تعرف القضايا أهلها ويعرفونها، مهما اختلطت الأمور أو اشتد الزحام فى المُلمّات. وعندما يتدافع الناس بالمناكب، تتعلّق الأبصار على آحاد منهم، ربما لأن لهم سابقة خبرة ودليل، أو لأنهم يتحركون بإيقاع يختلف عن غيرهم، لا تعوزه البصيرة ولا تُربكه الفوضى، يقرأ بوعى ويفحص بعمق، ويرى ما لا يراه الآخرون دائما، والأهم أنه يتحضر للمفاجآت استباقيا، ويأخذها بحقها من دون إفراط ولا تفريط. قبل سنتين تقريبا غاص الجميع فى لجج الطوفان؛ لكن مصر ارتقت أعلى موجة فيه، وأخذت تُحذر من القادم المجهول، وما يُعَد له فى كواليس الاحتلال حالما يستفيق من هول الصدمة، ويعمل على توظيفها فى تدفيع سرديته الملفقة، والتماس غاياته التى أُرجئت طويلا؛ لكنها لم تُنحَّ عن باقة الخيارات قطّ ذُهل القريب والبعيد بعملية الغلاف، واحتُبس أبناء اللحظة فى دائرة النار المؤطرة بحدود غزة، ووقفت القاهرة مبكرا تقول إنها حرب لها ما بعدها، وتُصلّب دفاعاتها الناعمة والخشنة، لأنها أطلّت على المشهد من عَلٍ، واستبصرت منه ما يتخطّى ثنائية نتنياهو والسنوار، ونطاق الاشتباك بين المقاومة والاحتلال على إسقاط جدار الردع أو تعليته من جديد. اعتبرت الأغلبية داخل فلسطين وخارجها، وفى القلب منها حركة حماس، أنها ستكون مجرد جولة لا تختلف عن سوابق الجولات. صفعة قاسية يُرد عليها بطعنة أو ضربة كاسرة، ثم تعود الأوضاع إلى حالها تحت سقف التوازنات المعتادة، والتى من طول استقرارها والاستثمار فيها، توهّم الرومانسيون من الفصائل الأصولية وأجنحة الممانعة أنها راسخة مؤبدة، ولن تتزحزح ركائزها، أو ينزاح الصهاينة فيها عن القائم الواضح، إلى بديل غامض الماهية والملامح. ومع انصراف الجهود كلها إلى محاولة تطويق الحريق المستجد، واحتواء آثاره الإنسانية على الغزيين المنكوبين. ذهب خطاب مصر الرسمى إلى أبعد نقطة عن الأذهان وقتها، مشددا على أنه لا مجال لأحلام التهجير أو سبيل إليها، وأن الخيار الوحيد ينحصر فى «حل الدولتين» دون غيره، وأن المُضمَر لدى صقور تل أبيب يهدد بمزيد من التصعيد، وتوسيع رقعة الصراع وإدامته. لهذا بادرت بإلغاء القمة المُجدولة سلفا مع الرئيس الأمريكى جو بايدن فى العاصمة الأردنية، وضغطت بكل ثقلها لإنفاذ المساعدات الإغاثية، واحتضنت قمة القاهرة للسلام فى بحر أسبوعين فحسب، طارحة أول إدانة سياسية منظمة، والخارطة الموضوعية التى يسير عليها عقلاء الشرق والغرب من يومها إلى الآن. هلّلت الممانعة لقفزة القسام الانتحارية وراء حدود القطاع، واتخذت بقية الإقليم موضع المتفرج من زاوية الحياد، وانقسم العالم بين منحاز لطُغاة إسرائيل، ومُشفق على أبرياء فلسطين. ومع الوقت كانت الصورة تنجلى شيئا فشيئا، وتتعدل المواقف الافتتاحية وفق تطورات المأساة. يخسر العدو الرواية ويربح على الأرض، والعكس بالعكس لدى الضحايا، وهبّة الضمير فى عواصم الدنيا تتعالى وتضغط على الحكومات، بينما تراقب المنطقة بصمت رمادى، تستفيق ببطء الدببة وتتحرك بخُطى