فى زمن تتسارع فيه التحولات وتتصادم فيه المصالح وتختلط فيه الحقائق بالأوهام أصبحت الحروب لم تعد مجرد مدافع تدوى أو طائرات تقصف أو جيوش تتحرك على الأرض. إن أخطر ما تواجهه المنطقة اليوم ليس فقط صراع السلاح، بل ذلك الصراع الخفى الذى يدور داخل العقول حيث تتحول الأفكار إلى ساحة حرب أوسع من أى ميدان وأخطر من أى معركة عسكرية. إنها معركة الوعى التى تحدد اتجاهات الشعوب وتوجه خياراتهم وتصنع حاضرهم ومستقبلهم. لقد أدركت القوى الكبرى أن السيطرة على الأرض لا تكفى وأن كسب المعركة فى الميدان قد يكون بلا جدوى أن لم يقترن بالسيطرة على الوعى الجمعى. من هنا تحولت أدوات القوة الناعمة، من إعلام ومنصات رقمية ومراكز أبحاث إلى أسلحة أخطر من الصواريخ والدبابات. فى لحظة ما قد تُهزم دولة عسكريا لكنها قادرة على النهوض مجددا إذا ظل وعى شعبها متماسكا. لكن إذا انهار هذا الوعى فلن تجدى نفعا كل الترسانات ولن تستطيع أى قوة أن تعيد بناء مجتمع فقد ثقته بنفسه ورؤيته لمستقبله. ولعل ما نشهده فى منطقتنا اليوم يعكس هذا بوضوح. فالمشروعات التى تسعى لتفكيك الدول لا تبدأ من الحدود بل من داخل العقول. يُعاد تشكيل الصورة الذهنية للمواطن العربى عبر إعلام موجّه وحملات تضليل ضخمة واستخدام ممنهج لوسائل التواصل الاجتماعى، حيث تتحول الأكاذيب إلى حقائق متداولة ويصبح الخداع أشد وقعا من أى غارة عسكرية. أن الغزو الثقافى والفكرى يتسلل بهدوء بلا ضجيج لكنه يترك جراحا أعمق من أى معركة بالسلاح. فى قلب هذا المشهد تبرز مصر كاستثناء. فمنذ سنوات طويلة وهى تدرك أن الحرب على وعى مواطنيها لا تقل خطورة عن الحرب على حدودها. لذلك كان الاستثمار فى الإعلام الوطنى وفى التعليم وفى نشر الخطاب الدينى الوسطى وفى بناء مؤسسات الدولة جزءا من معركة أشمل لحماية المجتمع من الانهيار أمام حملات التشويه والتضليل. لقد تعرضت مصر لموجات متلاحقة من حروب الشائعات وأمواج من الأكاذيب المنظمة لكن ما يحسب لها أنها استطاعت أن تحافظ على عقلها الجمعى، وأن تصون إدراك شعبها لحجم التحديات التى تحيط به. وهنا يبرز سؤال جوهري: لماذا تُشن هذه الحرب على وعى المنطقة؟ الجواب أن الشعوب الواعية قادرة على مقاومة أى محاولة للهيمنة، وقادرة على بناء نموذجها الخاص. أما الشعوب المضللة فهى أرض خصبة للتدخلات الخارجية وبيئة مثالية لنمو التطرف والفوضى. لذلك لم يكن غريبا أن تتحول أدوات الإعلام والتكنولوجيا إلى ساحات رئيسية لصناعة الرأى العام وأن يتم استغلال قضايا اللاجئين أو الأزمات الاقتصادية، أو حتى الرياضة والفن، كأدوات لخلق صورة ذهنية معينة، تشوّه الحقائق وتخدم مصالح محددة. فى مقابل ذلك يظل التحدى الأكبر أمام دول المنطقة هو كيفية الاستثمار فى بناء وعى صلب متماسك قادر على التمييز بين الحقيقة والزيف. فالوعى ليس مجرد معرفة بل هو قدرة