يخلط بعضنا بين النقد الأدبي والدراسة( الأكاديمية) للأدب, خصوصا في مراحل التخصص الجامعي أي الدراسات العليا. حيث انتشر في العالم اليوم ما يشير بعض النقاد والباحثين إليه باسم' وباء' البحوث في الأدب التي تتبع مناهج علمية سليمة, لكنها لا تفصح عن ذائقة نقدية مما عرفته من قبل, قائلا إنه القدرة علي التمييز استنادا إلي موهبة فطرية,( أو حساسية خاصة), وخبرة شاسعة مكتسبة بالآداب واللغات المختلفة, وهو' وباء' اقتضته الحياة الجامعية الحديثة في أمريكا أولا( ثم امتد أو كاد إلي أوروبا وسائر بلدان العالم) وأقصد به نظام الترقي في السلك الأكاديمي الخاص بالعلوم الإنسانية, أو ما نسميه' الآداب' تجاوزا( ومن أشهر من نعاه دييد ورج في كتابه عن كوريولانوس عام2004). وأما أصل هذا الداء الذي أمسي' وباء', فهو نظم البحث في الأدب التي اقتضت توسيع نطاق البحث, بسبب الطبيعة المركبة للنصوص الأدبية, بحيث أصبح يشمل البحث في المجتمع, وفي علم النفس, وفي الفلسفة, وفي الاقتصاد, بل وفي السياسة. ولا غبار بطبيعة الحال علي توسيع النطاق فهو نتيجة طبيعية لتداخل المباحث الإنسانية في عصر غدا من المستحيل فيه الفصل القاطع بين مبحث وسواه, الأمر الذي دعا إلي نشأة ما يسمي النظرية النقدية, ومن بعدها ما أصبح يشار إليه باسم' النظرية' فقط, الأمر الذي دعا فريدريك يمسون إلي الدفاع عن هذا التداخل دفاعا حارا, مطالبا رجال العلم والتعليم بإدراج النظرية في المناهج الخاصة بالعلوم الإنسانية علي اختلافها, ضاربا المثل علي التداخل بعمل ميشيل فوكو, متسائلا هل نسميه فيلسوفا أم عالم اجتماع أم باحثا في اللغة, إلي آخر تلك التخصصات التي لا تفترق إلا لتلتقي في الواقع البحثي, وهو ما دعا تيري إيجلتون الإنجليزي المؤمن بالوضوح والمنطق إلي إصدار كتاب عام2003 بعنوان' بعد النظرية' يناقش فيه ما آل إليه حال التداخل بين المباحث الإنسانية من بلبلة في أذهان الكثيرين, مخصصا فصلا كاملا عنوانه صعود النظرية وسقوطها, يشرح فيه كيف تتغير المفاهيم الثقافية علي مر الزمن, ويذكرنا بما كان ريموند ويليامز يقوله منذ ما يقرب من أربعين عاما. والتداخل محتوم في نظري, لأن النظرة إلي الأدب من زاوية واحدة تسلبه أبعادا قائمة فيه دون شك, ولكن انصباب الدراسة الأكاديمية علي الجوانب الفكرية أو الثقافية للأدب فقط, خصوصا كما ذكرت في رسائل الماجستير والدكتوراه, تمنح الدارس إحساسا زائفا بأنه ناقد أو بأنه سوف يكون ناقدا أدبيا إذا تخصص في بعض جوانب البحث الأكاديمي التي تتعلق بمبحث من مباحث العلوم الإنسانية الراسخة ذات الصلة بالأدب, وأنا أعني تحديدا دارسي اللغات والآداب الأجنبية, فرصد الظواهر الاجتماعية في عصر كاتب من كتاب القرن التاسع عشر في بلد أوروبي مثلا, وإقامة الصلة بين هذه الظواهر وبين ما يكتبه الكاتب, يمثل مدخلا اجتماعيا علميا مقبولا يجمع بين