ليست هذه الصيغة عنوانا فقط بقدر ما هي دعوة مضمرة لأن يعكف الأصدقاء النقاد ومحبو الأدب والنقد والثقافة الجادة والمعرفة الخلاقة على قراءة - أو إعادة قراءة - منجز الناقد الكبير الدكتور مصطفى ناصف أو بمعنى أدق الانخراط من جديد في عالم أوراقه ورؤاه الأصيلة ذات الإشعاع الفاتن المتجدد؛ فقد كان طوال فترة عطائه الممتد لأكثر من نصف قرن ذا بصيرة مستنيرة قادرة على الإلهام طوال الوقت، وصاحب منظوارت مغايرة وحدقة نقدية أكثر اتساعا وأشد عمقا من مجايليه ومن جاءوا بعده أيضا، فمشروعه النقدي المترامي الأطراف لم يركن إلى تمجيد الماضي القريب أو تقديس ما استقر من المعارف الأدبية التي تلقاها جيله على أيدي طه حسين والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم وأمين الخولي وغيرهم من صناع النهضة الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين، بل كان يسعى بدأب لا ينقطع إلى رؤية الحاضر واستشراف المستقبل عبر التجذر فى اللحظة الراهنة والنظر بعمق إلى طبيعتها الحداثية وتحولاتها المتسارعة. وكان الأولى به - وهو تلميذ طه حسين النجيب - أن يفاخر بما أنجزه من كتابات، وأن يظل قابعا فى سنوات مجده، مرتديا ثياب زهوه المقتدر، لكنه آثر أن ينتمي إلى فضيلة المراجعة المتجددة للذات وللمعارف المستقرة ولتحولات العصر ولطبيعة الثقافة المتشعبة في لحظتنا الحاضرة، قائلا في مفتتح كتابه الدراسة الأدبية والوعي الثقافي- الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب هذا العام 2025- "ليطمئن بعض الزملاء ولأذكرهم بعباراة لصلاح عبدالصبور تستحق الذكر في هذا المقام: أجافيكم لأعرفكم.لم يقل لأنكركم. كل امرئ يشتغل بالدراسة الأدبية منذ أكثر من نصف قرن له حق المراجعة، وله حق التطلع إلى التغيير" ولذلك فقد دعا إلى الثورة على الاطمئنان الزائف وإلى إعادة النظر في مفاهيم كبرى كنظرية الأدب والبلاغة والنقد الأدبي والمناهج اللغوية الحديثة وإلى مراجعة آلياتنا القديمة في تأمل النصوص والنظر إليها في ضوء التداخل والتفاعل والحراك المستمر الذي عصف بمعارفنا المحدودة المستقرة حول الحدود بين الأجناس الأدبية والإيمان باستقلالية الأدب وتعظيم دوره دون النظر إليه باعتبارها كلا متفاعلا تتجادل فيه الوقائع والنصوص مع خطابات أخرى متعددة لا تقل عنها فاعلية وتأثيرا بل تفوقها في التغلغل في أنشطة حياتنا ومظاهرها المتنوعة وأنساقها المستترة؛ لذلك فقد دعا إلى أن يتسلح دارسو الأدب ونقاده بالوعي الثقافي الشامل في عصرنا الحديث الذي يتسم بهيمنة التخصص الدقيق في العلوم من ناحية وتداخل المعارف والمناهج والدراسات الإنسانية من ناحية أخرى. ودعا إلى التأمل في فلسفة التعليم الجامعي في الكليات النظرية، وفي طبيعة العلاقة بين الأساتذة والطلاب لذلك نراه يقول في أكثر من سياق - وإن كنت أحيل هنا إلى كتابه الدراسة الأدبية والوعي الثقافي الذي نستشعر معه إننا بإزاء ذات نقدية كبيرة مشغولة بأسئلة النهضة والتقدم أكثر من انشغالها بسؤال التقنية والتخصص - وإن كان لا يقلل من قيمتهما بالضرورة - "فالأستاذة الآن مطمئنون لا يرتابون، والطلاب طائعون وقلوبهم منكرة، .... الطلاب يقرأون اللغة والنحو، وكثير من اللغة والنحو غريب على عقول الطلاب والأستاذة. نحن غالبا نزدرد اللغة والنحو والشعر والأدب والنقد كما يزدرد النعام الحصى ..... نحن لا نتعلم من الطلاب ولا نتعلم من الحياة بمثل ما نتعلم من الكتب والتقاليد. نحن جميعا متفقون على أن نؤلف ما سماه الأستاذ محمود شاكر مزقا مبعثرة تكونت في غرفات ضيقة لا حياة واسعة، هذه أزمة حقيقية لا نشعر بها شعورا مؤلما"ص 15. إن درس مصطفى ناصف الأعظم يكمن في دعوته إلى الثورة الفردية الدائمة على اطمئنان الذات والركون إلى ما تحقق من معرفة وفي دعوته إلى التجدد الدائم والانفتاح على الحياة والأسئلة الحقيقية للحظتنا الراهنة. إن مغزى خطابه النقدي الأخير يتجسد أمامي وكأنني أرى نظراته النافذة وأصغي إلى صوته الجهير قائلا لي : اخرج من غرفتك الضيقة وتحرك مع عالمك المحيط بكل وعي وثقة ومحبة وحياة.