سفّاحٌ يجرُّ العالم من خلفه للسقوط حتى أذنيه فى وحل الإبادة، ورجلٌ واحد بإمكانه أن يُوقفه فورًا؛ لكنه لا يفعل، وبدلاً من اتخاذ موقف سياسى وأخلاقى جاد، يُجاريه فى نزواته إلى آخر مدى يفوق العقل والاحتمال. ما كان لعدوان إسرائيل على غزة أن يستمر طوال تلك الشهور لولا واشنطن، ولا أن يتعمَّق ويتّخذ أبعادًا شديدة الوحشية من دون مُوافقة البيت الأبيض. وليس هذا بالصمت والتواطؤ الرمادى فحسب؛ بل بالشراكة العمليّة الكاملة، وآخرها القرارات الغريبة وغير المفهومة بحقِّ السلطة الوطنية الفلسطينية، والافتئات على الشرعية والقانون، والتزامات الولاياتالمتحدة بمُوجب النظام الدولى الذى أرست دعائمه بنفسها بعد الحرب العالمية الثانية. قررت الخارجية الأمريكية فجأة أن تحرم وفد فلسطين من المشاركة فى أعمال الجمعية العامة المقبلة للأمم المتحدة، وأن تخلط بين انحيازها الفج لإسرائيل فى حربها الظالمة، والقيود المترتبة عليها فى ضوء اتفاقية المقر، وتحييد إجراءاتها النظامية عن التوظيف لصالح طرف ضد آخر. والأغرب أن يُبرِّر ماركو روبيو موقفه العدائى الصريح، بادّعاء أن منظمة التحرير مسؤولة عن الإرهاب وإفشال المفاوضات، ومحاسبتها على ما اعتبره "حربًا قانونية" بالبحث عن مُساءلة الاحتلال أمام محكمتى العدل والجنائية الدوليتين، وانتقاد مساعيها للحصول على اعترافات أُحادية الجانب بالدولة المستقلة. وبإغفالٍ كامل لكل مرواغات تل أبيب منذ توقيع اتفاقية أوسلو، وخنقها المُتعمَّد لأدوات السياسة والدبلوماسية، والإصرار الفج على شَطب السلطة من باقة الخيارات والحلول. تُنَحَّى السياسة، وتُقطَع الطريق على التسوية السلمية، وبجانب انتقاد المقاومة المُسلّحة، يُستنكَف على فلسطين أن تُقاوم بالدبلوماسية، أو تُخاطب ضمير العالم ومؤسساتها، أو تسعى للولادة القسريّة؛ بعدما تأكّد أن خصمها يُريد أن يخنقها فى رحم الإرجاء والتسويف. وفيما يُختَلَف على سلوك حماس وصفتها التمثيلية؛ فإنَّ السلطة الوطنية تحوز شرعية الاعتراف والتمثيل، ولم تكن طرفًا فى الطوفان وتداعياته؛ بل تُقدّم نفسَها بديلاً موضوعيًّا ينطلق من سياق حلّ الدولتين ومُحدّداته، ويحترم تعهداته القائمة، ولا يخوض مغامراتٍ شعبويَّةً أو يربط نفسَه بأحلاف وتشكيلات أُصوليّة مُعادية لأفكار التسوية أو السلام؛ كمثيلتها فى دولة الاحتلال من عصابات النازية التوراتية والصهيونية. والتركيبة التى تُعرّضها للانتقاد من الفصائل الإسلامية ورُعاتها، يجب ألَّا تكون قَيدًا عليها من جهة الساعين لإنهاء الصراع، حال كانت النوايا صادقةً بشأن المسعى فعلا. وعليه؛ فلا يتيسّر التوفيق بين تطويق رام الله طوال السنوات الماضية، وإبعادها حاليًا عن مداولات اليوم التالى فى غزة؛ ثم لَومها على اختبار الطرق القانونية والشرعية لفَرض نفسها على أجندة العدو، واستدعائه مُجدَّدًا لصيغة التوافقات التى تجاوزها بالبطش والقوّة العارية، ويتهرَّب من إعادة تفعيلها مُتقصِّدًا إبقاء المطاردة مفتوحة مع الحركات المسلحة، وتنحية البديل السياسى بحيث لا يكون مُلزَمًا بشىءٍ فى الميدان ولا على طاولة الحوار. والحال؛ أنَّ واشنطن لا يمكن النظر إليها من زاوية الوسيط النزيه، ناهيك عن أن تكون ضامنًا لأيّة ترتيبات يُتَّفَق عليها اليومَ أو لاحقًا. وما من شكٍّ مُطلَقًا فى أنها تلعب لصالح إسرائيل حصرًا، وتتموضع بإرادتها ضمن رؤية نتنياهو ومساعيه للإملاء الدائم، وامتصاص الصدمات وتخفيف آثارها المُحتَمَلة على أجندته الإلغائية السائلة، فيما لا يتوقَّف عن التصريح بالشىء ونقيضه، ويُرسِلُ إشاراته المُتضاربة فى كلِّ الاتجاهات، ويُوزّع أفكاره على المُتحدِّثين الأمريكيين؛ كأنه مخرج مسرحى، وكأنهم جميعًا فى عرضٍ مكتوب بعناية، ولا غاية له سوى التعمية والإلهاء وإرخاء حبل الوقت بلا نهايةٍ أو كابح. نقل موقع أكسيوس الأمريكى فى أحد تقاريره، أنَّ إبعاد الرئيس عباس وفريقه عن مقرّ الأُمَم المتحدة فى سبتمبر المقبل، جاء استجابةً لمطلب وزير الخارجية الإسرائيلى، ولم يتأخّر جدعون ساعر فى التدليل القاطع على الأمر، بشُكر نظيره روبيو وإدارة ترامب على ما عَدّه "وضوحًا أخلاقيًّا" فى استهداف سياسات السلطة الوطنية الفلسطينية. ويحدُثُ ذلك، فيما تتأهَّب نيويورك لاستضافة رئيس الأمر الواقع فى سوريا، أحمد الشرع/ أو أبو محمد الجولانى، رغم أنه لم يُقدِّم حتى الساعة ما يُبرهن على التغيُّر الحقيقى انقطاعًا عن ماضيه الأُصولىِّ المُتطرّف، وما تزال دائرة التوجُّس الإقليمى والعالمى منه واسعةً للغاية، ولا يحوز إجماعًا أو قبولاً عريضًا فى بيئته الشامية ذاتها. لكن حكومة نتنياهو تجسُّ نبضَه، وتُحاور رجاله بين باريس وأذربيجان، وتُحصِّلُ منه المكاسب فى الجنوب رضائيًّا وبالصمت المُتخاذل أو المُتواطئ؛ فكأنَّ الولاياتالمتحدة تُؤطِّر رؤاها الإقليمية على قاعدة المُحدِّدات العبرية، وبما يُحقِّق تطلُّعات إدارتها اليمينيّة، أو ينخرط بكلِّ طاقته فى اختبارها، والإشراف على إنفاذها بالترهيب والترغيب، وبالمُواءمة والترضيات كما بالحديد والنار. ربما النموذج الأوضح ما كان مع إيران قبل عدَّة أسابيع، وقد منحَ البيتُ الأبيض إشارتَه الخضراء للهجوم الإسرائيلى على طهران، ثمَّ اشترك فيه مُباشرةً بقاذفاته الاستراتيجية وقنابله الخارقة للتحصينات. لكنَّ الشواهد أقربُ زمانًا ومكانًا من حرب المواقع النووية، وما غزّة ببعيدٍ حاليًا، ولا ما يجرى تجاه لبنان بين زيارات المبعوث توم برّاك المُتقطِّعة، ورسائله المُتضادّة، والتبدُّل المُتسارع فى لغة الخطاب بين الاحتواء والإحماء، وصولاً إلى الإهانة الفجّة للصحفيين والبلد والإقليم بكامله، تحت عنوان "السلوك الحيوانى" الذى يستهجنه من الباحثين عن موقفٍ مُحترمٍ ومعلومةٍ ذات جدوى، ويراه لُبَّ أزمات المنطقة ومُشكلاتها القائمة، وليس الاحتلال الماثل على أطراف خرائطهم، أو انفلاته المدعوم