الدراسة الأدبية( بالمعني الدقيق لدراسة النصوص) والمناهج العلمية للتحليل الاجتماعي, ومن ثم فهو مدخل يمكن اعتباره مبحثا بينيا بين الأدب وعلم الاجتماع, ونحن نقبله ونرحب به إذا كان الباحث يملك ناصية اللغة التي يدرس أدبها( وما أقل هؤلاء بين دارسي اللغات الأجنبية) وكان واسع الاطلاع علي مناهج علم الاجتماع الحديثة( وما أكثرها وما أعقدها). غير أننا في الواقع نشهد اكتفاء الباحث بكتاب أو كتابين علي الأكثر مما يحمل أسماء المؤلفين الذين أصبحوا من أيقونات النظرية الأدبية الحديثة التي بهرت عيون بعض من يتطلعون في لهفة إلي كل ما يأتي به الغرب من علم مثل وليا كريستيا التي حققت شهرة ذائعة باستثمارها فكرة باختين عن التناص وقدمتها في أواخر الستينيات في غمار الضجة المثارة حول البنيوية في فرنسا, ومن ثم أصبحت علما هناك أولا ثم في أمريكا, ولكن المتأمل لأهم جانب من جوانب منهجها الذي توهم القارئ بأنه يقوم علي علم النفس( وهي تخلط مثل غيرها بين علم النفس والتحليل النفسي) يجد أنه يدور حول فكرة النبذ أو الإقصاء, وتهميش بعض الفئات, كما تفعل في كتاب لها بعنوان قوي الرعب الذي صدر بالفرنسية عام1980( وقرأته مترجما في نسخته الإنجليزية عام1982) وقد شغلني زمنا طويلا بسبب تحايلها العلمي الذي يستند إلي سعة إطلاع طبيعية, حتي توحي( بحذق شديد) بقضية اضطهاد اليهود في أوروبا, باعتبارها قضية الإقصاء والنبذ الأساسية, وهو ما ذكرني بمحاضرة جورج شتاينر( مؤلف الكتاب الرائع عن الترجمة بعد بابل وكتابه الأشهر موت التراجيديا) حين ألقي علينا في جامعة كيمبريدج عام1987 أثناء المؤتمر الدولي عن الكاتب المعاصر محاضرته التي أعلن فيها أن كل معني للمأساة الحقيقية قد مات بعد المحرقة. ولن أضرب أمثلة أخري للخلط بين النقد الأدبي والدرس الأكاديمي, فمن نعتبرهم أساتذة باحثين في الآداب الأجنبية اليوم في جامعاتنا لا يكادون يولون الخصائص الفنية التي تجعل الكتابة أدبا أو النظم شعرا أي اهتمام, ولا تكاد تشعر فيما يكتبونه أن من يتحدثون عنه شاعر أو روائي أو مسرحي, بل تسمع الكلام المكرر عن المجتمع الذكوري, وخطاب السلطة, وظلم المرأة, وما بعد الاستعمار وما إلي ذلك من المواضيع التي أصبحت سمة غالبة في كل ما يسمي أبحاثا باللغات الأجنبية. إنها موضوعات كما قلت في البداية مهمة, ولكن من يبحث في مظالم المرأة داعية اجتماعي, لا ناقد أدبي, ولذلك وجدنا بعض الدارسات اليوم يخترن كتابا حظهم من الفن قليل أو معدوم, ويدرسنهم ابتغاء الهجوم علي الرجال وتمجيد النساء, وقد سألت إحدي الباحثات هل أعجبتك مسرحية فلانة كعمل فني؟ فأنكرت ثم أردفت:' ولكنني أعجبت بدعوتها إلي إبادة الرجال بالمبيدات الحشرية!' وعندما أبديت دهشتي للأستاذة المشرفة علي الرسالة قالت لي إنها تتبني وجهة نظر نقدية نسوية ولكن لهذا حديثا آخر. لمزيد من مقالات د.محمد عنانى