تبدو مهنة العلاج الطبيعى فى مصر نموذجًا حيًا لكيفية تحول الحلم بمستقبل مهنى واعد إلى كابوس بطالة وفوضى مهنية، دراسة حديثة لنقابة العلاج الطبيعى، نشرت تفاصيلها الزميلة آية دعبس الصحفية فى اليوم السابع، تكشف بالأرقام كيف خرجت المنظومة عن السيطرة، بعدما تضخمت أعداد الكليات والخريجين بلا رؤية واضحة، بينما عجز سوق العمل عن استيعاب هذا الطوفان. المشكلة الأساسية تكمن فى الأرقام الصادمة، 85 كلية للعلاج الطبيعى (28 حكومية و57 خاصة وأهلية)، بطاقة استيعابية تصل إلى 32 ألف طالب سنوياً، هذه الزيادة تعنى أن مصر ستصل بحلول عام 2030 إلى 215 ألف أخصائى علاج طبيعى، وهو رقم لا يعكس طلب السوق، بل يعكس سباقًا محموماً نحو منح الألقاب الأكاديمية دون اعتبار لاحتياجات الواقع. ولمزيد من المفارقة، تشير الدراسة إلى أن مصر ستقفز فى معدلات أخصائيى العلاج الطبيعى إلى نحو 28 لكل 10 آلاف نسمة فى 2035، بينما المعيار العالمى فى الدول المتقدمة لا يتجاوز 8 لكل 10 آلاف، أى أننا سنملك أكثر من 3 أضعاف ما تحتاجه دول مثل الولاياتالمتحدة وكندا، فى وقت لا يتجاوز فيه عدد الأسرة الطبية 11.8 سريراً لكل 10 آلاف نسمة، المعادلة تبدو مختلة بشدة، فائض فى الأعداد مقابل عجز فى البنية التحتية. وزارة الصحة التقطت مبكرًا هذه الإشارات، فقررت منذ 2023 وقف نظام التكليف الحكومى لخريجى العلاج الطبيعي، بعدما وصل التضخم الوظيفى فى هذا القطاع إلى 110% من الاحتياج الفعلى، القرار كان صادماً للطلاب، لكنه بدا حتمياً، فلا القطاع الحكومى قادر على استيعاب المزيد، ولا القطاع الخاص يملك القدرة على الامتصاص، ولا الهجرة للخارج أصبحت حلًا كما كان فى السابق، مع إغلاق أسواق مهمة مثل السعودية والولاياتالمتحدة. وإذا كان الكم مشكلة، فإن الكيف لا يقل خطورة، فالتوسع العشوائى فى الكليات لم يصاحبه نمو فى أعضاء هيئة التدريس، حتى وصلت بعض الكليات إلى معدل 60 طالباً لكل أستاذ، النتيجة خريجون يفتقدون إلى التدريب الكافى والقدرة التنافسية، بما ينعكس فى تدنى الرواتب وتشويه صورة المهنة أمام المجتمع، الأخطر أن هذه الثغرات تفتح الباب لمراكز غير مرخصة يمارس فيها دخلاء العلاج الطبيعى بلا تأهيل، ما يهدد صحة المرضى ويشوه سمعة التخصص. القضية إذن لم تعد مرتبطة بفرص عمل فقط، بل بسلامة المنظومة الصحية ككل، عندما يتكدس الخريجون بلا وظائف، ويتسرب غير المؤهلين إلى الممارسة، تصبح النتيجة فوضى علاجية تعصف بثقة المرضى، وتحول العلاج الطبيعى من مهنة داعمة إلى أزمة مضافة للقطاع الصحى. الحل الذى تقترحه النقابة يبدو منطقياً، وقف القبول فى الكليات غير المستوفية للمعايير، خفض أعداد المقبولين تدريجياً، تحديث المناهج بما يتناسب مع التخصصات النادرة، وإنشاء سجل لضبط الممارسة، الأهم من ذلك هو إعادة توجيه البوصلة من الهوس باللقب الأكاديمى إلى التركيز على التخصصات التى يحتاجها السوق فعلياً. إن مصر لا تحتاج إلى عشرات الآلاف من أخصائيى العلاج الطبيعى بقدر ما تحتاج إلى ممارسين أكفاء فى مجالات نادرة، وإلى نظام تعليمى يعكس احتياجات الواقع لا أوهام الألقاب، فإذا استمرت الأمور على هذا النحو، فإن لقب "دكتور" سيفقد معناه، وتتحول المهنة من حلم لشبابها إلى عبء على نظام صحى مثقل أساسًا بأزماته.