السلاحف، ولا تفتح صناديق بريدها لرسائل الإنذار المبكر باقتراب الخطر وتعاظُم سيناريوهاته السوداء. ما قالته مصر قبل ثلاثة وعشرين شهرا، وعاه الآخرون قبل فاصل قصير. وليس السياق فى حاجة إلى بصر زرقاء اليمامة أو بصيرة المتنبئين؛ بل لمعرفة عميقة بالخصوم، وإخلاص صادق للقضية، وفاعلية عقلية تنتقل فى النفس والدماغ منذ آلاف السنين. لنَقُل إنها الكفاءة والديناميكية، الوعى والاستشراف، فضيلة الارتياب بدلا من النوم على وسادة الأوهام؛ لكنها لا تخلو أيضا من مكوّن جينى عريق تحفظه الخلايا وتُورّثه جيلا بعد جيل، ومن إرث حضارى عرفت فيه مصر أزمنة المجد عندما كانت امبراطورية شاسعة، واختبرت غدر الزمان وقد انطفأ بريقها وتكالب عليها الطامعون والغزاة. تتبدّل الأوزان تبعا للظروف والفصول وعوارض الأيام؛ إنما لا تختل القيمة أو تتغير الرمزية. وأوقية الذهب أثمن قطعا من طن الصفيح، والفقير القوى خير من الغنى الضعيف. وهذا ما تعرفه إسرائيل قبل غيرها، وتتحسبه وتحتاط له، مُتيقّنة من أن خصومتها الحقيقية مع خَزَنَة التاريخ، ووعَّاظ الوقائع وحقائقها الناصعة. وما يُقال همسا على ضفاف النيل، يُدرس ويُستوعَب وتُعَد له الخطط وبدائلها فى تل أبيب، أضعاف ما يلقون بالا للصخب والشعارات من بيئات أخرى، ولا قرينة أبلغ اليوم من حال الشيعية المسلحة، والسيولة التى تستبد بالخرائط من جهات الدولة العبرية كلها، قياسا إلى الجدار الحديدى الصلب عند قاعدتها الجنوبية. فى كتابه الصادر حديثا، «سيف الحرية: إسرائيل، الموساد، والحرب السرية»؛ يقول يوسى كوهين، رئيس الاستخبارات العامة للاحتلال بين العامين 2016 و2021؛ إنه بعد اندلاع حرب غزّة الأخيرة اقترح خطّة لإجلاء نحو مليون من سكان القطاع إلى مستوطنة مؤقّتة، على أن يعودوا إلى بيوتهم لاحقا، وأدار حملة علاقات عامة لتسويقها مُتنقّلا بين عدد من عواصم المنطقة. وبحسب روايته؛ فقد تقبّلها بعض القادة قبولاً حسنًا، ونشط واحد منهم فى ترويجها ومحاولة إقناع الآخرين بها، لكنها رُفِضَت فى النهاية من جانب الرئيس السيسى؛ هكذا يقصُّ الرجل فى مناخ احتدام لا وفاق، وضمن حمأة دعائية لا تُفوّت فرصة للتعريض بمصر وتشويه صورتها بالباطل. لستُ مِمّن يثقون بالصهاينة قطعًا، ولا أنا مُغرَم بحكاياتهم التى لا تُساق لهدفٍ شريف أبدا، ولا لوجه الحَكى المُجرَّد؛ إنما يُستَدَل بالبعرة على البعير وبالأثر على المَسير، كما قال الأسلاف، ولا حاجة للتذكير بأن المصريين انتبهوا للتهجير قبل أن يتنبّه الفلسطينيون أنفسهم، وأن الباقين من عرب وعَجَم كانوا بين تشكيك أو تهوين، وما التحق المُلتحقون منهم بقطار الرفض إلا أخيرًا؛ وبعدما صارت الشواهد أثقل وأَمَر من أن تُنفى أو يُشاح عنها إلى تصوّرات مُتفائلة وساذجة. وعندما تدعو القاهرة اليوم إلى مُقاربات من خارج الصندوق؛ فما على الفُطناء إلا إصاخة السمع وجدية الاتّباع. ربما بدأت الأزمة مع حماس، وتفرّعت لتُظلِّل سماء المُمانعة؛ لكن آثارها لن تتوقّف على إفناء الحركة، سواء كان مُمكنًا أم مستحيلا، ولا على تكسيح حزب الله بعد إسقاط نظام الأسد، وكَسر الهلال الشيعى من خاصرتها؛ صعودًا إلى رأسه المُستدقّ فى طهران. حرب الإبادة على غزّة تتجاوز فلول المُقاتلين المُختبئين فى الأنفاق، وتسريع وتيرة الاستيطان ليست ردًّا على موجة الاعترافات المتوسّعة بفلسطين؛ إنما تتعلّل بها وتتخذها ستارًا وذريعة. والتصويب على الدوحة قبل ثمانية أيام لا يصح اختزاله، ولا يجوز، فى اقتفاء أثر خليل الحيّة وزُمرته القابضة على طلل التنظيم، وهُم أدنى قيمةً من المساس بصديق، أو إحراج الحليف الأكبر على عرش البيت الأبيض. تعرف إسرائيل كيف تُفتّت الصورة الواحدة؛ ثم تُلملم شظاياها لتُعيد ترصيصها فى فسيفسائية تخصّها وتُعبّر عنها، بأكثر مِمَّا تنُمّ عن أصلها الأول أو تحاكى ماءه النقى. تشتغل على المُعقد بالتفكيك، ثم تُعقّده أضعاف ما كان، تأخذ تفاصيل المشهد الغامر بالقطعة، وتتسلّى على الأغيار واحدًا بعد آخر: من غزة إلى جنوبلبنان، ثم سوريا، فالعودة للضفة، ومنها قفزًا إلى اليمن السعيد والهضبة الفارس التعيسة. أمّا الخليج؛ فإنه ساحة خلفية للرسائل والإشارات، وتمهيدٌ تُختبَر به حدود الغضب، ومآلات الردود المُتوقّعة. وعلى ما فات؛ كانت الدعوة إلى القمّة العربية الإسلامية الطارئة فريضة لا فضيلة، وواجبًا اضطلعت به قطر لأنها أحدث الضحايا، وما كان ينبغى أن يُنظر إليها من جهة الحدث الباعث على انعقادها فحسب؛ بل أن تكون تأسيسًا لرؤية إقليمية عريضة ومُنفتحة على السوابق واللواحق، ولا تُوفّر بارودة أشعلتها تل أبيب فى أية ساحة عبرت عليها، أو صاروخًا تُذخِّر به إحدى مُقاتلاتها لساحات أُخرى تضعها فى باقة الأهداف ومرمى التصويب. ما جاءت القمّة على مستوى التوقّعات، لا فى تفاصيل التحضير ومُسوّدة البيان، ولا فى كلمات القادة المشاركين؛ اللهم إلا ما نطقت به مصر على لسان رئيسها. يظل الانعقاد مُهمًّا من دون شَكّ؛ لأنه يُبقى جذوة الغضب مشتعلةً على الأقل، ويَعُدّ الحاضرين والغائبين، وعلى أى وجه يُمكن أن ينخرط راغب أو يتخفّى زاهد ومُراوغ. كما أنه يُحصِّن إطار الدائرة الخافت من الخَرق أو الامّحاء، ويُبقى على قدرٍ من الجماعيّة التى إن كانت مُعطّلة اليوم؛ فقد تضطرُّها عاديات المُستقبل للانفعال والتفعيل. كلمة السيسى كانت الأقوى. لا أتحدّث عن الصياغة والإلقاء؛ لأنها ليست مُسابقة فى الخطابة أو البلاغة. الفكرة أن تتوافر الرؤية الشمولية الوافية، وخُطّة العمل الجادّة، والتصوّر المُحيط بالأزمة من جوانبها، وكيف يُصار إلى اجتناب تسعيرها دون إبداء الخشية، وإلى الاستعداد لأسوأ احتمالاتها دون استباق للشر. والأهم أن تكون الطريق واضحةً ومرصوفة بالعلامات الدالة، وتنتقل من نقطة لِمَا بعدها بمنطقٍ وغاية، وليس لمُجرّد الجرى فى المكان أو الدوران على الذات. حضرت الإدانة بالضرورة؛ لكنها كانت جسر العبور إلى ما وراء ذلك، وليست مُنتهى الآمال مثلما رآها البعض واكتفوا بها. عدّد الرئيس جرائم إسرائيل، ثمّ خاطب شعبها بأنهم يعرّضون أمن المنطقة للخطر، ويُغامرون بأمنهم أيضًا. وبجانب الإفادة بما يترتّب على ذلك من إفساد لأية فرص سلام مُحتَمَلة، ألمح إلى تهديد الاتفاقيات القائمة بالفعل. ومن هذا إلى إلى الإجراءات؛ مُجدّدًا دعوته إلى إرساء مظلّة أمنية جامعة، وقد كان سبّاقًا إلى المُطالبة بقوّة عربية مُشتركة قبل عشر سنوات، وأخيرًا فسّر الحاجة إليها بأن تتّصل الخرائط ببعضها، وتكون كل دولة فيها مهما تضاءل حجمها، بوسع المساحة من المحيط للخليج. استخدم الرئيس السيسى مُفردة «العدو» لأول مرّة فى أى خطاب رسمى للإدارة المصرية منذ اتفاقية السلام فى العام 1979. ولا يتساوى هُنا الاتكاء إلى دولة مركزية كُبرى، ومعروفة بالرُّشد والتعقُّل، مع خُطب المُمانعين وشعاراتهم الشبيهة؛ حتى لا يحتجّ عاطل أو مُغرض بأن الصِفَة لصيقة بالصهاينة لدى تيّارات عريضة على طول المنطقة وعرضها؛ إذ لم تتجاوز اللفظة حناجرهم، وعندما طفرت من بين الشفاه أورثتهم الهزيمة والانكسار، وعرّضت دولاً وشعوبًا من خلفهم للويلات وتبعات النزق والاستخفاف. الأُطروحة هُنا تنبع من السياسة أوّلاً، وبحُجيّة القائل وإرثه الطويل مع السلام والمُساكنة الهادئة. وليس انطلاقًا من مرجعية عقائدية تجمّدت فى الزمن الغابر، أو فوران أصولى يُلاحقه الوصم وتعوزه الشرعية فى عيون العالم. الكلمة على لسان القاهرة، تختلف عنها من أية عاصمة أُخرى، بالحاضر البصير، والضمير المُتّقد، والماضى الذى تعرّض لغدر العدوّ ثم ردّ له الصاع صاعين، وأذاقه الهزيمة الوحيدة التى ما تزال قارّة فى وعيه وتحت جلده السميك. وفى التأويل؛ يُحتَمَل أن مقصود الرئيس ينصرفُ إلى التعميم لا التخصيص، بمعنى أن الوحدة رادعة لأى عدو على الإطلاق؛ إنما التناسُب والمُساوقة الزمنية سيُوجّهان المعنى قطعًا إلى دولة الاحتلال، والواقفين وراءها. ولعلّه كان يُشير إلى سلوك إسرائيل قبل نظرتنا إليها؛ من جهة أنها بادأت بالعداوة والعدوان، ويحقّ عليها التوصيف لقاء ما اختارت وجَنَت على الأبرياء. والواقع؛ أن سلوك النازية الصهيونية يُجاهر بالعداء فعلاً، وتجاه مصر وغيرها كما بحق الغزيين وعموم أهل فلسطين. بدءًا من مساعى التهجير إلى سيناء، مرورًا بادّعاءات المسؤولية عن الحصار وتجويع القطاع، وخرق اتفاقية السلام بالسيطرة على محور فيلادلفيا، وصولاً إلى أحدث إجراءات المخبول نتنياهو مع تجميد صفقة الغاز، والسعى إلى رَبطها بالصراع وألاعيب المُراوغة والمُقايضات. وتعديل الخطاب هُنا ليس حدثًا عارضًا، ولا زائدة لغويّة يُمكن القفز عليها إلى ما بعدها. إنه يُعبّر عن تبدُّل فى الرؤية، وحركية موّارة فى النظر لطبيعة العلاقة، وما تستند إليه من أُطر ومُحدِّدات. تلويح بكل الاحتمالات، وإخطار بالغضب والاستنفار وتكييف الأوضاع على حال الاستعداد للأسوأ. وبالنظر إلى أن كُلفة التعقُّل شعبيًّا أعلى من التصعيد، وأن القاهرة احتملتها طويلاً بما تولّد