من امبراطورية العالم وخازنة رأسماله القِيَمى والحضارى. والقِيَم لدى الكبار غالبًا ما تكون مطّاطةً وقابلة للتطبيع على أىِّ قياس. الرفض ليس مُوجَّهًا للأُصوليّة عمومًا؛ وإلا ما احتُضِن الجولانى وسموتريتش وبن جفير اليوم، أو القاعدة وداعش والإخوان فى محطَّاتٍ عديدة سابقة. ليس مُوجَّهًا أيضًا للميليشيات الولائية والمذهبية باستقامةٍ مُجرَّدة، وقد بُنِيَت قُدرات "الحشد الشعبى" فى العراق تحت سمع الجيش الأمريكى وبصره، بل تحالف مع قوات سوريا الديمقراطية، واصطبر على تجميع وتقوية هيئة تحرير الشام فى إدلب، وحتى حزب الله فى لبنان سُمِحَ له بالاستئساد على الدولة وحَبسِها فى قَعر الدويلة، وجرى الاستثمار طويلاً فى حماس ورديفاتها؛ طالما أنها تُؤبِّدُ الانقسام وتُبرِّر دعايات غياب الشريك. تنام واشنطن وتصحو بحسب المصلحة، ومن كان عدوًّا قبل غفوةٍ واحدة يصيرُ صديقًا، والعكس أيضًا. الشرعيّةُ ستارٌ شفَّاف للنوايا والدعايات، يتَّسع بما يكفى لاحتواء الجولانى؛ فيذهب إلى نيويورك مشمولاً بالاحتفاء ومواكب التهليل، ومُغازلة الذات الباحثة عن اعترافٍ وتطبيعٍ لوُجودها، ويضيقُ فلا يتيسَّر على مُنظَّمة التحرير أن تلبسَه وتمُرَّ به إلى منصَّة العالم، رغم أنها تحمّلت من بطشِ الاحتلال ما يفوقُ تضحيات حماس، ولم تُحَصِّل مثلَها حقائب الدولارات أو غضّ البصر عنها من جانب نتنياهو. وذلك؛ رغم أنها الشريك الجاهز للدخول فى ورشة الإنقاذ ولَملَمة الفوضى؛ لو صَحَّ أنَّ المظلَّةَ الأمريكية أمينةٌ فى البحث عن حلولٍ حقيقية، وغير مُطوَّقةٍ بكوابح صهيونية من أسفلها، تبدو تابعةً لها ومحكومةً بإرادتها فى الظاهر، فيما تُديرُها وتتحكَّمُ فيها بعصىٍّ تُسلَّم لنتنياهو تطوُّعًا، بعدما استبدلها بالخيوط المُعتادة فى عرائس الماريونت. العروس واحدةٌ فى الحالين؛ لكنها فى تلك النسخة لا يُحرّكها لاعبٌ من الأعلى، إنما تكونُ فوقَ رأسِه شكلاً، ودون إرادته وطَوع بنانه فى المضمون والأثر. وليس هذا عن ضعف الكبير أو قوّة الصغير؛ إنما عن اتّضاع ومُماشاة أمريكية للتابع المُنفلت؛ بدلاً من وضع الأمور فى نصابها، وتغليب العقل على اندفاعة الجنون. ذهب برّاك إلى لبنان وعاد ثلاث مرَّاتٍ تقريبًا، وآخر رسائله قبل أسابيع بدت إيجابية للغاية، عندما امتدح خطّة العهد وحكومة نوَّاف سلام لحصر السلاح فى يد الدولة، واعتبر أن بيروت قدَّمت بدايةً مثالية يتوجَّب أن تتبعها طمأنةٌ من تل أبيب. ثم أطلَّ عليهم أواخر الأسبوع الماضى مُصطحبًا المبعوثة السابقة مورجان أورتاجوس، ووفدًا من الكونجرس يتقدَّمه السيناتور صهيونى الهوى ليندسى جراهام؛ ليتطوَّع الأخير بنسف كلِّ المقدمات السابقة، وتأكيد أنه لا كلام عن انسحاب إسرائيل من النقاط المُحتلَّة، وتفعيل اتّفاق نوفمبر الماضى قبل تجريد الحزب من سلاحه جنوبىَّ الليطانى وشماله. وإنْ تعذَّر؛ فيجب بحسب منطقه الانتقال إلى "الخطة ب" باستخدام القوَّة لتحقيق المهمَّة، دون اعتبارٍ للتوازُنات وسلامة البيئة الداخلية، ولا لخروقاتِ الاحتلال التى تفرضُ الذهاب إلى آليَّةٍ بديلة، لا تستنفرُ الشيعةَ أو تضغطُ على أعصابهم، كما لا تُذَخِّرُ دعاياتهم الصاخبة فيما يُصوّبون بكلِّ طاقتهم على السلطات النظامية، ويرمونها باتهامات العمالة والارتكان إلى مُخطَّطات واشنطن وتل أبيب. وحتى لا نُفوِّت خيوطَ المنطق الواهية أصلاً، أو يبدو الكلام عاطفيًّا وتعبويًّا على طريقة كربلائيات نعيم قاسم؛ فالحزب مُخطئ من دون شَكّ، بدءًا من الانفراد بقرار الحرب والسِّلم وتنفيذ الأوامر الإيرانية بعد "الطوفان"، تحت عنوان "الإسناد والمشاغلة"، وصولاً للمُكابرة وعدم الاعتراف بالهزيمة، ومَساعيه لتوظيف بقايا قوّته لصالح طهران ومُفاوضاتها المُرتقبة مع إدارة ترامب والترويكا الأوروبية. لكنَّ تخطئة الميليشيا على طول المسار، لا تعنى توفير العدوِّ ورُعاته من النقد، ولا انحراف الرؤية العاقلة عن أنهم سببُ الانسداد الراهن، ويستثمرون فيها لإعادة ترسيم الخرائط أو تكييف التوزُانات، بما يُحقِّق مصلحةً صافية لإسرائيل فى الراهن، ويضعُ المنطقة كلَّها فوق برميل بارودٍ لعقود طويلة مُقبلة. وما يُقال عن الحزب يصحُّ فى حقِّ حماس؛ لأنها أخذت العِلمَ مُبكِّرًا بالخذلان الكامل من حُلفائها فى محور المُمانَعة، وأصرَّت على البقاء فى الميدان وخَوض المعركة بالغزِّيين وأرواحهم السائمة ومَعِدَاتهم الخاوية، وترفض حتى الآن أن تأخُذَ العِلمَ بالهزيمة، وتتصرَّف مع السياق من مُنطلَقِ أنَّ عليها ترشيد الخسائر لا زيادتها، وترميم البيئة الوطنية لا مُواصلة الكُمون فى شُقوقها، والاستلاب لصالح العدوِّ فى رسائله المُضلِّلة، لناحية أنَّ رفضَ السُّلطة قد يطرأ عنه قبولٌ اضطرارىٌّ للحركة، أو أنَّ الاستفاقة الدولية فى نطاق القانون والضمير، يُمكن أن تنعكس عليها بمنفعةٍ مُحتملة فى الحرب والسياسة، أو الشراكة بأيَّة نسبة فى ترتيبات اليوم التالى للقطاع. اعتمد الحماسيون صيغة حرب العصابات، وفيها يكفى مُجرَّد الصمود لإعلان النصر أو هزيمة العدوِّ النظامى. هذا حقيقىُّ جدًّا فى نطاق المعنويات، ومع ثبات قواعد اللعبة وانغلاق الحَلَبة على الطرفين؛ لكنَّ الدراما تنحو إلى صيغةٍ مأساوية كاملة منذ رحيل بايدن وحُلول ترامب، وإثارة مسألة الحلِّ تحت عنوان التطهير و"الريفييرا الشرقية"، ما تَبعَه إخراجُ الصهاينة لخُطَط التهجير وابتلاع الجغرافيا من الأدراج، واشتغالهم عليها بالقتل والتجويع والبدائل الأمريكية غير المنطقية؛ لكنها مدعومة بالقوّة والسطوة الامبراطورية للأسف. ومهما كان اليقينُ عاليًا بشأن صلابة الغزِّيين وثباتهم على أرضهم؛ فالواجب ألَّا ترتاح الفصائلُ فى غزَّة للشعبوية والدعايات العاطفية، وأن تتحسَّب لكلِّ السيناريوهات المُثارة، الجيِّد منها قبل الردىء، ومن دُون خطواتٍ غير محسوبة واستمراء للانقسام، أو استعراضات تأكَّد