوم، وما زالت تحتفظ بقوة المعنى رغم تبدل الأزمنة. لقد صارت أغنياته مثل شجرة وارفة، يلتجئ إليها كل من تعب من العتمة، وكل من يريد أن يصدّق أن الغناء قادر أن يفتح نافذة على الضوء. مارسيل خليفة هو شاهد على عصره، وصوت يتجاوز عصره. غناؤه لم يكن أبدًا ترفًا أو هروبًا، بل كان فعلًا مستمرًا ضد النسيان، ومحاولة دائمة لحماية الذاكرة من التبديد. إنه الفنان الذي اختار أن يحمل همّ الناس في صوته، وأن يمزج الحلم باللحن، وأن يجعل من الموسيقى مكانًا مشتركًا نعيد فيه اكتشاف أنفسنا. في النهاية، حين نكتب عن مارسيل خليفة، فنحن نكتب عن إمكانية الفن في أن يكون وطنًا آخر، عن الصوت حين يتحول إلى ذاكرة أمة، وعن اللحن حين يصبح سلاحًا للكرامة. وربما لهذا سيبقى اسمه محفورًا في الوجدان العربي، ليس فقط كفنان عظيم، ولكن كحارس للأمل في زمن يحتاج إلى من يذكّره أن الحرية تبدأ أحيانًا من أغنية.