عنها من مُزايدة وتشويه مُمنهجين؛ فالانتقال إلى موجة الشارع معناه أن السياق يتحرك إلى نقطة اللا عودة، والهامش يتضاءل بين احتواء المخاطر، أو المُغامرة بالذهاب إلى آخر الحدود، وأعلاها كُلفةً وإزعاجًا أيضًا. مصر فى صدام واضح مع إسرائيل، ما من شكٍّ فى هذا. تتضادّ الرؤى وتتصارع الأهداف، وما يزال التشابُك على موجة خافتة، أو ناعمة نسبيًّا. وواجب الاحتلال إن كان حريصًا على عدم استفزاز الغريم القديم، أن يُجفِّف المُستنقعات الآخذة فى التوسع بين البلدين، وألا يُطوّر النزاع إلى ما يتجاوز السياسة، وتصعب مُداواته بدون تكاليف باهظة. والقول هنا من موقع الردع الاستباقى، لا الدفاع أو انعدام الخيارات. لا نطلبُ الالتحام بالأيدى العارية، ولا نُبادر به؛ لكننا جاهزون له وقادرون عليه؛ وذلك جوهر الرسالة وخُلاصة الفائدة. والقصدُ؛ أن احتمال الانزلاق إلى ما يُخشَى منه بات متقدّمًا على بقية الاحتمالات، وأعلى صوتًا منها جميعًا؛ ما لم تتدخّل السياسة لتتكفّل بتصفية الأجواء، وإعادة ترسيم المساحة الفاصلة وفق الثوابت المرعيّة، والمصالح العُليا التى لا يقبل أصحابها المساس بها، ولن يُقصّروا فى الدفاع عنها بكل السبل المُمكنة. والتعقيد هُنا؛ أن مهمّة تفكيك العداوة المُتضخّمة صارت مُركّبة أشدّ التركيب؛ بين الثنائيات المتعددة مع الفلسطينيين، ومصر، والأردن، ولبنانوسورياوقطر وغيرها، وفى السياق الجماعى المُتّصل بالأوضاع الجيوسياسية ومنظومة الأمن فى الإقليم. ما يتطّلب الاشتغال عليها معًا بالتزامن، بحيث تصفو الأجواء فى كل ساحة على حِدة، ويُعاد بناء الثقة فى المجال العريض من منظور توافقى شامل. قطعت إسرائيل شوطًا طويلاً فى أطماعها، ويبدو أنها لا تعرف سِكّة للرجوع؛ أكان لانتشاء اليمين المُتطرّف بما تحقق له من جريرة الطوفان، أو لعجز المعارضة والشارع عن ضبط نغمة الأداء العامة، وإلزام المستوى السياسى بما يُبقى البلد آمنة من كُلفة إشعال المحارق الأبدية، أو التورُّط فى نزوات نتنياهو ومراميه الخاصة. والمأزق أن الستار الذى يرتخى عليها فى ناحية، قد لا يصلح لغيرها، أو يتوافر فيها من الأساس. انحطّ الصهاينة فى معاركهم لدرجة أنهم بدّدوا ما كان لهم من رصيد، ويسحبون على المكشوف من حساب الولاياتالمتحدة وإدارة ترامب. وكل تصعيد جديد يدخلونه خاسرين استباقًا على الصعيد المعنوى، وتعوّضهم العوائد المادية عن أعباء إهدار المكانة والرمزية؛ لكن استمراء اللعبة وتوسيع مداها لا يضمن أن تستقيم بالطريقة نفسها، وليس الخصوم جميعًا سواء. مصر ليست كغيرها من بقية المُشتبكين حاليا مع الاحتلال: لديها السُّمعة الحسنة على خلاف وضعية إيران الدولية، وهى دولة مؤسسية لا دويلة أو ميليشيا كحال حزب الله، مُتّحدة لا منقسمة على ذاتها كما يفعل الحوثيون باليمن، وصلبة لا سائلة مثل سوريا، ولا يعوزها الحجم من جغرافيا وديموغرافيا وعوامل قوّة كحال قطر. لها حدود لصيقة، وجيش نظامى مُرتّب عالميا، وقدرات ومراس واستقلال