على قراءة الأحداث فى سياقها وعلى إدراك خيوط اللعبة الخفية. وهنا تبرز أهمية الإعلام المسؤول والتعليم القائم على التفكير النقدى والثقافة التى تُحصّن المجتمع ضد محاولات الاستقطاب والتشويه. إن المنطقة اليوم تقف على أعتاب مرحلة فارقة. فإما أن تكون قادرة على إدارة هذه المعركة الفكرية وتحصين شعوبها من الانزلاق وراء حملات التضليل وإما أن تصبح رهينة لصراعات الآخرين. ومصر بما تملكه من تاريخ وحضارة وثقل سياسى وثقافى مؤهلة لأن تكون رأس الحربة فى هذه المعركة ليس فقط لحماية نفسها بل لحماية المنطقة بأكملها. فالوعى المصرى الذى مر بتجارب تاريخية هائلة قادر على أن يكون صمام الأمان فى وجه محاولات إعادة صياغة الشرق الأوسط وفق أجندات خارجية. لقد شهدنا فى العقود الماضية كيف يمكن لحرب الوعى أن تُسقط أنظمة ودولا دون طلقة واحدة. رأينا كيف يمكن لشائعة أن تُحدث شرخا فى الثقة بين الشعوب ومؤسساتها. ورأينا كيف تتحول مواقع التواصل إلى جبهات كاملة تُشن فيها معارك نفسية تفوق فى أثرها ما تفعله الجيوش. وفى هذا كله درس بليغ أن الحرب الحديثة لا تُقاس بعدد الصواريخ الموجهة بل بعدد العقول المستهدفة. إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط جيوشا تحمى الحدود بل عقولًا يقظة تحمى الحقائق. نحتاج إلى خطاب عقلانى راق يواجه الدعاية المضادة بلغة الحجة والبرهان لا بلغة الانفعال والشعارات. نحتاج إلى إعلام يعرف كيف يخاطب وجدان الناس ويستعيد ثقتهم بدلا من أن يترك فراغا يملؤه الآخرون. نحتاج إلى مؤسسات قادرة على مواكبة سرعة العصر الرقمى حيث تنتشر المعلومة أسرع من أى رصاصة وتتحول الأكاذيب إلى قناعات أن لم تجد من يواجهها فى لحظتها. حرب العقول أخطر من حرب السلاح لأنها تحدد مصير السلاح نفسه وتحدد اتجاه الجيوش على الأرض. هى معركة وجودية تمس جوهر الهوية والانتماء. وإذا كانت مصر قد نجحت حتى الآن فى أن تحمى وعى شعبها وسط دوامة العواصف، فإن الرهان الحقيقى هو على المستقبل: كيف نرسخ ثقافة وعى دائم لا يتأثر بالموجات الطارئة ولا تنال منه حملات التشويه مهما كانت كثافتها؟ الجواب يكمن فى أن الوعى لا يُبنى بقرار فوقى بل يتشكل عبر تراكم طويل من التعليم، والإعلام، والثقافة، وتجارب الشعوب نفسها. وهو ما يعنى أن معركة الوعى ليست آنية بل ممتدة، وهى التحدى الأعمق والأخطر فى أن واحد. لكن ما يمنحنا الطمأنينة أن شعوب هذه المنطقة، وفى مقدمتها مصر تمتلك رصيدا حضاريا عميقا، يجعلها قادرة على الصمود والتجدد مهما حاول الآخرون أن يسرقوا منها وعيها أو يشوهوا صورتها. إن السلاح قد يحسم معركة حدود لكن العقول هى التى تحسم مصير أمة. والوعى هو خط الدفاع الأول والأخير الذى إن سقط سقط كل شيء. أما إذا بقى صامدًا فلن تستطيع قوة فى العالم أن تُسقط أمة تعرف حقيقتها وتعى طريقها وتتمسك بمستقبلها.