إن ذكرى السادس من أكتوبر المجيد ليست مجرد صفحة عابرة من صفحات النصر العسكري في تاريخ الأمة المصرية والعربية فحسب، بل هي عنوان بارز على معادلة أعمق وأدق، رسختها الشريعة الإسلامية منذ فجر الرسالة، وهي أن القوة في حقيقتها ليست وسيلة للبطش أو العدوان، ولا أداة للطغيان أو السيطرة، وإنما هي أمانة ومسؤولية، ورسالة وواجب، ووسيلة لتحقيق السلام العادل وصيانة الحقوق ودفع الظلم عن الإنسان والأوطان، وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى العظيم في قوله تعالى، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]. إن هذا التوجيه الإلهي، أخي القارئ الكريم، جاء ليجعل من إعداد القوة تكليفًا شرعيًا وضرورة واقعية، ولكنها قوة منضبطة بالعدل، محدودة بحدود الأخلاق، موجهة لرد العدوان وصون الكرامة، حتى لا تتحول إلى وسيلة لظلم أو أداة لفساد، وهكذا كان الإعداد للقوة في الإسلام ضمانة لحفظ السلام واستقراره، لا مدخلًا لإشعال الحروب أو الاعتداء على الآخرين، وإذا تأملنا جوهر القوة في التصور الإسلامي وجدناه يتجاوز بكثير حدود السلاح والقدرة العسكرية إلى أبعاد أوسع وأعمق تبني الإنسان والأمة معًا أولًا: قوة الإيمان: وهي التي تمنح الفرد ثباتًا في مواجهة التحديات، وتصنع في الأمة طاقة معنوية لا تُقهر، وإيمانًا بالنصر لا يتزعزع، قال تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، فالقوة هنا تبدأ من الداخل؛ من يقين لا تهزه العواصف، ومن ثقة بالله تبعث في القلوب الاطمئنان وفي النفوس الثبات. ثانيًا: قوة الوحدة: فالأمة المتفرقة لا تقوى على صمود ولا تملك قرارًا مستقلًا، أما إذا توحدت القلوب والصفوف كان النصر حليفها، وبرزت قوتها في أبهى صورها، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، والوحدة هنا ليست شعارًا نظريًا، بل هي حقيقة عملية تصنع من المجتمع كيانًا متماسكًا قادرًا على مواجهة التحديات. ثالثًا: قوة العلم والتخطيط فالنصر لا يُنال بالعاطفة وحدها، ولا تتحقق الإنجازات الكبرى بالشجاعة الفردية فحسب، وإنما بالعلم المدروس والخبرة المتراكمة والخطط المحكمة، وقد ظهر ذلك في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان للتخطيط المسبق الدور الحاسم، كما ظهر في عبقرية التخطيط المصري لحرب أكتوبر، حيث اجتمع الإيمان الراسخ مع الإعداد العلمي المنهجي، فكان النصر المبين الذي أذهل العالم كله. لقد جسدت حرب أكتوبر المجيدة هذه الأبعاد الثلاثة في أبهى صورها وأوضح معانيها؛ فإيمان الجندي المصري بعدالة قضيته كان وقود المعركة، وصبره على التضحيات كان عماد النصر، ووحدة الصف بين الجيش والشعب جعلت الأمة كلها تقف على قلب رجل واحد، فاندفع الشعب بجميع فئاته داعمًا جيشه بكل ما يملك، حتى صارت الحرب معركة أمة بأكملها لا جيشًا وحده، ثم جاء دور العلم والتخطيط الدقيق الذي أدار به القادة العسكريون هذه الملحمة، فكانت النتيجة أن أُعيد للأمة هيبتها، واستعاد العرب ثقتهم بأنفسهم، وأدرك العالم أن "الجيش الذي لا يُقهر" يمكن أن يُقهر