بالتجربة أنها تُصيب صدورَهم، وترتدُّ عليهم وبالاً. فى مجال المعنويات والأسى، لا يُمكن إلَّا أن تَمتدِحَ كمينَ حى الزيتون مساء الجمعة. وفى مقام العقل والاسترشاد بالخبرات السابقة، لن يُسعفك سوى الارتياب والوَجَل من كُلفة التبعات. وبعيدًا من شَقِّ القلوب وتفتيش النوايا؛ فلم يَكُن حصيفًا أن تقع العملية بعد قرار الخارجية الأمريكية ضد السلطة، وبالقفز على الزخم الدولى المُتصاعد، وما يتبدَّى من شِقاقٍ إسرائيلىٍّ على كلِّ المستويات، داخل الحكومة والكابينت ومع الجنرالات والشارع وبقيّة القوى السياسية. فالرسالة الأبرز؛ أنَّ الاحتلال أحال القطاع ردمًا ورمادًا، ويَعبُر على جُثَث الجوعى، وما عادت حماس تُشكِّل خطرًا حقيقيًّا يُبرِّر التصعيد أو احتلال غزة. ولم يكن نتنياهو بحاجةٍ أمام بيئته لأكثر من ذريعةٍ جديدة، مع تكثيف الاستعراض والخِفَّة الدعائية فيها، بما أُثير عن أَسْر أربعة جنودٍ، دون أيّة قرينةٍ أو دليل قاطع على ذلك. فكأنّه يُمنَحُ مُسوِّغًا جديدًا كما كان فى الطوفان وكرم أبو سالم ورقصات تسليم الرهائن وغيرها، ودون مقدرةٍ على التصدِّى لهجمته المُتوقَّعة، أو هامشٍ لوقاية المدنيين من تكاليفها الباهظة. حماس مُرتبكة تمامًا، وليس من اليوم فحسب؛ بل منذ انقلاب أمواج الطوفان عليها وكَنس قادتها وقُدراتها ومُقاتليها، ويشتغلُ الصهاينة ومعهم الأمريكيون على تعميق الارتباك واستثماره: بين استثارتها بورقة ويتكوف لترفضها، فيتصاعَد المَدُّ الحربىُّ عليها، فتقبل الصفقة وتتخيَّل أنها ستلتقط أنفاسها؛ ليُفاجئها نتنياهو بالإغارة عليها من رُكنٍ جديد. الحرب بوتيرتها الحالية محسومةٌ قَطعًا؛ لكنَّ الرهان من جانب خليل الحيَّة وفريقه على رفض السلطة لا قبول الحركة، وعندما بادرت الخارجية الأمريكية لشطب عباس والمُنظَّمة من وُفود الأُمَم المُتَّحدة فى جمعيّتها المُرتَقَبَة، ربما استشعر الحماسيون بغبائهم المُعتاد إمكانية أن يكونوا بديلاً، وإلزاميّة أن يُدافعوا عن الفرصة مهما بَدَت خياليَّةً وانتحاريّة. الولايات المُتّحدة، وبطَلَبٍ من إسرائيل، تُريدُ أن تقطع طريقَ فلسطين إلى المنصَّة الأُمَميّة، حتى لا يُعلِنَ الرئيسُ عباس عن الدولة مشفوعةً بكثافة الاعترافات السابقة واللاحقة. ومن وراء ذلك، تُوجّه واشنطن رسالةً للحلفاء والخصوم، مِمَّن لا تقدر على إرهابهم أو تعديل خياراتهم، بأنها لا تُقرُّ مسارَ استيلاد فلسطين خارج ولايتها، ولا بمعزلٍ عن أولويات إسرائيل ورؤيتها للقضية والإقليم. ولن يخلو الأمرُ قطعًا من ضغوطٍ فى الكواليس؛ إنما قيمة الرسالة العَلَنيّة أنها تُؤكِّدُ الاستعداد لانتهاج كلِّ السُّبل، والتضحية بالمكانة والرمزية الأخلاقية، ومُساندة الخطط الصهيونية إلى آخر مدىً لا يتورَّع عن تحدِّى القانون والعالم. وبعيدًا من الأحاديث الاعتباطية والرومانسيّات المُضحكة، وبدون القفز على ثِقَل اللوبيات وقوّة الصهاينة الأمريكيين ورديفهم من التيَّارات المسيحانية؛ فإنَّ الرئيس ترامب بفجاجته المعروفة وانفلاته من كلِّ القواعد والأُطُر النظامية، قادرٌ على ترويض نتنياهو بهَمسةٍ أو بإشارةٍ عابرة، وليس فى احتياجٍ لقبول جماعات الضغط ومُغازلة أثريائها، انطلاقًا من أنه لا فرصةَ لديه فى الترشُّح لولايةٍ ثالثة. ما يعنى أنه يأخذُ مُوقفًا مُنسجمًا مع قناعاتٍ عقائديّة عميقة لديه، أو أكثر اتصالاً بمصالحه السياسية والاقتصادية المُخطَّطة لليوم وعلى المدى البعيد، ولا يرى أنه فى حاجةٍ لتغييرها؛ طالما لا تُقابلها ضغوطٌ أو تهديدات، وما يتمنّاه يتحصَّلُ عليه وزيادة، دعمًا واستثمارًا ومُجاراةً لأهدافه من الغريم قبل الحليف؛ باستثناء الصلابة المصرية حصرًا إزاء خطَّة التهجير والريفييرا، وقد صَمَت عنها مؤقّتًا؛ لكنه لم يستبعدها من مجال النظر تمامًا، ويبدو أنه ما يزالُ يُراهن عليها، ويَطمئِنُّ إلى أنه سيجدُ من يُموّلونها فى المنطقة أو خارجها. ليس تفصيلاً عابرًا أن يعقد اجتماعًا فى البيت الأبيض قبل أيام، وأن يُستَدعَى له رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير، ومستشار ولايته الأُولى وصهره جاريد كوشنر، وكلاهما كان ضيفًا على تقارير تحدّثت عن رؤية ابتلاع غزَّة قبل أن يُعلن عنها الرئيس، وبعد الإعلان أيضًا. مُؤسَّسة بلير تردَّدَ اسمُها فى الشهور الأخيرة على خلفية إعداد ورقةٍ عن "اليوم التالى"، وخطط الإدارة الانتقالية وإعادة تهيئة القطاع خاليًا من ساكنيه، وكوشنر كان مُهندسَ الاتفاقات الإبراهيمية قبل خمس سنوات، وتحدَّث عن "الريفييرا" فى مُحاضرةٍ بأحد المحافل قبل أن يُثيرَها حَمَاه بسنةٍ كاملة. ولا يُمكن أن يحلَّ الشخصان معًا؛ إلَّا لرغبة فى المزج بين التطهير وإحلال الاقتصاد بديلاً عن السياسة، والبحث عن أُفقٍ للتسوية الظالمة من خارج تراث الصراع وتجاربه المُتراكمة وأدبيّاته المُكرَّسة، وبما يُثَبّت وقائعَ الطوفان ويُجهِز على ما تبقَّى من إرث المُمانَعة؛ أكان فى غزّة الخالية من الغزِّيين، أم فى منطقةٍ اقتصادية مُعقَّمة وراء نهر الليطانى فى لبنان، وأخيرًا إعادة هندسة الجنوب السورىِّ بترتيباتٍ أمنيَّة مُغايرة، وبما يستبقى الهيمنة الإسرائيلية على مُرتفعات جبل الشيخ ومنابع الأنهار فيه، ويدَها الطُّولَى من السويداء إلى أطراف ريف دمشق. واشنطن فى فريق تل أبيب لاعبًا أساسيًّا، من مذابح غزة التى لا يردعها ضميرٌ أو قانون، إلى احتواء الجولانى وشرعنة وجوده فى الشام لقاءَ تنازُلات قاسية تُلامس سقف التفريط، وبينهما مُجريات الجدل فى لبنان بين الإغراء بالسلام والتهديد بتجدُّد الحرب. ثلاثُ صُوَرٍ من التعاطى اليومَ مع أحداثٍ من نسيج واحد، تتبدَّل فيها الأدوات والرسائل ولا تختلف المضامين، وكلها تصبُّ فى مجارير الانحياز التى تغتسلُ منها واشنطن كلَّ ساعة، لتُطلَّ على العالم فى صورةِ مَسخٍ مُشوَّه: يأخذ الأنياب من مشهد القطاع، ويُجرِّبُ الدهاء والاحتيال فى بيروت، ويُلطِّخ ملامحه بابتسامةٍ انتهازية تملأ الفضاء العريض من الجولان إلى قصر المهاجرين. الوساطة المنحازة فى ثلاث جهات، لا تُستَشَفُّ منها إمكانيّةُ التوصُّل إلى تسوياتٍ موضوعية مُتوازنة، فضلاً على استحالة أن يكون الوسيطُ صاحبُ المصلحةِ ضامنًا نزيهًا. إنها لعبةٌ مُتواصِلةٌ لخَلط الأوراق بدلاً من ترتيبها، وإثارة الكُلِّ على الكُلّ، بحيث تشتبك حماس مع الشعب والسلطة، ودويلة الحزب الإيرانية مع الدولة اللبنانية، ومُكوِّنات المجتمع السورى القَلِقَة على حاضرها ومُستقبلها، مع سُلطةٍ تُغازل الخارج ولا تُعير اهتمامًا للداخل، ويشغلُها تطبيع وجودها عن أنْ تُطَبِّع أوضاعَ البلد أو تُعيده لمسارٍ قويم. وما من شَكٍّ فى أنْ واشنطن تعرف ما عليها؛ إن كانت صادقةً، وليست فى حاجة إلى نُصحٍ أو إرشاد. لا فائدةَ من تذكيرها بأنَّ الوسطاء يستمعون أكثر، ويُفكِّكون ولا يُعَقّدون، ويتجرّدون من ذواتهم ومصالحهم يقينًا بأنَّ تصفية النزاعات مصلحةٌ حقيقية للجميع. وإذا كانت تعرفُ وتُنكر؛ أو تتعالى على واجباتها، فهذا أدعى إلى مُواصلة نقدها واختصامها بالسياسة والقانون والضمير، والرهان على بقيَّة القوى الدولية الفاعلة؛ لمُوازنة الصورة واعتدال الموازين المائلة. والأهمّ؛ أن تتخلَّص المُمانَعة وبقاياها المُتحلِّلة، من رواسب النَّزَق وأوهام الماضى المُتداعية فوق رُؤوسها، وتتوقَّف عن تجارة العواطف الرديئة، وعن توليد الذرائع تطوُّعًا وكرمها المُفرِط فى تقدمة الهدايا المجانية. لقد خسرت أمام إسرائيل، وبعدما تبدّى أنَّ القوة الأمريكية الباطشة فى صَفِّها عَلنًا ودون مُواراة؛ فلا أمل فى النصر، ولا احتمال سوى مزيدٍ من الهزائم النكراء صدقُ المبدأ يجب أن ينصرف لوَقف المذبحة فى غزَّة، ونِيَّةُ الحَلِّ إنْ صَحّت فلا تجسيدَ لها إلَّا احتواء السلطة، وترقية السياسة فوق الحرب. موقف واشنطن رِدّةٌ لا مُسوِّغَ لها، ولا معنى سوى أنها اختارت مُجدَّدًا أن تقف على الجانب الخطأ، وأن تكون شريكًا بالحصّة الأكبر فى المأساة وتداعياتها. الصورةُ اليومَ لصالحها مع إسرائيل، لكنَّ المنطقة محشوَّةٌ بالبارود والقلاقل ومُثيرات الفوضى فى كلِّ أرجائها، واستمرار الضغط عليها بقسوةٍ وانفلات ودون تعقُّل، لن يقود إلَّا للانفجار طالَ الوقتُ أمْ قَصُر. إنها حربٌ وجوديَّة؛ إمَّا أن تعترف بوجودِ أطرافِها على قَدَم المُساواة؛ أو ستظلُّ أبديَّةً غير قابلةٍ للتهدئة أو التصفية، ولن يمنعها تحريكُ الجغرافيا أو إزاحة الديموغرافيا؛ لأنَّ الخرائط والتكوينات الجديدة لن تفقد ذاكرتها القديمة، وسرعان ما ستتلوَّن بألوانِ الحقوق الضائعة والاشتباكات المُقدَّسة. السياسة خيارُ العقلاء، أمَّا المخابيل فيختبرون ركوبَ الأمواج الهائجة دون ضرورةٍ؛ ليَضيعوا فيها طوفانًا بعد آخر، أو تقذفهم إلى شاطئ العقل مُرغَمِين، وبعدما تكون الحلول أعقدَ وتكاليفُها أعلى وأشدَّ إرهاقًا.