الاعتراف الدولي من 10 دول جديدة، من بينها فرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال هو انتصار للحق الفلسطيني في إقامة الدولة المستقلة ودعم حل الدولتين واقتناع العالم بأن الحل لدوامة العنف وإرهاب الدولة الصهيونية وحرب الإبادة والتجويع التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني هو مبدأ حل الدولتين لتحقيق سلام عادل وشامل في المنطقة. لكن الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية أمس الأول– وإن جاء مشروطا – يمثل أهمية خاصة ودلالة سياسية ذات خصوصية تاريخية في سردية الصراع العربي الفلسطيني منذ نهاية القرن التاسع عشر. فبريطانيا هي صاحبة الوعد الشهير والمعروف ب"وعد بلفور" عام 1917 بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين الواقعة تحت الحماية العثمانية على الرغم من أن اليهود لم يمثلوا سوى نسبة 3-5% من إجمالي السكان. الوعد جاء في رسالة بعث بها وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العظمى وإيرلندا. وأعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق وكانت البداية للإسراع في تهجير اليهود الى فلسطين وتشكيل عصابات صهيونية ارتكبت مجازر دموية في القرى والمدن الفلسطيني بدعم أوروبي وبريطاني على وجه الخصوص واستمر الحال حتى قيام دولة الكيان الصهيوني في 15 مايو عام 1948. واعتبر هذا الوعد نصرا كبيرا لزعيم الصهاينة في المملكة المتحدة حاييم وايزمان الذي أصبح في ما بعد أول رئيس لدولة إسرائيل، وبذل جهودا كبيرة في اتجاه تحقيق هذا الوعد الذي شجع اليهود على الهجرة الى فلسطين وسلب أراضي الشعب، وأدى إلى ما يُعرف ب"النكبة الفلسطينية" وتهجير نحو 760 ألف فلسطيني من أرضهم. وبقى هذا الوعد المشئوم هو أصل الصراع المزمن في منطقة الشرق الأوسط والسبب الرئيسي في ضياع حقوق الشعب الفلسطيني، لتصبح بعده القضية الفلسطينية وجع في الضمير الإنساني العربي والعالمي و"ظلم وذنب وجريمة سياسية" تطارد بريطانيا من شعوب العالم الحر. بعد 108 أعوام من وعد بلفور يأتي كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني بوعد جديد أو بإعلان اعتراف رسمي بالدولة الفلسطينية كخطوة سياسية مهمة في دعم حل الدولتين والضغط على إسرائيل لوقف الحرب على غزة والالتزام الجاد بحل الدولتين كمسار للسلام والتوقف عن ضم أراضي الضفة الغربية. الاعتراف البريطاني له ثقله السياسي من بين حوالي 159 دولة من أصل 193 عضواً في الأممالمتحدة اعترفت بالدولة الفلسطينية، فبريطانيا الحليف الأوروبي الأكبر للولايات المتحدة الأميركية والراعي التاريخي السابق للدولة الصهيونية والداعم الدائم والاستراتيجي لها، بالتالي يأتي اعترافها بالدولة الفلسطينية تحولا غير مسبوق في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، واعترافا متأخرا بالظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين، وأن عليها مسئولية تاريخية بتصحيح خطيئة تاريخية بالوعد المشئوم، وهو ما صرح به وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي خلال مؤتمر الأممالمتحدة بشأن التسوية السلمية لمسألة الدولة الفلسطينية وتطبيق حل الدولتين بالقول بأن "تاريخنا يعني بأن بريطانيا يقع على عاتقها عبء خاص من المسؤولية لدعم حل الدولتين" في تلميح إلى فترة الانتداب.وتحدّث لامي عن "ظلم تاريخي يتكشف أمامنا باستمرار لأن وعد بلفور جاء بوعد صريح (بأنه لن يؤتي بعمل من شأنه أن يضر بالحقوق المدنية والدينية) للشعب الفلسطيني كذلك لم يُحترم". المفارقة -كما يقول مؤرخون- يقول مؤرخون أن بريطانيا عقب الثورة العربية في فلسطين في منتصف الثلاثينات اضطرت إلى إعادة تقييم سياستها في فلسطين التاريخية، فنظمت مؤتمراً في لندن وأصدرت عام 1939 وثيقة "الكتاب الأبيض" الذي قيّد بيع الأراضي لليهود في فلسطين التاريخية، كما قيّد هجرتهم خلال خمس سنوات تبدأ من أول أبريل 1939. وتعهّدت بريطانيا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في غضون السنوات العشر التالية - إذا أمكن ذلك - على أنْ يتقاسم فيها الفلسطينيون واليهود مهام السلطات الحكومية. لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح وضاعت الحقوق الفلسطينية. الاعتراف البريطاني الأخير يعزز من مكانة فلسطين في المؤسسات الدولية ومن شرعية المطالب الفلسطينية على الساحة الدولية ويأتي تحت ضغوط هائلة من الراي العام البريطاني الضاغط على حكومته في ظل الوضع الراهن، والدمار والقتل والتجويع في قطاع غزة، وتصاعد العنف في الضفة الغربية، وخطط التهجير والضم في المنطقتين وأنه حان الوقت للتخلص من "الذنب والعقدة والظلم التاريخي" الذي ارتكبته بريطانيا منذ أكثر من 100 عام. وأكد ستارمر في وعده أن الاعتراف البريطاني لن يكون "رمزياً فقط"، بل جزءاً من استراتيجية أوسع لدفع الأطراف نحو تسوية سياسية عادلة. تأكيدا فقد أزعج هذا الاعتراف البريطاني إسرائيل وأثار غضب اليمين المتطرف الحاكم برئاسة بنيامين نتنياهو وبن غفير وسيموتريتش واعتبروه يقوض فرص السلام في المنطقة ومكافاة " للإرهاب"...في حين وصفت السلطة الفلسطينية هذا الحدث باليوم التاريخي. بصورة عامة يحمل الاعتراف بدولة فلسطين طابعاً رمزياً مهما بلا شك، فهو يمثل موقفاً أخلاقياً وسياسياً قوياً، خاصة بعد حرب الإبادة الإسرائيلية المدمرة على غزة. ويفتح المجال لفتح السفارات، وتبادل السفراء بين فلسطين والدول المعترفة بها، ويعزز حضور الدولة الفلسطينية في المحافل الدولية. ويشكل ضغطاً دولياً على الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو، الذي يتعرض لانتقادات وضغوطات في الداخل الإسرائيلي. ويبقى السؤال مطروحا... هل هذه الاعترافات هي تحول استراتيجي حقيقي في الموقف الدولي للبدء في إعادة الحقوق للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. فالاعتراف البريطاني المؤثر سيشجع دولا آخرى في تحالف الكومنولث للاعتراف بالدولة الفلسطينية مثل جنوب أفريقيا وماليزيا والهند ونيجيريا. الرهان الحقيقي هنا بعد موجة الاعترافات هو طبيعة وشكل الإجراءات التي ستتبع هذه الخطوة، ومدى استعداد المجتمع الدولي، وخاصة الدول المؤثرة، لترجمتها إلى سياسات ملموسة تساهم للضغط على إسرائيل في وقف الحرب وإنهاء الاحتلال وتحقيق السلام العادل والاعتراف بالدولة الفلسطينية.