أمام إيمان صادق، ووحدة متينة، وتخطيط واعٍ. ولذلك فإن السادس من أكتوبر لم يكن يومًا للحرب فحسب، بل كان مدخلًا لسلام كريم، سلام يصنعه الأقوياء ويحفظه العدل، سلام يرسخ قاعدة أن السلام لا يحميه إلا من يملك القدرة على صيانته، فالإسلام ينظر إلى الحرب باعتبارها وسيلة استثنائية تُفتح بها أبواب السلام العادل، لا باعتبارها غاية قائمة بذاتها، وقد تحقق ذلك عمليًا بعد حرب أكتوبر حين صار السلام خيارًا قائمًا على الندية لا على الاستسلام، وعلى الكرامة لا على الخضوع، فكانت الحرب معبرًا إلى سلام عادل يستند إلى القوة التي صاغها الإيمان والعلم والوحدة. واليوم؛ ونحن نستعيد ذكرى أكتوبر المجيدة، فإننا مدعوون جميعًا إلى استلهام هذه المعاني الكبرى، لا في ميادين الحرب فقط، بل في ميادين الحياة كلها، أن نستلهم قوة الإيمان التي تقي شبابنا من الانجراف وراء الشبهات والشهوات، وتجعلهم أكثر وعيًا وصلابة، وأن نرسخ قوة الوحدة الوطنية التي تجعلنا نتجاوز الخلافات الضيقة ونرتفع فوق المصالح الصغيرة لنلتف جميعًا حول مصلحة الوطن العليا، وأن نستثمر في قوة العلم والابتكار التي تمكّننا من بناء اقتصاد قوي، ومؤسسات متينة، ودولة عصرية قادرة على المنافسة في عالم يتغير بسرعة هائلة، وأن نتمسك بقوة الأخلاق التي تحصّن مجتمعنا من التفكك والانحراف، وتبني أجيالًا راشدة قادرة على حمل الأمانة. ولا يقف أثر أكتوبر عند حدود الذاكرة التاريخية أو الانتصار العسكري وكفى، بل يظل حاضرًا في وجدان الأمة ودروسها الممتدة، فمصر اليوم تواجه تحديات لا تقل خطورة عن تحديات الأمس؛ من أزمات إقليمية ودولية تعصف بالمنطقة، إلى صراعات فكرية وثقافية تستهدف وعي الشباب وهويتهم، وهنا يبرز الدور نفسه الذي برز في أكتوبر، قوة الجيش درعًا للوطن، وقوة الشعب سندًا له، وقوة الإيمان والعلم دافعًا لتحقيق التنمية والحفاظ على الاستقرار، ومن هنا فإن انتصار أكتوبر لم يكن نهاية معركة، بل كان بداية وعي جديد بأن الأمم لا تُصان إلا باليقظة الدائمة، وأن معارك البناء لا تقل شأنًا عن معارك التحرير، وأن الجندي في ميدان القتال يقابله العامل والمفكر والعالم في ميادين الإنتاج والمعرفة، وكلهم على قلب وطن واحد، يصنعون مستقبلًا آمنًا كريمًا لمصر وللأمة كلها. ورسالتنا إلى شباب مصر اليوم أن يكونوا بحق أبناء أكتوبر في حاضرهم ومستقبلهم، أن يصنعوا انتصاراتهم في ميادين العلم والمعرفة كما صنعها آباؤهم في ميادين القتال، وأن يجعلوا من وحدتهم وتفوقهم وتماسكهم سدًا منيعًا أمام الدعاوى المغرضة، وأن يجعلوا من تفوقهم العملي والعلمي رصيدًا لبناء وطن متماسك يليق بمصر وتاريخها، فالأوطان لا تُصان إلا بالأقوياء، ولا تنهض إلا بجيل يعرف أن القوة ضرورة وجودية، وسند لصناعة السلام العادل، وضمانة لمستقبل كريم. حفظ الله مصر وجيشها وشعبها، ووقاها الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجعلها دائمًا في طليعة الأمم قوةً وسلامًا، وعزًا وتمكينًا. مفتي الجمهورية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم