يوما بعد يوم, وعاما بعد عام, تتكشف جوانب الريادة في دراسات الأدب المقارن- لأول مرة في العالم العربي- علي يدي الدكتور محمد غنيمي هلال الذي رحل عن عالمنا عام 1968. وتتأكد عظمة هذا العالم الذي كان راهبا في محراب علمه وتخصصه, متفرغا لدراساته وأبحاثه وترجماته, بعيدا كل البعد عن شبكة العلاقات الاجتماعية ومساوئها الفادحة التي أبعدته عن كرسي النقد الأدبي والبلاغة والأدب المقارن في كلية دار العلوم ومنحته لمن لا يعرف لغة أجنبية واحدة, وليس له بحث واحد في مجال الأدب المقارن. وهي التي أقصته مرة أخري عن جائزة الدولة بسبب الدس والنميمة والغيرة ممن كشف عن ترجمات جاهلة لأرسطو, فعوقب بحرمانه الجائزة وتقديمها لواحد من خدام الهيكل والمحراب. وها نحن بعد أكثر من أربعين عاما علي رحيله, نستقبل عملا جامعيا جادا بعنوان التأثير والتأثر بين الأدب العربي والآداب الأخري: قراءة في فكر محمد غنيمي هلال, هو في الأصل رسالة ماجستير للباحث ثروت عبد السميع محمد المدير العام للإدارة العامة للمعجمات في مجمع اللغة العربية, وأحد المشاركين بالجهد الموفور في صناعة المعجم الكبير وتحقيق التراث. وقد صدرت الدراسة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, لتعرض علينا من جديد صوت غنيمي هلال وفكره, باعتباره واحدا من الكوكبة الذهبية في حركة النقد الحديث في مصر, تلك التي تضم محمد مندور ولويس عوض وعلي الراعي ورشاد رشدي وعبد القادر القط وشكري عياد وغيرهم, الذين أصلوا لمناهج النقد وتياراته الحديثة, وخاضوا معارك كبيرة وجادة, من أجل تنوير نقدي راسخ الجذور, لا يقوم علي ترديد ما يقوله الأساتذة الأجانب وترجمته ومحاكاته, والتشدق بأنهم يحملون جديدا ويبشرون بحاضر نقدي زاهر, والتعالم بأنهم يعرفون ما لا يعرفه سواهم. ولم يرتفعوا في الأثر والقيمة إلي ما صنعه جيل غنيمي هلال, ولا إلي ما أرسي مبادئه الأولي جيل طه حسين. يطلعنا الكتاب علي منهج غنيمي هلال الأساسي في مجال دراسات الأدب المقارن, معتمدا قضية التأثير والتأثر- من خارج الحدود فكانت مسألة التأثير والتأثر محور دراساته النظرية- والتطبيقية, ملتزما منهج المدرسة الفرنسية, في بحث مسألة الأخذ والعطاء بين الآداب, عن طريق دراسة التأثير والتأثر بين كاتب وآخر, أو عن طريق انتقال الأجناس الأدبية من أدب إلي آخر, أو انتقال المذاهب والتيارات الفكرية, وبيان طرق ذلك التأثر, من خلال دراسة علاقة الأدب العربي بالآداب الأخري, مؤثرا ومتأثرا, كعلاقته بالأدب الفارسي من جهة, وبالآداب الأوروبية من جهة أخري. ولابد من التوقف أمام عدة الباحث في الأدب المقارن كما تمثلت في غنيمي هلال. فهو- بالضرورة- يقف علي منطقة الحدود المشتركة للآداب المختلفة يتأمل حركة سيرها وتبادلها الصلات. فهو يجمع بين دور مؤرخ الأدب وناقد الأدب, والمطلع علي طرق البحث والتحليل والمقارنة, وإجادته للغات الفرنسية والفارسية والإنجليزية بالإضافة إلي العربية, واهتمامه بقضية المراجع والمصادر وتوثيق المعلومات, وهو ما كشف عنه كتاباه الرائدان: الأدب المقارن والنقد الأدبي الحديث. كما يكشف الكتاب عن عمق تأثير هذا الرائد في لاحقيه من أساتذة الأدب المقارن في مصر والعالم العربي, واهتمام غنيمي هلال بالأجناس الأدبية: الشعرية منها: كالملحمة والمسرحية والحكاية علي لسان الحيوان والقصيدة الغنائية. والنثرية, منها كالقصيدة- وكيف تطورت في الآداب الأوروبية, وفي الأدب العربي- والمناظرة والحوار, والمواقف الأدبية, والنماذج الإنسانية في الأدب, والمذاهب الأدبية. كما يتطرق الكتاب إلي التأثيرات الثلاثية العلاقة بين الأدب العربي والآداب الأوربية من جهة, وبينه وبين الأدب الفارسي من جهة أخري. وتعرض الدراسة لعدد من الموضوعات التي تراوحت فيها علاقة الأدب العربي بغيره من الآداب بين العطاء والأخذ, وتنوع تلك العلاقة بالنسبة للموضوع الواحد, إذ شملت عدة آداب كالآداب الشرقية من جهة, والآداب الغربية من جهة أخري مثل: أثر المقامات العربية في الأدب الفارسي والآداب الأوربية, وقصص الحيوان بين عدة آداب, وتأثير موسيقي الشعر العربي في الشعر الفارسي وفي الشعر الأوروبي. ومثل دراسته لموضوع هيباتيا في الأدبين الفرنسي والإنجليزي من القرن الثامن عشر إلي القرن العشرين وموضوع تأثير النثر العربي في النثر الفارسي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. وهما- معا- موضوع رسالته لدكتوراه الدولة من السوربون, ودراسته عن ليلي والمجنون في الأدبين العربي والفارسي: دراسات نقد ومقارنة في الحب العذري والحب الصوفي وكليوباترا في الآداب العربية والإنجليزية والفرنسية, ممهدا الطريق لمن جاء بعده من الدارسين والباحثين. وبالرغم من خفوت صوت المدرسة الفرنسية التي تهتم بقضية التأثير والتأثر في دراسات الأدب المقارن, والتي كان غنيمي هلال من أبرز تلامذتها وممثليها, وظهور المدرسة الأمريكية منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي, التي نقلت مركز الاهتمام إلي تحليل بنية النصوص وتشكلها إلا أن الجهد الكبير لغنيمي هلال في كتبه وترجماته ومقالاته سيظل بمثابة البنية التأسيسية لما جاء بعده من جهود, وهو ما تكفلت به الدراسة الضافية التي قام بها الباحث الجاد ثروت عبد السميع محمد في دأب وإخلاص ومحبة عبر صفحات هذا الكتاب. المزيد من مقالات فاروق شوشة