فى الإرادة والقرار، والأهم أنها أنظف من إسرائيل حاضرا وتاريخًا، وقد كانت عُرضة لاعتداء الأخيرة قديمًا، وبادرت باستجلابها وجرجرتها قهرا إلى طاولة السلام. والأهم قطعًا؛ أن لها سابقة انتصار تؤكد إمكانية التكرار، كما قال الرئيس فى احتفالية الأكاديمية العسكرية عقب اندلاع أزمة غزّة، بأن من فَعَلها مرّة قادر على فعلها كلّ مرّة. وبهذا؛ فإنها تردع تلميحًا وتصريحا، وتُهدِّد من دون تهديد، وتُثبّت قواعدها المُعلنة منذ اللحظة الأولى؛ بأنه لا قبول بالتهجير ولا أُفق له، أكان ناحيتنا أو لأية وجهة أُخرى، قسرًا أو طوعًا، هكذا بالكُليّة وعلى الإطلاق. وما فات لا يعنى أننا ذاهبون إلى الحرب؛ وإن كانت كل الاحتمالات واردة قطعًا. إنما القصدُ أن الخُطوط الحُمر تُرسَم بآلة حادة، كما رُسِمَت من قبل فى ليبيا، وتتولّى مصر بالنيابة عن العرب جميعًا، دفع المتاريس بعيدًا للأمام، وتعلية السقف إلى مستوى يتجاوز الشجب والإدانة، ويُؤكَد أن الكلام يتولّد من أبعد نقطة فى السياسة تكاد تُلامس بدائلها الخشنة، ومن أقرب نقطة فى الخشونة تُتيح هامشًا أخيرًا للدبلوماسية والتسويات العاقلة. قبل شهور، أنقذ السيسى القمة العربية فى انعقادها العادى بالعراق، عندما حضر بقوّة مصر وثِقَلها فيما غاب أغلب القادة، ووجّه وقتها كلمةً بالغة القوّة والوضوح، وأثلجت الصدور وقوّمت مواقف كثير من المُنحرفين أو الراغبين فى الانصراف عن الامتحان. وبالطريقة نفسها؛ تكفّل الرئيس بإنقاذ القمة العربية الإسلامية فى الدوحة؛ حتى مع الحضور الواسع، لأنه قدّم رؤية مُتماسكة تتجاوز العاطفة والشعبوية، ولا تتوقّف أمام حسابات النفع والتوازنات، وترفع الضمير درجات فوق الانتهازية وصراعات المكانة والأدوار. رسالة بعِلم الوصول إلى مخابيل تل أبيب، وعلى مسمع المعنيين من الأشقاء والأصدقاء، الصادق منهم قبل الكذوب، والأمين قبل المُحتال. تتقدّم مصر الصفوف بالمسؤولية والضمير والمكانة التى لم تمسّها الحوادث، وتقود بمشروعية اللحظة والتاريخ، وتُقيم الحجّة على الجميع، وتهمس فى آذانهم من واقع الخبرة بألا يركنوا إلى وعودٍ هشّة أو حاميات خؤون، وبأن دعاوى «السلام الاقتصادى» بددتها وقائع الوحشية الهائجة، وأطماع ترسيم المنطقة وترتيب الدول والأدوار على هواها، وجرأة القضم والاستئساد على الجميع؛ حتى الذين يشاركونها ذات المظلّة، أو تجمعهم صداقة مع صديقها الوحيد. ما غادرت إسرائيل موقع «العدو» فى الوعى المصرى العام؛ وباختيارها اليوم تعود إليه فى النظرة الرسمية، وهو تغيُّر سيكون له ما بعده؛ ما لم تُعاد إلى رُشدها غصبًا من ولاة أمرها، أو ارتضاء بتقويم نتنياهو أو إزاحته. الحرب ليست نُزهة؛ وقد تكبّد الاحتلال فواتير باهظة فى غزّة الصغيرة، لا يُحبّ أحد لنفسه أن يذوق مرارتها قطعًا؛ ولن يحتملها المُهان فى 365 كيلومترا مربعًا، إن تمادى إلى توسعة مداها بما يُحيل المنطقة جحيمًا، أو يضع العقلاء القابضين على جمر الاستقرار فى مُعادلة صِفرية.